د.حيدر إبراهيم: سرق الإسلاميون المستقبل وقاموا بتأميم الشعب السوداني

 


 

 

الرقابة منعت نشر الحوار في صحيفة الاحداث

 

د. حيدر إبراهيم علي:(1ـ2)

 

المعارضة إستهترت منتصف التسعينيات وأضاعت زخم التأييد الاقليمي والدولي

 

أين مشاريع المجتمع المدني لمحو الأمية والتنمية الريفية والكتابة للاطفال والتنشيط الثقافي؟

 

دارفور تبدو لي أقرب إلى الإنفصال من الجنوب

 

هل من إمكانية لإحياء الإرادة الوطنية وان تكون الحلول (سودانية ــ سودانية)

 

حوار: صلاح شعيب

  

الأسئلة التي يثيرها (منتدى الأحداث) تهدف إلى معرفة آراء الخبراء، والأكاديميين، ونشطاء المجتمع المدني في بعض القضايا والمواضيع التي فرضت نفسها في واقع الجدل السياسي، بعضها منذ الإستقلال وأخرى جاءت في السنين الأخيرة، ولا زالت معلقة ولم تجد حلولا ناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة. في الأيام السابقة إستضفنا عددا من الناشطين، كل في مجاله، لمعرفة تصوراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي بها يمكن معالجة هذه القضايا، وإشباع هذه المواضيع حوارا بين النخب المتعددة في مشاربها الفكرية والسياسية والإثنية والثقافية والإجتماعية. وسنواصل هذه الحوارات بأمل خلق مساحة لحرية التداول، تتنوع فيها الآراء ليحدد القراء مواقفهم من الإجابات المطروحة بكل حرية وموضوعية سواء من المنتمين إلى هذه التيارات السياسية أو تلك. وإنطلاقا من قاعدة (الحرية لنا ولسوانا) نأمل أن نتيح الفرصة لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون إنحياز، كما نأمل أن تجد كل هذه الآراء طريقها للنشر ليستخلص القراء الكرام المفيد منها في معرفة عمق التباين في أفكار ومرجعيات النخب السودانية في تحليلها عند الإجابة على هذه الاسئلة، والتي هي لا تمثل كل الاسئلة الضرورية التي تشغل ذهن الرأي العام والمنتمين لهذه التيارات. إن الهدف الأساسي من فكرة (منتدى الأحداث) هو تعزيز ثقافة الحوار الديمقراطي حول هموم وأسئلة المهتمين بالقضايا الوطنية، وكذلك تعميق أمر الإعتراف بالآخر، والاستنارة برؤى الناشطين في حقول الحياة السودانية مهما كان الإختلاف الفكري معها. وسيواصل المنتدى في المستقبل التطرق لكل القضايا الحيوية. وفي هذه المساحة نقرأ معا إجابات الدكتور حيدر إبراهيم علي، الأكاديمي، ومدير مركز الدراسات السودانية على أسئلة (منتدى الأحداث):

 

*هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟

 

(ــ)الأزمة ليست في فهم الهوية، ولكن في طرح سؤال الهوية كأولوية في المشروع القومي السوداني، وأيضا تكمن الازمة في الطريقة التي طرح بها السؤال، والظروف التاريخية التي جاء ضمنها. فالإجابات عن السؤال خاطئة لأن السؤال في أصله خطأ. فمن البدء لا يوجد تعريف جامع ومانع، وشامل، وعقلاني، وعملي للهوية، ولابد من الوقوع في تعريف جوهراني، وتجريدي، ولاتاريخي وثقافوي.

 

وهذه هي التعريفات المتداولة في النقاش. لذلك نلاحظ أن بعض المتقعرين قد وصلوا الى حل هروبي في تعريف العروبة بأنها لسان، وذلك على إعتبار أن من تحدث العربية فهو عربي، ولكن عروبة العقل الشعبي، والقريب منه لابد أن تنحو إلى تأكيد وجود العباس سنداً يختم شجرة النسب، ويخرجها من الزنوجة، والعجمة، وأحضان مرجان، وجعران رغم الاصالة الأكثر لدى هؤلاء. وفي التعريف السوداني ليس هناك أي فكاك بين العروبة والاسلام، وهم ليسوا استثناءً، فقد إندهش قبل ذلك العقيد القذافي من مسيحية جورج حبش وعروبته (ونايف حواتمة وبالتأكيد عفلق). وإنزلقت أزمة دارفور من شقوق هذا الفهم: مسلم، وغير عربي، كيف يتعايش مع الكامل التام؟

 

من الناحية الأخرى من يعرف نفسه بانه أفريقي، فهو يعرف بالجغرافيا أو اللون، ويظن أنهما ثقافة وبالتالي هوية، ففي البحث عن الضد أو البديل المقابل يقع أصحاب هذا التعريف الهويوي في ظلام هو لون القارة. فالأخ فرانسيس دينق ليس أفضل حالاً من الشمالي المنتسب قسراً الى العرب. فالهوية الدينكاوية اكثر تماسكاً من أفريقانية بلا ضفاف. كما أن اللون لا يكون هوية مطلقاً، وقد احبط الزنوج الامريكيون التقدميون حين رفضهم الافارقة، وتشككوا في تضامنهم حين جاءوا لغرب افريقيا مع صعود أفكار التحرر الوطني الافريقي.

 

*وهل للبحث عن الهوية وظيفة عملية محددة في تحقيق التقدم الاجتماعي والنهضة او حتى في قيام دولة وطنية قوية؟

 

 

(ــ)للمفارقة أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الامريكية متعددة ثقافياً ولا يوجد بالمرة ما يسمى بالامريكي الأصيل مثل "السوداني الأصيل" كريم المنبت. ومن ناحية أخرى، هل التعرف على هوية يجعل منا منتجين يحققون التنمية بسبب أصولهم او اثنيتهم؟ يظل سؤال الهوية سؤال أزمة، لأنه يرتفع عندما نصطدم بجدار التخلف باشكاله المختلفة.

