عاصم الطيّب .. موسيقار استثنائي وغير تقليدي

 


 

 

ebraheemsu@gmail.com

صوت من الهامش

ما شدّني وادهشني، لم اجد حتى اللحظة من يسبر اغوار معارفه، ويجس ابعاد رؤاه في مجال الموسيقى والفنون بوجه شامل وفلسفته للتصوف، موسيقي شغوف بتراث الهامش السوداني، في ثوب صوفي متبتل، يهابه مقدمو البرامج التلفزيونية، ويهربون من محاورته بطلب المزيد من اغانيه ومدائحه المتميزة والتي استطاع بمثابرة أن ينفض عنها غبار السنين، وهو من نوع المثقف النادر، والذي لا يحُّك رأسه أو ينظر إلى السقف للرد على تساؤل، او يصاب بالارتباك حين يبتدر الحديث بلغة الأوتار، ليتواصل مع كافة مكونات المجتمع السوداني المتنوع ثقافيا.

ملحن بارع، وعازف متمكن من استنطاق العديد من الآلات الموسيقية، عزف للكبار، وردي وابو اللمين، وعثمان حسين، وابراهيم عوض، وصلاح بن البادية ومصطفى سيد احمد، شادي مطرب، يترنم بكلمات من بيئته كيفما اتفق، ليطرب سامعيه حتى الثمالة، زريابي حاذق يشد سمعك إلى ايقاعاته المميزة بغض النظر عنما يقول، ويجبرك على أن تتابع معايشته واندماجه مع آلاته بعينك، إن تحدث تتمنى الا يتوقف، وإن مد ريشته أو سبابته إلي وتر، تأمل الاّ يرفعها. إن أمسك الكمان يخّيل إليك انك تستمع إلى محمودية، وإن لبس الأخضر وحضن العود تراه حلاجا، في براعة ابو اللمين او بشير عباس. كلما استمع اليه وهو يستنطق آلة الكمان بنوت موسيقية فائقة الوضوح والعذوبة، تذكرت الراحل وردي عليه الرحمة حين قال: ما في آلة موسيقية احنّ من الكمان، وبدون مبالغة، منذ أن عثرت على كنوز اعماله بالصدفة، بدأت اشعر بالحرج أن استمع لغيره متى ما وجدت نفسي بحاجة للاستماع إلى الموسيقي، فقد اسرني هذا الصوفي المدروش والمبدع الأصيل، كبل حواسيّ بتنوع ألحانه وحيوية إيقاعاته.

موسيقار عالمي، يجسد تنوع ابداعي متفرد، يلون صوته ونغمات اوتاره ليعّبر عن التنوع الثقافي للبلاد، يأسرك في جولة ثقافية شاملة، فيعزف لك ايقاعات الشرق الحنينة ثم الدليب الطروب في اقصى الشمال النوبي، ويتتبع النيل ليغني (الجريف اللوبيا) في الوسط، تم يعرج بك إلى الغرب ليمتعك بالمردوم، قبل ان يدعك تستريح على ايقاعات الوازاغ على ضفاف النيل الازرق.

عاصم الطيب يعالج قضية التهميش الثقافي موسيقياً، فهو يعيد دوزنة الإيقاعات الشعبية المهملة لتثبيتها في وجدان الشعب السوداني، وقد نحج في ذلك إلى حد كبير، وهو بذلك يرمم ذائقة المستمع السوداني، ويعيدها إلى جذورها، إذ انه يرى ان الإيقاع اهم من المفردة واهم من الآلة التي تؤدى به، وفي نظره أن الإيقاع يمثل البصمة الفنية للشعوب، لذا يجب عدم التهاون في توثيقه والحفاظ عليه.

عاصم الطيب باحث موسيقي صاحب قضية واضحة المعالم، تتمثل في رفع الظلم عن الوسط (المركز) والذي في رأيه لم يشّنف مسامعه بإيقاعات وفنون الشعب السوداني إلاّ النذر اليسير، ونهجه لمعالجة هذه المعضلة، إغراقه بوابل من الإيقاعات المتفردة والأصلية من كافة ربوع الهامش السوداني، وبخاصة النيل الأزرق المحتشد تاريخيا بالتنوع الثقافي. عاصم الطيب يلتمس العذر للمركز المتهم بالاستبداد الثقافي، نهجه في ذلك نهج سالم بن وابصه الأسدي القائل:

ذا ما بدت من صاحب لك زلة *** فكن أنت محتالاً لزلتـه عذراً

الموسيقار الصوفي المتصالح مع نفسه، والمتسامح مع من حوله، يعلن عبر قناة النيل الأزرق أن ثمة معارك طاحنة، وصراعات عنيفة في الوسط الفني، وانه ملتزم بالنأي بنفسه عن الخوض في هذه المعارك الفنية، وأنه ليس في تنافس مع احد، واتساقا مع منهجه الصوفي، يلتمس للوسط (المركز) عذراً في الهيمنة الثقافية، ويفترض حسن النية في تبنيه نماذج محدودة للأنماط الغنائية المتنوعة، والمتعددة في البلاد، إلا انه يشير إلي عدم موضوعية المعايير الفنية المقبولة في هذا (الوسط) في فترة من الفترات. رغم انه استطاع فرض ألحانه غير التقليدية على "الميديا" عالمياً ومحلياً بكثافة وفي فترة وجيزة.

