ستقوم الانتخابات فما العمل؟

 


 

 

على الرغم من ترديد بعض أحزاب المعارضة في أنها تحتفظ لنفسها بالحق في الانسحاب من  الانتخابات إذا ثبت أنها لن تكون نزيهة لكن واقع الحال يقول بأنها قد توكلت على الله وقررت خوضها على علاتها. ويبدو أن لا سبيل للعودة عن هذا القرار ما لم يحدث تطور درامي في سير الانتخابات. يحدث هذا بعد أن يئست الأحزاب من استجابة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إلى حد ما لمطلب تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر على الرغم من وجاهة الحجج التي ساقت في تبرير ذلك ولكن الغائب فيها هو أن الأحزاب لم تأخذ الأمر مأخذ الجد وتباطأت في بداية الاستعداد لها. كما أنها قد فرطت في عملية التسجيل وهي عملية حاسمة في أمر الانتخابات ولكنها ليست نهاية المطاف كما سنرى. وستدخل الأحزاب والأفراد المعارضون هذه الانتخابات بعد أن فشلوا في خوضها بقائمة مرشحين موحدة وبإستراتيجية موحدة سيدخلونها إذن بإستراتيجيات متنوعة على طريقة لكل حالة لبوسها ولكل مقام مقال. وكان طبيعيا أن يرفض المؤتمر الوطني التأجيل لأنه استعد قبل غيره ويدخل الانتخابات وهو يملك الدولة وإعلامها والمال وخبرة في السيطرة على الانتخابات وتفصيلها على مقاسه وإن دعا ذلك لتزوير واسع النطاق له فيه خبرة ومبررات فقهية أيضا وبالتالي كان رفضه مفهوما لأن التأجيل يعطي غيره فرصة الاستعداد ويقلل من الميزة النسبية التي يتفوق بها عليهم. كما أن الحركة الشعبية ظلت تتعامل مع قضية الانتخابات وعينها على موعد الاستفتاء وتحاول أن تستغل قضية الانتخابات في تحقيق مكاسب في إطار قضية الاستفتاء والمناطق الثلاث والحديث عن عيوب الإحصاء يبدو أنه ليس مبدئيا وإنما هو كغيره أمر تكتيكي لخدمة قضية الاستفتاء مما جعل الأمر يبدو وكأنها معنية بقضية تقرير المصير وما غيرها من مسائل نيفاشا ومطلوباتها مجرد وسائل تقود إلى الموعد الأعظم.

 

على الرغم من كل هذه الوقائع فإن الحراك الذي حدث في الأسبوع الماضي دفع بالأشياء في اتجاهات جديدة. فدوائر المؤتمر الوطني التي أشاعت بأنها ستكتسح الانتخابات لا محالة وعلى جميع مستوياتها وبكل سهولة وستكتب شهادة وفاة كل الأحزاب الأخرى إذا اقتبسنا اللغة الفَسِلة لمسؤول الانتخابات الأول في الحزب بدأت تشعر بالانزعاج للحراك غير المتوقع الذي حدث مما جعلها تعيد حساباتها وتخفض من لهجة التعالي التي اتسمت بها ولقد خدم تأكيدها على حسم الأمر في اعتقاد كثيراً من الأطراف الأخرى بأن الأمر قد قضى ولا داعي لخوض انتخابات معروفة النتيجة سلفا فاستسلموا في قدرية شديدة باستمرارية أهل الإنقاذ وصار بعضهم يردد عبارات تدعو لليأس من نوع هذه المرة الأمر محسوم ولكن على الآخرين التفكير في إزالة رموز الإنقاذ في خلال الأعوام الثلاثين القادمات وكانوا يسخرون ممن يرى أن الانتخابات يمكن أن تقوم وأن يكون فيها تنافس قد يقود إلى تغيير في المعادلات. وفي المقابل ظلت لغة الدكتور نافع الاستفزازية دافعا للآخرين لقبول التحدي وكلما ازداد في اللغة الخشنة كلما ساعد الآخرين في التكاتف لمنافسة حزبه ويكون بذلك قد هزم الغرض الذي يسعى إليه ولو كان حزبه قد أوكل هذا الأمر لمن يحسن الخطاب وبه قدر من اللباقة ومراعاة شعور الآخرين لكان ذلك أفضل لهم وللعملية الانتخابية.