 

لم تنجز النخبة المتعلمة مشروع الدولة السودانية بسبب فهم الهوية ولكن لأنهم وجدوا وهماً اسمه السودان ولم يكونوا في مستوى تحدي تحويل الوهم إلى حقيقة وواقع. فهذه الرقعة المكانية التي يشغلها السودان الحديث الحالي، لم تشكل – بصورة دائمة ومستمرة – دولة او مجتمعاً او ثقافة موحدة. فمنذ الأسر الفرعونية كانت حدودهم الجنوبية (السودان او اثيوبيا او نهو او كوش او النوبة – بإختلاف التسميات) مجالاً حيوياً (Lebensraum) للدولة القوية في الشمال. لذلك، كانت تلك المنطقة ميداناً للغزوات والحملات العسكرية والتهجير، ولم يتمكن أهله من الاستقرار الآمن المستمر والمتراكم حضارياً. ولم توحد المسيحية هذا الكيان والذي عرف ثلاث ممالك رغم الفرضية السائدة بأن الدين عامل توحيد. أما بعد دخول العرب والمسلمين في القرن السابع، فقد تم تقنين وشرعنة عملية الإقتلاع والإفراغ من خلال إتفاقية البقط سيئة السمعة، والتي ثبتت نقل 360 عبداً قادراً كل عام لأكثر من ستة قرون أي حتى القرن السادس عشر. ومنذ دولة الفونج وحتى صراع المسيرية والرزيقات الحالي لم تتوقف النزاعات القبلية. فكيف تنجز النخبة مشروع الدولة السودانية إذا لم تكن تملك قدرات فكرية وسياسية تنظيمية وادارية عالية وراقية المستوى؟

 

*وهل ترى أن هناك إمكانية في المستقبل لتجاوز هذه الإشكاليات التي ربطتها بأمر الهوية؟

 

 

(ــ)المستقبل عادة يبدأ الآن وهنا، فهو لا يأتي من الرغبات والأمنيات. لذلك أصبح الحديث عن المستقبل وإستشراف الغد مجرد تفكير رغائبي، وبالتالي نستخدم مصطلحات غير عقلانية ولا موضوعية: التفاؤل، التشاؤم، التشاؤل، ماهو التراكم السياسي والفكري والثقافي الذي يمكن ان ينتجه الواقع السياسي الراهن؟ السلطة الحالية تمثل التوأم السيامي ذات رأسين (فكريين) وجسد واحد (حكومة، برلمان، سلطة.. الخ) وهناك معارضة اضاعت مستقبلها حين استهترت بالتجمع الوطني الديمقراطي منتصف التسعينيات وأضاعت زخم التأييد الاقليمي والدولي بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، ثم تركت الحركة الشعبية تنفرد بمباحثات السلام ولم تقنع المعارضة العالم او حتى الحركة الشعبية بوزنها في المعادلة السياسية. ويشهد الواقع السياسي نظاماً جامحاً "يقطر" شريكه المستسلم والحائر وينفذ سياسات التمكين ونهاية التاريخ بإستلام الإسلامويين للسلطة. فهذا النظام الجامح الجرئ لا يجد في طريقه غير معارضة عقيمة ومخصية لأنها لم تخصّب الشارع والجماهير، وعجزت عن حشد موكب شعبي سلمي يعارض غلاء المعيشة. وإنفض موكبها الشعبي اليتيم قبل ان يبدأ ! وجعل العجز الذاتي الاحزاب تأكل نفسها في شكل إنقسامات متتالية بلا خلافات فكرية وسياسية تبرر وجود هذه الاجنحة. والآن تسجل قرابة السبعين حزباً فهل توجد اختلافات حقيقية في برامج وآيديولوجيات ورؤى كل هذه الحشود الحزبية؟ ليست هذه تعددية حزبية بل تضخم حزبي ولا تحسب الشحم في من شحمه ورم!

 

كان تفتح بذور المجتمع المدني في التسعينيات بشارة مفرحة لظهور رافد ديمقراطي مستقبلي جديد، ولكن:

 

كلما أنبت الزمان قناة*ركب المرء في القناة سناناً

 

فقد ركّب السوداني في القناة الجديدة سناناً وتحول المجتمع المدني الى ظاهرة سودانية بكل ما يعني ذلك من شللية واقصاء وتكويش واغتيال شخصية ومجالس نميمة. وتحولت الظاهرة الجديدة الى مشروعات جالبة لمال وموضات رائجة، اتفاقية السلام الشامل تعقبها دارفور وتمسحها الانتخابات. ولا تعرف منظمات المجتمع المدني التخصص والمجالات الجديدة غير المربحة أي على سبيل المثال مشروع لمحو الأمية او التنمية الريفية او الكتابة للاطفال او التنشيط الثقافي. وأخطر مافي الأمر الاحتكارية وظهور قبيلة مجتمع مدني تتعصب لأهلها ظالماً او مظلوماً.

 هذه ظاهرة مستقبلية وقعت في المستنقع السوداني واعطاها كل صفاته السالبة.

 

نحن ببساطة أمة بلا مستقبل، اضعنا فرص المستقبل والانطلاق اكثر من مرة: الاستقلال، ثورة اكتوبر 1964، وانتفاضة ابريل 1985 واتفاقية السلام الشامل يناير 2005. والتاريخ لا يعيد نفسه، دعنا نكمل دورة الانهيار بلا نقصان ونفكر منذ الآن في اعادة بناء، فالموجود الآن لا يمكن اصلاحه. لقد سرق الاسلامويون المستقبل وتم تأميم الانسان السوداني تحت شعار اعادة صياغة الانسان السوداني. المستقبل أدواته العقل والمعرفة والاقتصاد والقيم، وكل هذه المكونات خربت او استولى عليها: نظام تعليمي يعتمد الجهل بشهادات من كل المستويات، عقل غيبي خرافي حيث يتعالج الطبيب نفسه بالاعشاب والمحاية، كما ان الشياطين تتجول معنا وتجالسنا وتنافسنا، واقتصاد طفيلي فاسد أقرب الى مصباح علاء الدين حيث يأتي الثراء في ليلة واحدة ! هل تعرف مستقبلاً لا يصنعه العقل والعلم والتكنولوجيا والانتاج والابداع؟ وهذه هي الفروق بين اليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية من جهة والسودان واليمن وموريتانيا والصومال من جهة أخرى.

