شذَرَات من وحي حُكمٍ بالإعدام

 


 

 

مشهد أوّل :
أخيراً جلس العقيد أمن هيثم إلى مكتبه بالطابق الثالث القسم السياسي موقف شندي وبدأ التحقيق معي. لم يكن التحقيق الاول ولن يكون الاخير. كانت الاسئله تَنِمُّ عن خواء ذهني وسطحيه وعدم مهنيّه حتى انني في وقتٍ من الأوقات قلت له مُذكّراً انني غادرت الشرطه في اقصى رتبة المقدم حتى يُفيق قليلًا من سكرة السلطه التي تطغى على معرِفَةٍ لا وجود لها.
دخل احد زملاؤه ، يبدو انهُ بينهما مودةً خاصه ، وسلم عليه بالاحضان وهو ينادي عليه ب (يا صلاح) وبعد انصراف الصديق التفت إلي متسائلاً بقلق (انت متذكر اسمي القلتو ليك؟) قلت له نعم هيثم فانفرجت اساريره ومضى في استجوابهِ المُعاق ذاك .

مشهد ثاني :
وجدت في الزنزانه التي نزلت بها في كوبر من ضمن من وجدت السيد فيل كوكس. Phill Cox بريطاني اعلامي يتبع للقناه الرابعه الانجليزيه. إعتُقِل بدارفور بواسطة حميدتي وقوّاتِهِ لدخوله دون فيزا من جهةِ تشاد وتم ربطه بجنازير حول شجره حتى اتت طائره خاصه نقلته الى موقف شندي حيث عُذّب ثم تم رميهُ بالزنزانه التي ضمّتنا معاً لمدة شهر. قال ان دخوله اتى من باب التحقّق من ان المبالغ التي كان يدفعها دافع الضرائب البريطاني للحكومه السودانيه من اجل دارفور كانت تذهب الى مكانها الصحيح وتُصرَف في وجهتها الممنوحةُ من أجلِها.
كانت آثار الجنازير حول ساقيه ومعصمي يديه ورقبته واضحه وكذلك كانت آثار التعذيب والركل والضرب. قال لي يوماً وهو يراقب المساجين من الشباك الخلفي وهم يخرجون صباحاً بالعشرات يمشون بصعوبةٍ تحت وطأة القيود "لماذا أنتم تحبون الأغلال؟ " فأوضحت له ان الأمر بالنسبه لهؤلاء مختلف حيث انهم مدانون بالقتل العمد وهذا امر قانوني فهؤلاء ينتظرون الاعدام قصاصاً.

مشهد ثالث:
كانت هذه الزنزانه داخل السجن العمومي تتبع لجهاز الأمن. ( قفله واحده ) منذ دخولي حتى الإفراج ولمدة شهرٍ كامل تحت مراقبةٍ دقيقه لا تدخين ولا تمباك ولا معرفه للزمن او اخبار من الخارج. كنا نعرف الأيام بواسطة ( شخته) على الحائط بواسطة أداه صغيره مع احد المعتقلين.
أيام الاربعاء كانت ذات وقعٍ قاسٍ علَيّ في ذلك المكان لسبب إنبعاث أصوات بُكاءَ وعويل متواصِلَين سحابة النهار لدرجةِ إحساسي أنّهُ لم يَعُد بداخلِ هؤلاء الباكين المزيد من القُدره على البُكاء او أنّهُم وصلوا درجةً من الإرهاق لم يعودوا يُمَيّزون ما يَصدُر عنهُم أهوّ بُكاءٌ ام غيرُ ذلك.
كان ذلك البكاء هو بُكاء الزيارةِ الأخيره ، بُكاء الأحياء مع المغادرين لهذه الزائله.
عندما يُعلَن المدان بموعد التنفيذ وتأتي اسرتهُ لوداعه. إنّها لحظاتٌ فارقه في أتونِ هذه الحياةِ التعيسه وهي لحظات فوقَ طاقةِ العقل البشري والمشاعر الإنسانيه.
تظلُّ الكوابيس والنّدَم بعد ارتكاب جرائم القتل ويتحدث الجميع وهم يحكون عن الشيطان ويرمون بِثِقَلِ همومهم عليه ويجدونَ العزاء في تحميلِهِ وِزرَ أخطائهم وهم يُكابدون ندماً وأسفاً يعصفان بهم.
.. إنّ الفتره بين صدور الحُكم والتنفيذ لهيَ أقسى من الموتِ نَفْسِه يعاني فيها المحكوم وأسرَتُهُ الأمَرّين في دُنيا لا تُساوي كل ذلك الإنفعال والتشاجُر والتشاحُن والتطاحُن ومن ثمّ ولوج ذلك الطريق المُفضي إلى الكارثه.

مشهد رابع "عودٌ على بدء":
كُلُّهُم كانوا قَتَله ولم يكُن أب جيقه إستثناءً.
كان متعاوناً ولكن لم يكن الضباط بأفضل منهُ حِرَفيّةً او خُلُقاً أو إعداداً فكُلُّهُم قد باعَ نفسهُ من أجلِ لا شيئ.
لكلّ قاتلٍ دافعٌ مُصاحِب يرقى لإزهاقِ الروح هذا الأمر الجلل وهُم تمثّلَ دافعهُم في حمايةِ نظامٍ نكّلَ ببني جلدتهم وكانوا هُم أنيابهُ ومخالبه.رأيتُ اب جيقه مرّتين ، مرّةً وهو يُطلِقُ النار وخلفهُ يظهر الداعمون وهو يتبخترُ بسلاحه في وجه العُزّل ويُطلِق النيران ليُرضي أسياده ومرّةً داخل القفص المُغلَق بعنايةٍ وحيداً في غياب الداعمين.
كان حينُها يُدرِك أنّهُ قَد تُرِكَ لمصيرِه والقاضي يتلو حيثيات الحُكم بِتَمَكُّنٍ وبحِرَفيّةٍ عاليه والصمتُ وقُدُسيّة الغرض يزيدان من رهبةِ المكان. كان زملاؤه، داعموه ، قطعاً ينظرون من خارج القفص ويرون اشخاصهم فيهِ أو إلى جواره او يؤمنون بأنّ ذلك هو ما يجب أن يكون إن كانَ ثمة لحظات صدقٍ في دواخلِهِم الحافله بالإجرام والمحتفيةُ به.
فعَلَ كُلٌّ منهم ما فعَلَهُ أب جيقه وبعضهم زاد عليه. هكذا يذهب الجبابره بعد أن يقصمهم الله ويُمْكِنُ مِنهُم وهو مالم يكونوا ليؤمنوا به او يضعونَهُ في حُسبانِهِم وهم في سكرةِ السلطه وصولجانها.
سيذهبون الى بُكائيات الاربعاء والى تلك الجنازير وسيموتون الاف المرات قبل تنفيذ الاحكام.. ولكن هل يجد النّدَم طريقاً إلى قلوبهم القاسيه وأنفُسِهِم المريضه؟ وهل من سَبيلٍ لِحَلّ ذلك الجهاز المُثقَلُ بالأوزار وبالدّماءِ ؟ على كُلٍّ ها نحنُ (نستجدي ) أولي الأمر بعد أن ظننّا أننا نحنُ ( شعب السودان) ، من قام بالثوره ، سنكون اصحاب القرار ، حُلمٌ اطاحت به المحاصصات والمصالح التي ما بات الوطن جزءاً منها.

melsayigh@gmail.com

 

آراء