من النتائج التي فاجأت الجميع ما يمكن أن نسميه «تأثير عرمان» أخذ عرمان تكليفه مأخذ الجد وبدأ حملة قوية منذ ضربة البداية تجاوبت معها جماهير كبيرة من شمال السودان ومن جنوبي الشمال بشكل أدهش قيادة الحركة وأذهل أهل المؤتمر الوطني. فجميع الشباب الذين انتظموا في اللجنة الشعبية لدعم ترشيحه رأوا فيه مرشحاً مغايراً واضح الخطاب حيث أعلن من اللحظة الأولى التزامه بخطاب السودان الجديد الذي يتفهمه وله القدرة على شرحه وتنزيله لكل الفئات من خلال ما اكتسب من خبرة في هذا المجال بحكم انه كان الناطق الرسمي باسم الحركة لأكثر من عشرين عاما. الملفت أن الحراك الذي صاحب إعلان ترشيحه قاده الأمين العام والسيد إدوارد لينو وآخرون ويمثل جميعهم قطاعا في داخل الحركة الشعبية هو قطاع التغيير ودعم الوحدة على أسس جديدة وفقا لمشروع السودان القابل للنقاش مع حلفاء من الفعاليات السياسية الأخرى. وفي مقابل قوة الدفع هذه كان صمت السيد رئيس حكومة الجنوب ونائبه صمتا مريبا حيث لم يفتح الله عليهما بكلمة واحدة في حق مرشح حزبهما الذي ألقيا به في أتون معركة ملتهبة وظلا في صمتهما حتى خرج المؤتمر من هول الصدمة والحراك الذي أحدثه ترشيحه ليطالب على استحياء في بادئ الأمر بأن تسحب الحركة مرشحها في الشمال وحاول الضغط عليها بالإعلان عن تعليق الحوار في القضايا العالقة وجلها يهم الحركة أكثر مما يهم المؤتمر الوطني، وذلك في إطار ممارسة الضغوط المتبادلة، ثم جاءت مناورة دعم المؤتمر الوطني للسيد سالفا كير كمرشح للجنوب وسرعان ما أبطل السيد الأمين العام للحركة مفعول المناورة عندما ذكر بأن عجز المؤتمر عن المنافسة في الجنوب هو الدافع لهذا الدعم الاضطراري وهذه حجة قابلة للتصديق وهنا يجدر أن نقف لنذكر بأن ترشيح عرمان اعتبر دليلا على عدم جدية الحركة في أمر الوحدة لذا رشحت شماليا ليمثلها فهل يمكن أن نقول إن دعم المؤتمر الوطني لسلفا كير يعد دليلا على يأس المؤتمر الوطني من الوحدة وإقرارا منه بالانفصال؟ حتى كتابة هذه الأسطر لم يكن قد تبين بعد ما حصل عليه السيد على عثمان الذي طار إلى جوبا لمناقشة القضايا العاجلة ولا شك أن محاولة سحب مرشح الحركة من الشمال من بين هذه القضايا العالقة. ونحسب أن مساحة المناورة وعقد الصفقات قد ضاقت وربما يكون من واجب قادة الحركة أن لا يضيعوا فرصة الزخم الذي أحدثه ترشيح عرمان والالتفاف الذي حصل عليه، كما أن عليهم أن يكونوا أكثر وضوحا في موقفهم من قضية الوحدة والانفصال لأن تأييد الكثير من سوداني الشمال دافعه أن تأييد الحركة هو السبيل لوحدة السودان أيا كان مرشحها ولو كان المرشح جنوبيا لما تغير موقفها.وهنالك من قد يتفهم موقف السيد سالفا كير المتأرجح بين تأييد الوحدة والانفصال بسبب وجود تيار انفصالي مقدّر بين صفوف الحركة ولكن عليه أيضا أن يراعي التيار المقدر لمؤيدي الوحدة في الشمال وإن لم يكونوا ممن سيدلون بأصواتهم في الأمر ولكن تأثيرهم في مسار الأمور عقب الاستفتاء وأيا كانت نتيجته ليس من المسائل التي يمكن تجاهلها، ومما يزيد في غموض موقف الحركة من الأمر هو تمادي السيد نائب رئيس حكومة الحنوب في صمته المريب بشأن الوحدة والانفصال كما لو أنه "ساكت فوق راي" ففي الصمت السلامة.