 

أنت هنا كمن ينوي بحث موضوع العقل السوداني لمعرفة التعقيدات التي تلازمة فيما خص تعامله مع القضية الوطنية، هل يلزمنا عمل مقاربة لإسهامات الدكتور محمد عابد الجابري حول العقل العربي..؟

 

(ــ) العقل السياسي السوداني عجيب حقيقة، يصنع الأزمة بنفسه ويعقدها ويصعبها وحين تكتمل الأزمة، يشرع ويهرول في البحث عن حل لأزمة هو جزء منها. ولذلك لا يحاول ان يحل الأزمة بقدراته الذاتية ويجري بحثاً عن الوسطاء والضامنين في الدوحة ونيفاشا ومشاكوس ولاهاي والكفرة وابوجا. افتقد السودان الارادة الوطنية، فجاءت نيفاشا غير سودانية نتيجة ضغوط حقيقية خارجية. ويكفي انه خلال المفاوضات ان اغلق المضيف الكيني أبواب مقار الجانبين ومنعهم من الخروج ان لم يوقعوا.

 

عيب كبير وخلل قاتل ان نعتمد على الخارج في حل مشكلاتنا وفي نفس الوقت لا نتوقف عن الحديث عن السيادة الوطنية. هل يمكن ان تحصي الوفود القادمة والمغادرة/الى ومن السودان خلال شهر؟ حكماء، وسطاء، مندوب او ممثل شخصي وغير شخصي، المؤتمرات لا تتوقف، ووفود ومنظمات تعودت على أكل أموال اليتامى، فهي تقيم في برج الفاتح لمساندة السودان ولا ترى أي معسكر للنازحين. السودان يستورد حلوله وسياساته من الخارج، وليس فقط سلعه الاستهلاكية. لذلك أزمة دارفور هي من تجليات أزمة السودان ككل. لم يسأل السودانيون بالذات الحكام لماذا ظهرت أزمة دارفور متزامنة مع اتفاقية السلام الشامل ؟ جواب المؤامرة والاستهداف سخيف وساذج، ببساطة انفتح الباب امام امكانية تعميم نموذج نيفاشا على كل السودان. ولكن النظام لم يكن مقتنعاً باتفاقية نيفاشا وقبلها على مضض وألقى سلاح القتال واخرج سلاح المماطلة واللعب بالزمن والمغالطات الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً في الجنوب والسودان. تبدو لي احياناً دارفور اقرب الى الانفصال من الجنوب عام 2011 ان لم نسرع – بجدية وصدق – في الوصول الى حل خلال هذا العام.. فقد بدأت الأزمة في دارفور متسارعة وسريعة مقارنة بمشكلة الجنوب فقد جاءت في عالم العولمة والاستقطاب والمصالح السافرة.

 

يصعب ان يتوصل الاسلامويون الى سلام دائم في دارفور لأسباب عدة، على رأسها هاجس دور الشيخ حسن الترابي في اشعال الأزمة. ثانياً يمارس الاسلامويون السياسة البريطانية: فرق تسد، في التعامل مع الفصائل الدارفورية. ثالثاً، غرور التمكين وبامكانية الحسم العسكري المباشر او غير المباشر. رابعاً، تشاد وفرنسا هل من تسوية ؟ وأتسائل: هل من الممكن وقف هجرة مشلاكتنا الى الخارج ؟ هل من امكانية لاحياء الارادة الوطنية السودانية وان تكون الحلول سودانية – سودانية ؟ الازمات العديدة يجب ان تعود الى جذورها: مشكلة السودان او الأزمة السودانية كيفية الطريق الى النهضة والحداثة ؟ وهذه هي شفرة التنمية، الديمقراطية، السلام، الوحدة الوطنية، التقدم الاجتماعي، وحل مشكلة دارفور وغيرها من مشاكل قادمة في جنوب كردفان او أبيي او الشرق.

 

*الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟

 

(ــ)لا أظن أن الانتخابات ستقوم لو استمرت الظروف الراهنة. فالشريكان لا يريدان الانتخابات. والمؤتمر الوطني سيقوم بكل الاستفزازات والخروقات لكي يجبر الآخرين على المقاطعة. ومن ناحية أخرى ممارسة التزوير لو قامت الانتخابات. افسدت الانتخابات الايرانية سيناريو الاسلامويين لإنتخابات السودان القادمة. الكل يخاف الانتخابات وفي نفس الوقت يزايد على ضرورتها. والانتخابات ليست مفتاحاً سحرياً لحل المشكلات وإحداث التغيير الجوهري – كما تسأل، بل العكس تأتي الانتخابات هذه المرة في ظروف انحطاط سياسي وثقافي وفكري وروحي لم يعرفه السودان طوال تاريخه. فلو كانت اوروبا عرفت عصر النهضة وأعقبته الثورة الصناعية والديمقراطية والاصلاح الديني. فالسودان يعيش الآن عصر الانحطاط الشامل وهذا ما سيلون اجواء وخواتيم الانتخابات لو قامت.

 

الاحزاب السودانية مع امراضها الخاصة وقصورها الذاتي، هي جزء من الثقافة السودانية العامة. ولذلك تتسم بالعقلية الانشطارية والانقسامية وعدم القدرة على العمل الجماعي (وهو غير العمل القطيعي – نسبة للقطيع). وبالتالي يصعب عليها تكوين جبهة موحدة لها مرشح واحد. اولاً من سيكون هذا المرشح الوحيد المجمع عليه ؟ ثانياً: هل وكيف نضمن التصويت له بالتزام كامل ؟ ثالثاً: هل الفروق واضحة بين المؤتمر الوطني وبعض القوى المعارضة حين يتعلق الأمر ببرنامج يدعو للشريعة والاسلام ؟

 

الانتخابات ليست مجرد وضع ورقة اختيار داخل صندوق الاقتراع، ولكن تسبقها عملية طويلة من الفعل الديمقراطي ورفع الوعي للدفاع عن الديمقراطية. اين هو هذا النشاط الديمقراطي والحراك بين الجماهير وتحريكها ام تكتفي القيادات بامكانية «تشغيلها» بمحرك على بعد قبل الانتخابات بساعات؟ احياناً تبدو لعبة الانتخابات وكأنها نسخة على أرضية مختلفة كمنافسة كروية هلال مريخ موردة. الانتخابات شكلانية تماماً ثم تصور بلد لا يستطيع تمويل انتخاباته الوطنية ويتسول الاموال من المانحين في الغرب الكافر ويتمنى المبالغ المطلوبة ويقدرها بـ1.1 مليار دولار. ومفوضية انتخابات على رأسها شموليون لم يعرف عنهم التعامل مع نظم ديمقراطية. وتعداد تحاصره الشكوك. وصحافة مقيدة برقابة قبلية. وبقايا قوانين الطوارئ تطل برأسها عند الضرورة ويمكن ان تحد الحق في التجمع والكلام والحركة.