وحينما يشير الموسيقار الباحث عاصم الطيب إلى عدم موضوعية المعايير الفنية لنجاح المطربين في المركز، فهو بطريقة أو بأخرى يشير إلى عاملين اثنين، أولهما في تقديري (العدّاد) كحافظ، وثانيهما الأجهزة الاعلامية كوسائط ناقلة ومروجة للمنتوج الفني، وفيما يخص الذائقة الجماهيرية المسيطرة في (عدادات) المطربين، يمكن لأنباء الهامش بالمركز أن يلعبوا دوراً إيجابياً في خلق التوازن الثقافي، فمثلا لا يعقل أن يقيم أحد أبناء الرصيرص حفل زواجه بالعاصمة على أنغام ندى القلعة منفردة، في وجود أمثال المبدع عاصم الطيب القرشي، فمنطق التوازن يقول، إن كان لا محالة فاعلاً، فليكن الجمع بين الأخير ومحمد النصري.

ادهشني عاصم الطيب حين ذكر أن معهد الموسيقى والمسرح لم يدّرس طلابه الإيقاعات السودانية! وانه درج منذ تأسيسه على تدريس الموسيقى العالمية الكلاسيكية، وحتى هذه فهي out of date على حد قوله، وعلى الطلاّب البحث بأنفسهم عن هذه الإيقاعات والتدريب عليها. وهو بهذا التصريح قد فك لغز المساهمة المتواضعة حسب اهل الاختصاص لهذه المؤسسة المتخصصة والمرجوة منها افتراضا أن تكون بوتقة امينة للتراث والفنون السودانية. ولا أدري لماذا اقدمت السلطات الإنقاذية بشيء من التهافت منذ بدايتها على التعريب القسري للجامعات السودانية، ولم تسودن هذه المؤسسة؟ الإجابة التي تعرّفنا عليها فيما بعد، أنها معنية بالتعريب لشيء في نفسها، وليس التأصيل.

عاصم الطيب في اطار معالجته لقضية التهميش الثقافي عملياً عبر الموسيقى، تجده لا يتردد في التغني بكافة اللغات السودانية الحية لمختلف الإثنيات شرقا وشمالا وغربا والنيل الأزرق، واحياناً يمزج بينها والعربية، فقد استطاع ان يثبّت اغنية (رحل بيّ دقندرا) كأيكونة نغم خالصة للنيل الأزرق، دون ان يتعب احد نفسه لفك طلاسم كلماتها. وهو يقول فُندان دبنة، كما ينطقها اهلنا في الشرق، دون تعمد تعريبها (فنجان جبنه)، في بدايات التواصل الفني بين السودان وبقية الدول العربية، تمكن الراحل سيد خليفة من تسويق اغنية المابو السوداني بنجاح منقطع النظير، خاصة في الخليج، الآن تمكن عاصم الطيب، تكرار ذات النجاح لأغنية (سوداني اسمراني)، وهي اغنية قليلة الكلمات، عميقة المعاني، عذبة الإيقاع، تمثل جينة وراثية لآلة الوازاغ

سوداني اسمراني

بحنانو احتواني

اشوفو تاني

ولو ثواني

بجانب البصمة الفنية لإيقاع هذه الأغنية الطروبة، احتوت هذه الكلمات القليلة، السُمرة الافريقانية، والحنان وشوق معاودة اللقاء ولو لبرهة، بالطبع المقصود هنا الهوية، التي تبدو في حالة هروب أو شرود.

نشكر اقليم النيل الأزرق الذي اهدى للشعب السوداني، هذا المبدع الباحث والمدرسة الشاملة، يبدو أنه وقع لنا من السماء في هذا الظرف الهالك الظلمة، وهو قد صرح بأنه عاد من مهجرة استراليا للاستقرار وسط اهله، وفي مدينته الفاضلة (الرصيرص)، وبذل الجهد لمكافحة الحرب بالموسيقى، ثم للارتقاء بهاء فنياً وثقافياً ليصبح النيل الازق بؤرة جذب سياحي، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالغبطة، ونتوسل إليه أن يجوب ربوع الهامش، "للطبطبة" علي النفوس المجروحة جراء الاعتداءات المتكررة، ولتسكين الجوانح التي تغلى غيظا من الظلم وكادت ان تفقد الثقة في هويتها، وأن تغذي الأرواح العطشى للمدائح الصوفية، وتنقذ المغرر بهم عقائدياً من غلواء السلفية الأثرياء، الذين فرضوا أنفسهم على الناس بأموال التشدد السائبة، ورغم بعض تحفظاتنا على التصوف، فهو جزء اصيل من وجدان الشعب السوداني، ولا ينبغي التفريط فيه لصالح غلاة السلفيين، ومن هنا يكمن ضرورة الاحتفاء بمقدم الموسيقار الباحث عاصم الطيب قرشي، والذي خرج إلينا من رماد السلطنة الزرقاء بماضيها المحتشد بالأصالة والتسامح والاعتدال.

وبناءً على تجربته الثرة في مهجره بأستراليا، والتي مثلها فنيا عدة مرات وعاد منتصرا مظفّرا، يرى عاصم الطيب قرشي أن مسألة إدارة التنوع الثقافي في البلاد ينبغي ان تكون ضمن استراتيجية الدولة، وألاّ يترك هذا الأمر لمزاج الأفراد أو الفرق الفنية. لم اجد ما هو اعقل واروع من هذا الطرح.

ebraheemsu@gmail.com

للاطلاع على المقالات السابقة:

http://suitminelhamish.blogspot.co.uk

 

آراء