 

ومن الأحداث المهمة في الأسبوع الماضي ترشح السيد الصادق المهدي الذي اقتنع في نهاية الأمر بجدوى دخول المعركة مبررا تمهله في البداية بتشككه في نزاهة انتخابات تجري في ظروف شاذة أجملها في القبضة الشمولية للحزب الحاكم والملاحقة الجنائية الدولية لمرشحه وملاحقة رئيس الحزب الحاكم الآخر بظلال الانفصال، هل يشكك الإمام في الحق في تقرير المصير؟ وأضاف للوضع الشاذ بالطبع ما يجري في دارفور من ظروف حرب ونزاع. وأضاف سببا ثانيا لتمهله هو أن تنجح مساع لرئيس قومي للبلاد والواقع أن هذه الفكرة هو صاحبها وروج لها علنا وسرا في إطار التداول مع الأحزاب الأخرى حيث أنه كان يبحث عن معادلة توفق بين العدالة والاستقرار في أمر رئيس الدولة الحالي أو غير ذلك من التدابير التي تحمي السودان من شل حركة البلاد الدولية ومساعي حماية البلاد من ظلال الانفصال في حالة المرشح الذي سينال أكثر أصواته من الجنوب. والصادق المهدي أكثر من غيره يستشعر المأزق الذي ستدخله البلاد إذا ما انتخب البشير واستمر التحدي لمطالب العدالة الدولية والمجتمع الدولي بأسره،. ولقد كتب في أمر المحكمة الجنائية والمأزق الذي وقعت البلاد فيه كثيرا ولكن قد أسهم أيضا في الموقف المتشدد الذي اتخذه المؤتمر الوطني ورئيسه عندما قدم دعما عاطفيا للرئيس في محنته « البشير جلدنا ونحن ما بنجر جلدنا في الشوك» ولم يكن له مبرر سياسي عقلاني غير الخشية من أن يوصف بعدم الوطنية لأن المواجهة صورت على أساس أنها مواجهة بين السودان بأسره والمجتمع الدولي وما على الجميع إلا أن يندرجوا في التعبئة والهياج الذي صاحب الأمر.

من أهم ما نشر في الأسبوع الماضي مقابلة متميزة مع المرشح الرئاسي الدكتور عبد الله على إبراهيم في جريدة الشرق الأوسط قبل أن نفاجأ بعدها بأن ترشيحه قد استبعد لعدم اكتمال مطلوبات الترشح ونأمل ألا تكون تلك الكلمة النهائية في الأمر لأن وجود عبد الله على إبراهيم كمرشح ستكون له فائدة كبيرة على العملية الانتخابية وعلى ما يترتب عليها من سعي لترسيخ الممارسة الديمقراطية. حيث أنه ليس معنيا بالفوز في الانتخابات كما قال ولكنه معني بالحراك الحزبي وحملات الترشيح والبرامج التي تطرح وحديث الصامتين خارج منازلهم فهو يرى في ذلك حقيقة كبيرة وهو «مشغول بترسيخ هذه التجربة، وبهذا الخروج من حالة المقاطعة مع الإنقاذ إلى الصراع العلني معها. والحق أن هذا الموقف للدكتور عبد الله كان قد أعلنه قبل عام منذ أن أعلن ترشحه وظل يبشر به في ظل استخفاف وسخرية من الكثيرين وهاهم يعودون للعمل بما قال قبل عام الآن وقبل سبعين يوما من الاقتراع.