 

6/ خيبة الأمل الكبرى بعد اتفاقية السلام الشامل كانت الحركة الشعبية، فقد استهلت عودتها بعدد من الاخطاء الاستراتيجية تعاني منها الآن وستظل تعاني منها باستمرار. أولها فكت ارتباطاتها مع حلفائها وميثاقها اعني التجمع الوطني الديمقراطي رغم عيوبه، ولكن تأكيد استمرار علاقاتها ولو لفظياً، كان سيحميها من استفراد المؤتمر الوطني. ثم احياء ميثاق الاتفاق حول القضايا المصيرية بأسمرا لتقوية موقفها من اتفاقية نيفاشا. ثانيها باع أهل المؤتمر الوطني فكرة انهم الضمانة الوحيدة لمكاسب الحركة الشعبية واي خلاف معهم سوف ينسف الاتفاقية. وقد ساعدت تحفظات بعض احزاب المعارضة وبالذات السيد الصادق المهدي على الاتفاقية في ترسيخ هذا الوهم لدى الحركة. ثالثها، بدأت الحركة الشعبية التنازلات مبكراً وقام المؤتمر الوطني بعملية قتل القط ليلة الزفاف ! وذلك في الصراع حول وزارة النفط والطاقة عند تشكيل الوزارة وتنازلت الحركة الشعبية عن الوزارة المخصصة لها حسب الاتفاق. رابعها الاداء الضعيف وغير المسؤول لحكومة الجنوب يضاف الى ذلك أداء بعض وزراء الحركة في الحكومة المركزية. كانت نتيجة الاخطاء هي: لم تعد الوحدة جاذبة وأصبح السودان يحكم بشريك ماكر ولعوب وآخر عاجز وحائر هو الحركة الشعبية. ثم تبع ذلك زوال وهج شعار السودان الجديد. فهل يمكن ان نبني سوداناً جديداً بعقل قديم؟ وقفت بعض قيادات قطاع الشمال داخل الحركة الشعبية ضد دخول عناصر تقدمية وديمقراطية الى الحركة ولكي ترفدها بافكار وقدرات تنظيمية جديدة. وأظن ان تلك القيادات خشيت على امتيازاتها الآتية من ندرة وجود العناصر الشمالية داخل الحركة وعندما يكثر الشماليون تختل عملية العرض والطلب وتقل قيمتهم بسبب الكثرة ! ومن ناحية اخرى، صرح بعض القياديين بانهم لن يحاربوا للشماليين معركتهم وهل معركة التحول الديمقراطي معركة شمالية.

 

أذكر في يناير 1996 ذهبنا الاخ فاروق محمد ابراهيم وانا الى اسمرا لمقابلة د. قرنق، وسمح لنا بأمسية كاملة او ليلة لمناقشة هل الحركة قومية ام اقليمية ؟ وأكد بحماس على قوميتها. وكان الرأي الثاني، فهي بالتالي امتداد لبرامج الثورة الوطنية الديمقراطية والتي نشأت نهاية الاربعينيات من القرن الماضي وهكذا تكون فكرة السودان الجديد جزءاً أصيلاً وممتداً لبرنامج الثورة الوطنية الديمقراطية. واتفقنا على ان يعقد مركز الدراسات السودانية ورشة عمل للحوار وبدأ اتصال أولي للتنفيذ ولكن بعض الشماليين في الحركة الشعبية قطعوا وعطلوا وسائل الاتصال واجهضوا الفكرة، فقد كانوا في ذلك الوقت فرحين بتأسيس لواء السودان الجديد وخشوا من ان توقف تلك الفكرة انطلاق مولودهم.

 

لذلك رأيت من المستحيل قيام سودان جديد بعقل قديم، والآن انشغل الحركيون بمعاركهم الجانبية والوقتية مع شريكهم اللئيم واندثر شعار السودان الجديد الا في بعض الصحوات والمناسبات. علينا ان نتقبل ما صنعنا هو حتمية الانفصال عام 2011 وسيكون هناك سودانان: أحدهم سودان قديم في الجنوب، والآخر اكثر قدماً في الشمال.

  

منتدى(الأحداث 9)

 

د. حيدر إبراهيم علي:(2ـ2)

 

قياداتنا تتمحور حول الإدعاء، والتعالي الفارغ، وإنفصام الفكر والسلوك والخواء الفكري والروحي والنرجسية

 

على رأس مفوضية انتخابات شموليون لم يعرف عنهم التعامل مع نظم ديمقراطية

 

من المستحيل قيام سودان جديد بعقل قديم

 

سيكون هناك سودانان: أحدهما قديم في الجنوب، والآخر اكثر قدماً في الشمال.

 

إتفاقيات السلام لن تحدث تحولات ثقافية واجتماعية عميقة تتجاوز الانقسامات الإثنية والجهوية

 

حوار: صلاح شعيب

 

الأسئلة التي يثيرها (منتدى الأحداث) تهدف إلى معرفة آراء الخبراء، والأكاديميين، ونشطاء المجتمع المدني في بعض القضايا والمواضيع التي فرضت نفسها في واقع الجدل السياسي، بعضها منذ الإستقلال وأخرى جاءت في السنين الأخيرة، ولا زالت معلقة ولم تجد حلولا ناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة. في الأيام السابقة إستضفنا عددا من الناشطين، كل في مجاله، لمعرفة تصوراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي بها يمكن معالجة هذه القضايا، وإشباع هذه المواضيع حوارا بين النخب المتعددة في مشاربها الفكرية والسياسية والإثنية والثقافية والإجتماعية. وسنواصل هذه الحوارات بأمل خلق مساحة لحرية التداول، تتنوع فيها الآراء ليحدد القراء مواقفهم من الإجابات المطروحة بكل حرية وموضوعية سواء من المنتمين إلى هذه التيارات السياسية أو تلك. وإنطلاقا من قاعدة (الحرية لنا ولسوانا) نأمل أن نتيح الفرصة لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون إنحياز، كما نأمل أن تجد كل هذه الآراء طريقها للنشر ليستخلص القراء الكرام المفيد منها في معرفة عمق التباين في أفكار ومرجعيات النخب السودانية في تحليلها عند الإجابة على هذه الاسئلة، والتي هي لا تمثل كل الاسئلة الضرورية التي تشغل ذهن الرأي العام والمنتمين لهذه التيارات. إن الهدف الأساسي من فكرة (منتدى الأحداث) هو تعزيز ثقافة الحوار الديمقراطي حول هموم وأسئلة المهتمين بالقضايا الوطنية، وكذلك تعميق أمر الإعتراف بالآخر، والاستنارة برؤى الناشطين في حقول الحياة السودانية مهما كان الإختلاف الفكري معها. وسيواصل المنتدى في المستقبل التطرق لكل القضايا الحيوية. وفي هذه المساحة نقرأ معا إجابات الدكتور حيدر إبراهيم علي، الأكاديمي، ومدير مركز الدراسات السودانية على أسئلة الجزء الثاني لـ (منتدى الأحداث):

  

*هل ترى اي غياب في القيادة السياسية المجمع عليها والقادرة على وضع التصورات الفكرية لما ينبغي ان يكون عليه واقع الدولة السودانية؟

 

(ــ) كان موقفي الناقد للأحزاب وقياداتها السياسية نظرياً، ولكن عرفتهم عن قرب خلال فترة المنفي والعمل في الخارج خلال الفترة 1990 حتى 2001 ثم بعدها في الداخل مجدداً. وكانت نتيجة هذه المعرفة المباشرة أنهم فقدوا رصيدهم الضئيل أصلاً من الاحترام والأمل. تكاد صفات الجمود وغياب الخيال والرياء والضحالة والمناورة تكون صفات فهي تتميز بقدر كبير من الادعاء، والتعالي الفارغ، وإنفصام الفكر والسلوك، والإحتيال لتمويه الخواء الفكري والروحي والنرجسية.

 

وجدت مسرحاً سمجاً يملأ خشبته المهرجون والحواة وبالعو الأمواس ومرقصو القردة. ووجدت آنذاك في مونولوج كبير الرحيمية، حارة التمبكشي، خير وصف لتلك المهزلة، وكنت أردد مع بعض الأصدقاء:

 

كان في ثلاثة في حارة التمبكشي

 

اتنين عمي.. وواحد ما بشوفشي

 

لقوا تلات ريالات.. اتنين براني وواحد ما بسرشي

 

اشتروا بيهم تلات وزات.. اتنين طارن وواحدة ما رجعتشي

 

دخلوهم الفرن.. اتنين حرقوا وواحدة ما طلعتشي

 

لما كلوهم زعلوا من بعضهم..

 

وحيزعلوا من آيه ؟ اذا كل اللي اتقال ما حصلشي

 

من العبث الحديث عن هذه القيادات بجدية، قيل لمظفر النواب: لماذا شعرك بذئ؟ فرد على السائل: أرني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه؟ وقد يقول المرء هنا، أرني موقفاً أكثر عبثية وكوميديا سوداء مما نحن فيه لكي أقول ماهو أكثر جدية؟

 

الزعامات: زعيم تلبسه وهم الكونية والعالمية لذلك غلّب انه زعيم كوزوموبوليتان (Cosmopolitan) رغم إنتمائه لطائفة شديدة المحلية حتى داخل الوطن. يقال إن العالمية – على الأقل في الأدب وجائزة نوبل – هي القدرة على التعبير عن المحلي. يهمه تقديم محاضرة عن المياه العذبة في روما أكثر من حفر بئر للشرب في مناطق نفوذه في الغرب خلال ثلاث سنوات من الحكم (86 – 1989).

 

زعيم آخر يتسلى بلعبة صراع الديكة في حزبه ويضحك في كم قفطانه في حبور وسعادة. وكلما تكاثرت الصراعات زادت اللعبة إثارة ومتعة والقى فيها بمزيد من حطب الخلافات.

 

الزعيم الثعلب كلما خفتت عنه الاضواء كسر الظلام والصمت بتصريح سياسي متفجر وإن لم يجده فجراب الفتوى ملئ بالاثارة و(Striptease) الديني.

 

قيادات إنتقلت بسهولة من عقلية بيوت الاشباح الى الحديث عن اكتساح الانتخابات «النزيهة والحرة» ومعهم حديثهم المر والاستفزازي والذي لا يحترم احداً والقدرة على تطبيع الكذب والفساد. زعماء الكهوف واساطير الأولين مع التعالي والادعاء بسدانة المعرفة والتحليل والعلم. قيادات لأحزاب تتساوى عددية اللجنة المركزية او المكتب السياسي مع عدد العضوية والجمعية العمومية. المسرح السياسي رماد شامل وحصاد هشيم فهل يخرج طائر فينيق من هذا الركام والرماد؟

 

*هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الإثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟

 

(ــ)ماهي مظاهر الهمة القومية منذ الاستقلال؟ وماهي البرامج والسياسات التي سعت الى وجود سودان تعددي متسامح ومستقل التنمية وعادل في توزيع الموارد؟

 