وفي الإجابة على سؤال عن توفر مقومات الانتخابات النزيهة في الانتخابات الحالية قدم الدكتور عبد الله وصفة محددة لو يعمل بها من تبقى في السباق من مرشحين لأمكن إصلاح ما وقع من تفريط إلى حد ما يقول الدكتور "ليس صحيحا أن تطلب من الحكومة النزاهة ولكن على القوى السياسية أن تفرض خلق النزاهة، هذه القوى تريد من الحكومة أن (تخدمها) وتأتي لها بالنزاهة وهذه بطالة منها، الأحزاب ظلت بعيدة عن مراكز فرض النزاهة، مثل مراكز التسجيل أو غيرها من المواقع الخاصة بترتيب إجراءات الانتخابات، لو وضع أي حزب مندوباً له في مركز التسجيل لفرضوا النزاهة على الحكومة"

والملاحظ حتى الآن أن الجميع يبدع في وصف صور تردي الحكومة وحزبها في الممارسة المتعلقة بالانتخابات ويكتفون بتقديم التماس للمؤتمر الوطني بأن لا يفعل ذلك ولم نر من اتبع القول بالفعل وفقا للمثال المذكور أعلاه. ماذا أعد المترشحون الآخرون من طعون في مرشح المؤتمر الوطني والآن قد فتحت فترة الطعون، لا أستبعد أن يكتفوا بالقول إنه حتى المحكمة الدستورية نفسها غير موثوق بها وبالتالي لا داعي لمحاولة الطعن في مرشح المؤتمر الوطني في خرقه للدستور لصالح حزب سياسي وهو ضابط في القوات المسلحة عام 1989، ثم تكرار ذلك في ظل الشرعية الجديدة بخرقه لقانون القوات المسلحة لعام 2007 مرة أخرى وخرق قانون الأحزاب لعام 2007، بترؤسه حزبا سياسيا وهو ضابط بالقوات المسلحة بل قائدها العام. ما الذي يضمن أن لا يقوم مرة أخرى بخرق الدستور والقانون وقد فعلها أكثر من مرة قبل أن يكون مطلوبا للعدالة الدولية حيث يصير بقاؤه في الحكم الضمان الوحيد لعدم مثوله أمام المحكمة الدولية أو المحاكم المختلطة.

ماذا أعدت الأحزاب المعارضة لمنع التزوير الذي تتحدث عنه وبينهم من الحلفاء من خبر أمر التزوير ومارسه في مرحلة سابقة من عمر النظام الحالي أو كما قال السيد آدم الطاهر حمدون مرشح المؤتمر الشعبي لمنصب والي الخرطوم « نحن أولاد دكة واحدة ونعرف بعضنا" وأشار إلى أنهم قد شرحوا لمندوبي الأحزاب كيفية التزوير للتحوّط لها وضرورة التعويل على المراقبة الذاتية من المرشحين وأحزابهم وعدم الاعتماد على المراقبة الخارجية وحدها لأن «مؤسسات الرقابة العالمية لها قدرات على كشف التزوير لكنها لا تعرف أساليب الجماعة ديل» وليس من رأى كمن سمع. قال لي أحد الذين كانوا مع الحركة الإسلامية وخرجوا منها بعد المفاصلة أن أفضل خبيري تزوير للانتخابات عرفهما السودان تضمهما الحركة الإسلامية: توفي أحدهما مؤخرا إلى رحمة مولاه في حادث سير ونصب الآخر قيما على الانتخابات للحزب الحاكم!

 

وبعد فقد دلت الكثير من الدراسات والبحوث للانتخابات في أفريقيا في السنوات الأخيرة على أن الانتخابات مهما كان بها من نواقص فهي خطوة إلى الأمام في سبيل ترشيد الممارسة ومهما تأخر الوقت فعلى الجميع أن يسعى لا لكسب الأصوات فحسب وإنما لاكتساب الخبرة والاحتكاك والتعلم من التجربة فمسيرة السودان لن تتوقف عند هذه الانتخابات وحدها وأمر التغيير ماضٍ وإن قال الكثيرون بنهاية التاريخ، فما كان في حكم المؤكد قبل أسبوع صار في كف عفريت الآن وسيشهد كل يوم من الأيام القادمات تطورا نحو أمر جديد. وسيكون «أهل السوق» هم المتضرر الأكبر إذا لم تقم الانتخابات فقد انتعشت الكثير من الأعمال بسبب حراك الانتخابات، المطابع والصيوانات ومكبرات الصوت وكل الأدوات اللازمة للحشد والتعبئة والترحيل. كل ما نأمله أن تجرى الانتخابات دون وقوع عنف.

 

 

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 2 فبراير 2010

Ussama Osman [ussama.osman@yahoo.com]

 

آراء