تم تكريس الانقسامات القبلية والاثنية بطرق مختلفة من أهمها التوزيع الجغرافي للدوائر الانتخابية والذي هو في حقيقته توزيع قبلي. فمنذ انتخابات 1953 تسمى بالدوائر الانتخابية – على سبيل المثال: بقارة عرب، دار مساليت شمال وجنوب، نظارة الفونج وشمال الفونج، الحلاوين، سنار كواهلة جوامعة شرق، دار حمر، الجبال الوسطى، البديرية، دار حامد، الكبابيش، حمر الجنوبية، جوامعة غرب، المسيرية الزرق، الهدندوة، الامرأر والبشاريين، الشلك، النوير، مورو.. الخ وحين تغيرت التسميات – شكلياً – احتفظت العوائل القبلية بدوائرها المغلقة (المقفولة) مثل زاكي الدين، الصديق طلحة، يوسف العجب، عائلة هباني ومادبو وبحر الدين وحمد الملك، والشيخ ود بدر علي التوم، ابو سن، الهندي، محمد ابراهيم فرح، سرور رملي، نقد الله، بابو نمر، ترك، المكاشفي.. الخ

 

لم يتم دمج العناصر السودانية في وطن واحد ولكنها كيانات قبلية متجاورة. وخسرت القوى الحديثة معركتها مع القبلية والاثنية، فالنميري الذي تبنى شعار ثورة اكتوبر بتصفية الادارة وأصدر قرارات فوقية اعاد في النهاية الادارة الأهلية. والنظام الاسلاموي الحالي عاد الى جاهلية القبيلة بقوة بسبب انتهازيته اذ وجد فيها البديل للانتماءات الحزبية والايدويولوجية. فعمل على تقوية الولاءات القبلية وفي كثير من الأوراق الرسمية الآن توجد خانة لبيان القبيلة. فقد أعادوا السودانيين الى علاقات أولية تقليدية – يسميها بعض الانثروبولوجيين بدائية.

 

وهذا بالتأكيد على حساب علاقات المواطنة والحوار والعمل والمهنة خلافاً لعلاقات الدم والمصاهرة والقرابة.

 

دخل الدين بقوة في تحديد العلاقات القومية، وفي داخله ايضاً تشققات أخرى من خلال اختلافات الطرق الصوفية والمذهبية ايضاً. وللدين في تجلياته المختلفة دوره في المساعدة من الهروب امام تحديات الحداثة والتغيير الاجتماعي. إذ يعطي بعض الأمن والملاذ للخائفين من رعب الحرية والاختيار بإعطائه الأجوبة الجاهزة والمريحة واعفاء الفرد من قلق البحث والشك. تظهر تضامنية صوفية او دينية لكنها لا ترقى الى التضامنية القومية العابرة لحدود الطريقة او العقيدة او القبيلة. ولا اعتقد ان اتفاقيات السلام سوف تنجح في احداث تغييرات وتحولات ثقافية واجتماعية عميقة تتجاوز الانقسامات الأثنية والجهوية. بل العكس، فالنظام الفيدرالي هو «تحديث» ومأسسة للقبلية في شكل مختلف. فالسودان موعود بتنامي ظاهرة الأثنية والجهوية طالما غاب المشروع القومي الوحدوي متعدد الثقافات. وفي صحف اليوم 15/6/2009، صدام بين قبيلة لو نوير وجيكاني نوير (لاحظ قبيلة واحدة) راح ضحيته 40 شخصاً.

 

ألاحظ استخدامنا لمصطلحات ومفاهيم غير دقيقة في السياق السوداني، كما في السؤال، مثل "فكر" الاحزاب والتنظيمات السياسية، القواعد، القيادات. هذه تسميات فيها بعض التجاوز ولكن نقبل بها رغم ذلك في هذا الحوار. فالاحزاب الكبرى لا تحتاج لفكر كما ان قواعدها لا تطالبها بذلك. فهل تظن ان حزب الأمة يوزع برنامجه على الناخبين في الجزيرة ابا، او الحزب الاتحادي الديمقراطي على جماهيره في سنكات ثم يدور نقاش واختلاف ؟ الحالة السودانية فريدة وغريبة، فهي تطلق اسم الديمقراطية على البرلمانية، واسم الحزب على الطائفة، واسم القيادات على ابناء وبنات الامام او مولانا. وقبل ايام أعلن حزب المؤتمر الوطني "انسلاخ" حوالي ستة آلاف من الاتحاديين وبقياداتهم من الحزب الاتحادي الديمقراطي وانضموا للمؤتمر الوطني. ونقرأ الآن السيد فتحي شيلا القيادي بحزب المؤتمر الوطني وبعد سنوات في نفس الموقع في الحزب الاتحادي والتجمع الديمقراطي في الخارج وبعد ان خرق آذاننا بـ:سلم تسلم، سلم مفاتيح البلد. والمرحوم احمد سليمان من مؤسسي الحزب الشيوعي السوداني الى قيادي في الجبهة الاسلامية القومية. والفريق عبدالرحمن سعيد من القيادة الشرعية ليلقي كلمة ضافية وحماسية في ذكرى انقلاب 30 يونيو الذي أطاح به من الجيش وشرده في الخارج. والسيد الصادق المهدي من الديمقراطية عائدة وراجحة الى التراضي الوطني مروراً بتهتدون.

 

يا صديقي لا تبحث عن المواقف الثابتة والجماهير الوفية فكل هذا لا يوجد الا في ذهنك فقط. وفي النقطة الأخيرة لابد لنا من اعادة النظر في رومانسية التغزل في الشعب السوداني وصفاته. وهذه شعبوية ساذجة – ان صح تحريف مفهوم شعبوية الذي توصف به نظم جماهيرية اقرب الى المستبد العادل امثال بيرون في الارجنتين – واقصد بها هنا تمجيد الشعب بلا شروط وتحفظات. نحن نكرر شعبنا عظيم وننسب الى الاستاذ محمود محمد طه قوله: شعب عملاق يحكمه اقزام. ومن المفارقة، كانت هناك حشود جاءت لكي تتفرج على اعدام الاستاذ بتهمة الردة ورددت هتاف: الله اكبر ! حين اعدم.

 

أي شعب هو مادة خام او كتل صماء من البشر اذا لم يتم نشر الوعي بينه وتنظيمه وتحديد اهدافه القومية. لقد اهلمنا هذا الشعب في الفترة الاخيرة ولم يعد هذا الشعب يحتج او يرفض او يتمرد او يصرخ. صحيح خرجت كثير من الكوادر النقابية والمثقفين ولكن هذه الفترة أليست كافية لاحلال عنصر جديد. حتى الاتحادات الطلابية يسيطر عليها الآن الاسلامويون، وعذر تزوير الانتخابات مرودود لانه لو حدث فلابد ان يقاوم ويكشف. النظام الحالي لا يحترم شعبه فلابد ان يفرض الشعب الاحترام، اذ نلاحظ ان النظام لا يهتم بأي اتهامات او نقد من الداخل ولكن اي كلمة تصدر من مؤسسة أجنبية مهما كانت قيمتها، يهتم بها النظام وعلى مستوى آخر، لم تعد الحكومة تهتم ببرمجة قطوعات الكهرباء واعلانها على الناس وذلك لانها تعلم ردود فعلهم. وهذه من مظاهر اعادة صياغة الانسان السوداني أي سلبه القدرة على الاحتجاج والمعارضة وتأكيد كرامته وحقوقه.

 

لا توجد قيادات ولا قواعد ولا فكر، هذا سديم سياسي بلا ملامح وهو ايضاً من سمات عصور الانحطاط.

 

*أيهما أقوى تاريخيا في تجربة دولة ما بعد الاستقلال: صراع الهوامش الجغرافية مع الجولة المركزية، أم صراع الآيدلوجيا والدولة؟

 

(ــ)هذا السؤال تمت الاجابة عليه ضمناً في الاسئلة السابقة. واكرر غياب الدولة، اذ لا يمكن قيام انقلاب بثلاثمائة عسكري أغلبهم من السلاح الطبي والمدنيين المرتدين لزي عسكري. والانقلاب يلغي الاشكال الجبنية السابقة للدولة بالفصل التعسفي والتسريح لعناصر مكونة لجهاز الدولة تم تعليمها وتأهيلها بأموال الشعب لتخدمه. ويقوم الانقلاب الجديد (بثورة تعليمية) تلغي المناهج والكتب المدرسية وتغيرها في شهور قليلة قد تكون خلال العطلة المدرسية. وهذه الدولة غير المكتملة تقوم بفرض اللبس على المرأة وبتحديد مواعيد الاستيقاظ والنوم ولكن تعجز عن اجلاس تلاميذ المدارس ولا توفر لهم الكراسي والكتب.

 

بعد الاستقلال كانت دولة السيدين والرخص التجارية والمشاريع الزراعية. ثم (دولة النميري) الذي احتفل بعيد ميلاد لينين المئوي عام 1970 وبعد عام 1983 كان يفخر بعدد الايدي التي قطعها بعد قوانين سبتمبر. وأخيراً انتظرنا من المشروع الحضاري دولة المدينة فاوصلنا الى الامنوقراطية والجوكية وخليك سوداني. أين الدولة في كل هذا حتى نتحدث عن قوتها او ضعفها او صراعها ؟

 

*المثقف سوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟

 

(ــ)رغم ان الاخ د. عبدالسلام نورالدين مهد لنا بتعريفات للمثقف الا أن حتى لها شئ متبقي. لا أريد ان اكرر ما قيل وأميل لتعريف اجرائي فضفاض يفرضه الاستخدام والفهم السودلانيين إذ نستطيع "مط" المفهوم تاريخياً ليشمل الشيوخ والفقراء الذين قارعوا السلاطين او حازوا على حق الشفاعة وابطال الاحكام، ونسميهم انتلجسيا السلطنة الزرقاء ولازمت الميوعة وعدم الدقة استخدام مفهوم المثقف. لذلك كانت دوائر الخريجين اشارة لإمتياز (المثقفين) أي المتعلمين في اختيار خاص في الانتخابات. وقد تسمح عدم الصرمة المفاهيمية لوصف كل من يصوت في هذه الدائرة بانه من المثقفين. وهناك خلط سائد بين المثقف والأديب او المهتم بالأدب. فكل من يحفظ الشعر ويستشهد به وله لغة عربية خطابية، يجوز على صفة مثقف وفي الفترة الاخيرة مع الهبوط العام، قد يصعد الى: مفكر. ومن آليات بسط هيمنة الاسلامويين صناعة المفكرين والمثقفين. فقد بدأت بتعليم جامعي في جامعات لا تملك مقومات مدرسة ثانوية: لا اساتذة ولا معامل ولا مكتبة ولا حرم جامعي ولا نشاط... الخ ففي هوجة الثورة التعليمية فتحت 26 جامعة خلال فترة وجيزة، وكأني بهم يخلطون بين انشاء جامعة وبناء جامع.

 

الآلية الثانية هو تعويم الشهادات او اغراق المجتمع بشهادات عليا بدون شروط ومؤهلات. وأصبح الحصول على درجة الدكتوارة في سهولة الحصول على شريحة موبايل. وكثر اللقب لدرجة تساوت مخاطبة الشخص بيا دكتور او يا حاج لا تفرق كثيراً. ورأيت رسائل دكتوارة لا يعرف اصحابها طريقة اثبات المراجع والمصادر وكتابة الهوامش. كما ان الغالبية العظمى ليس لديها المام بأبجديات لغة أجنبية ثانية. يضاف الى ذلك ضحالة وتفاهة الموضوعات التي تبحث. وأخيراً سهولة منح درجة الاستاذية.

 

الآلية الثالثة وهي استغلال وسائل الاعلام بالذات المرئية في تلميع اشخاص بعينهم، وحضورهم الدائم المعروض على المشاهد وتقديمهم كخبراء ومختصين وعالمين بكل شئ. ويتم تداول اسماء لشخصيات محددة وتفرض على الندوات والمؤتمرات والملتقيات. وهكذا كونت السلطة نخبتها وهذه علاقة جديدة. فقد كانت النخبة او الصفوة في الماضي موجودة وينحاز جزء او قطاع منها الى السلطة ويبرر وينظر لها. ولكن الاسلامويين اضافوا الى ذلك صناعة نخبة وفرضها من خلال عملية تزييف وعي طويلة ومستمرة بلا كلل.

 اعتقد ان المثقف السوداني الحقيقي لابد له من صفتين ان يكون نقدياً ولا يرى انه ليس في الامكان احسن مما كان، بل العكس تماماً. والصفة الثانية التي روج لها سارتر ان يكون ضميراً شقياً لشعبه او لأمته او جمهوره. وفي هذه الحالة يحدد المثقف بوظيفته فهو مع التغيير ويعمل من أجله وهو مستقبلي. لذلك يصعب ان تدرج السلفي والمحافظ ضمن المثقفين. شخص مثل اليوت شاعر مجيد ولكنه رجعي، وشتاينبك كاتب ممتاز ولكن تأييد لامبريالية امريكا في أواخر أيامه تنقص من قدره. ولدينا في السودان لقويون وشعراء وأدباء وعلماء نابغون ولكنهم لم ينحازوا للتغيير والتقدم. وهذا ما سماه النبي الكريم: علم من لا ينفع. وكان يردد انه يخشى على أمته من عالم يضلها بعلمه. هؤلاء علماء غير مثقفين.

علاقة المثقف بالسلطة فيها كثير من الالتباس. أولاًَ لابد من الاقرار بوجود اشكال للسلط (وان شئت السلطات) وليس السلطة السياسية فقط. وهنا ينسى المثقف انه صاحب سلطة معرفية او فكرية أقوى من تلك السياسية وحين عقد برتران رسل وسارتر محاكم الضمير للحرب في فيتنام والاسلحة النووية، استخدموا سلطة المثقف. وهناك من يقول ان الثقافة هي سياسية المجتمع والسياسة هي ثقافة الدولة، فهل يستطيع المثقف السوداني ان يفرض هيمنته على المجتمع ؟ ولكن المثقف السوداني يفتقد روح المبادأة والمغامرة، لذلك لابد له من الحزبية والسياسية الضجة لكي يجد الأمان. وهذه أولى سقطات المثقف السوداني والذي كان عليه ان يقتدي بصيحة نيتشة: عش في خطر ! وفي بحث المثقف السوداني عن الأمان يعيش الثنائية والشيزوفرنية فهو منقسم الى نقيضين في واحد. ويتسطيع ببراعة ان يفصل بين القول والفعل او الممارسة. ينطق باكثر النظريات تقدماً ويتصرف ويسلك كأعتى الرجعيين. وهو بالتأكيد عند أزمة منتصف العمر سوف يبحث عن شيخ وطريقة صوفية يغسل فيها طيش الشباب او كما يقول الاسلامويون الجدد من اليساريين والليبراليين: جاهليتنا السابقة. وبالتالي يدين أفضل سنوات حياته ويعمل على نكرانها والتخلص منها وهذه مأساة المثقف السوداني.

 

هناك وجه آخر للمأساة التي يعيشها المثقف السوداني وهي الفوات التاريخي. فنحن نعيش بالزمن الفلكي في القرن الحادي والعشرين، ولكن بالزمن العقلي والحضاري حدث لنا تثبت في القرن السادس عشر وبالتحديد بداية دولة الفونج (1504). فالمثقف يقرأ ويتحدث عن آخر النظريات الحداثية وما بعد الحداثة ولكن يعيش فعلياً في أزمنة تاريخية خاصة حين يتعامل مع أسرته الممتدة: كما ان الحياة العامة الخالية من المسارح ودور الاوبرا وصالات العرض وزيارات الفرق الموسيقية العالمية والمؤتمرات الدولية التي تتيح التفاعل مع عقول أخرى.. الخ لذلك يتحدث كثير من المثقفين عن الرواية الجديدة وقصيدة النثر وهم جالسون بخشوع على "بنبر" امام بائعة الشاي: حليوة، قرب المركز الثقافي الالماني، أذكر انني حين رأيت هابرماس في جامعة فرانكفورت منتصف السبعينيات، داهمني خاطر غريب يقول: انا مالي وهابرماس بينما والدتي ما زالت تدق الزار وجدي في القرير يكتب حجبات ويعطي المحاية والبخرة ! واذكر مناقشات القاهرة قبل عقد من الزمان، وكان أحد المتحمسين (الحداثيين) يملأ الجو بفوكو ودريدا والتفكيكية، ويقطع حديثه ليذهب الى الحمام لكي يبصق السفة ويعود. وكنت أقول له يستحيل ان يتجاور داخل هذا الفم التمباك وفوكو في آن واحد ! وفي نقاشات أخرى عن الموسيقى وأدورنو كنت أقول للاصدقاء ان هذه الموضوعات اكبر مننا تاريخياً وليس نظرياً لأن جدة (او حبوبة) ادورنو كان لديها بيانو في غرفتها تعزف عليه قبل النوم !

 يشبه المثقف السوداني بلده السودان في ممارسة هدر الامكانات. اذ تجد المثقف يهدر امكانياته في مجالات عادية ولدي كثير من الأمثلة لهذا الهدر وأقولها بالاسم دون حرج. فمن الشخصيات التي اتأسف عليها الاستاذ عبدالله زكريا والذي كان يمكن ان يكون جمال حمدان (شخصية مصر) السوداني في الجغرافيا، وهذا رأي استاذه حمدان ايضاً. فقد أهدر عمره في القيام كان يمكن ان يقوم به عمال سوداني كان يعمل بالجماهيرية في مصنع الاحذية بمصراته. وأقصد الدعوة للجان الشعبية والثورة وهناك الدكتور كمال شداد، دكتوارة في المنطق (الفلسفة) من الستينيات ويضيع طاقته في مشاجرات الوالي والارباب والكاردينال وقبله د. حليم وهناك د. عبداللطيف البوني استاذ علوم سياسية متميزة يضيع طاقاته كمستشار او ككاتب عمود في عدد من الصحف الصفراء. وكثيراً ما اتساءل هل الأفيد للسودان جهد اطباء مثل الدكاترة حسين ابوصالح والشفيع خضر وغازي صلاح الدين ومصطفى خوجلي ومصطفى عثمان اسماعيل وغيرهم كثر، في معالجة السودانيين الذين يجمعون كل أمراض الدنيا، ام هدر معرفتهم وخبرتهم في (اللغلغة) السياسية والتي يجيدها اي شخص من طرف السوق العربي. وأخيراً هل حقيقة: كل امرئ يحتل في السودان غير مكانه ؟  

 

آراء