في الرد على الرأي القانوني حول شرعية الانقلاب: المسألة الدستورية في الحالة السودانية

 


 

 

تمهيد
عبر مولانا محمد أحمد سالم عن رأي فقهي يرى شرعية محاولة الإنقلاب على المجلس العسكري الذي حكم السودان في الفترة من ابريل الى اغسطس عام 2019 بإعتبار ان ماقام به المجلس العسكري في 11 ابريل كان إنقلابا ضد سلطة شرعية و هو رأي من سوء حظنا اننا نعارضه و ذلك بإعتبار ان ما قامت به اللجنة الامنية في 11 ابريل 2019 كان فعلا مشروعا و ان المجلس العسكري الذي تولى السلطة حتى تسليمها للمدنيين في اغسطس 2019 كان يمثل السلطة الشرعية انذاك

دستور السودان الإنتقالي لعام 2005
دستور السودان الإنتقالي لعام 2005 لم يصدره برلمانا منتخبا، بل هو نتاج إتفاقية السلام الشامل، التي وقعها النظام، تحت ضغط داخلي وخارجي، مع الحركة الشعبية لتحرير السودان.ولذلك فإنه من حيث نصوصه دستور ديمقراطي يتبنى نظام حزبي تعددي، وإنتخابات دورية حرة. كما وأنه يحتوي على وثيقة للحقوق تؤكد حريات التعبير والتنظيم والصحافة والإعلام، ولكن كل ذلك لم يكن له وجود خارج تلك النصوص الدستورية. عند تبني دستور 2005 كان الواقع السياسي تحكمه العديد من القوانين التي تقيد تلك الحريات، وكان يفترض أن يقوم البرلمان بإلغائها في الفترة الإنتقالية لتتوافق القوانين مع الدستور. ولكن ذلك لم يحدث لحرص أغلبية أعضاء البرلمان، وهم أعضاء معينون ينتمون للمؤتمر الوطني، على بقاء تلك القوانين. قاطعت الأحزاب المعارضة الإنتخابات التي أجريت في نهاية الفترة الإنتقالية وأيضا تلك التي تلتها في عام 15، بسبب عدم وجود فرصة حقيقية لإنتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي فقد ظلت سيطرة المؤتمر الوطني كاملة على مفاصل السلطة حتى سقوط النظام في أبريل 19 . طوال الفترة التي حُكِمت البلاد بموجب دستور 2005 ظلت البلاد تحت السيطرة التامة للسلطة الحاكمة، والتي لم تكن تحفل بدستور أو قانون. وكانت جميع مظاهر الحكم المطلق بادية للعيان. كانت السلطة تعتقل المعارضين حسبما يتراءى لها في مخالفة واضحة لأحكام الدستور، وأحيانا دون سند من قانون. وتستخدم قوانين مخالفة للدستور في محاكمتهم ، وتفرق مواكبهم بإستخدام القوة المفرطة، وتمنع صدور الصحف كما تشاء. إذن فإن النظام القائم كان يفتقد الأسس الديمقراطية الحقيقية ورغم أنه ليس هنالك إتفاقاً علي تعريف جامع مانع للديمقراطية كنظام سياسي، إلا أنه يسهل التعرف على سماتها الأساسية.

الإنتخابات كأساس للنظام الديمقراطي
عرف بوبر PopperKarl أساس الديمقراطية حين عرفها بأنها " النظام الذي يسمح بإزاحة الحكام دون اللجوء الي القوة ". وإذا كان ذلك ما يميز الديمقراطية عن غيرها من الأنظمة، فإن الآلية الوحيدة لذلك هي الإنتخابات.
حتى تقوم الإنتخابات بهذا الدور فإنها لا بد أن تكون إنتخابات حقيقية.وهي لا تكون كذلك إلا حين تكون السلطة السياسية مطروحة في صندوق الإنتخابات. رغم أن إنتخابات عامة قد أجريت مرتان في ظل دستور 2005 في عامي 2010، 2015فإنه ليس هنالك أي مجال للقول بأن السلطة السياسية كانت مطروحة في صندوق الإنتخابات في أي منهما.
معلوم أنه للقول بأن السلطة السياسية مطروحة في صندوق الإنتخابات يلزم أن يمتلك الناخب صوتا مدركا وفاعلا. الصوت المدرك يتطلب وجود حرية التعبير، وحرية الحصول على معلومات. وكلاهما يقتضي حرية الصحافة والوسائط الإعلامية الأخرى. وتدخل الحكومة في الصحافة بالحظر المسبق، وبالمحاكمات اللاحقة، لا يحتاج لبيان. ويكفي هنا التذكير بصباح الإثنين الأسود الذي كان صباحاً بلا صحف. في ذلك اليوم قرر جهاز الأمن، لسبب لم ير داع للإفصاح عنه، مصادرة كل الأعداد التي أصدرتها أربعة عشرة صحيفة من الصحف التي تصدر في ولاية الخرطوم.
والصوت المدرك يتطلب إنسياب المعلومات وإدارة شؤون الدولة بشفافية كما يتطلب السماح بنقاش حر يسمح بتكوين رأي عام على دراية كافية بمجريات الأمور. والصوت الفاعل يتطلب أن يتمتع الناخبون بحرية التجمع والتنظيم.وكل تلك المتطلبات كانت تخضع لقيود تجعلها في حكم العدم في أحيان كثيرة في ظل دستور 2005بالرغم من صراحة النصوص الدستورية التي تمنح تلك الحريات. وهذه القيود لاصلة لها بالدستور، وأحيانا لا صلة لها حتى بالقانون، ولكن سيطرة الحكام المطلقة على السلطتين التنفيذية والقضائية جعلها أكثر نفاذا من أي نص. وهذا ما مكن السلطات من تطلب الحصول مسبقاً على تصديق بالنسبة للتجمعات بنوعيها، سواء أكانت المتحركة ( المظاهرات أو المسيرات)، أو الثابتة ( الإجتماعات العامة)، من لجنة الأمن في الولاية، ولجانها الفرعية والتي لم تكن تمنحها إلا لمؤيدي الحكومة. ظلت هذه السلطة غير الدستورية والتي لا سند لها من القانون نافذة رغم أن لجنة حقوق الإنسان الأفريقية قررت مخالفة ذلك للمادة 10 (1) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في عدد من الدعاوى رُفعت ضد حكومة السودان .
كذلك فقد قيدت الحكومة حق التنظيم بالنسبة للنقابات ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، فرفضت بشكل تحكمي، وبدون أي ضوابط قانونية، تسجيل بعضها، وحلت البعض الآخر، ورفضت تجديد تسجيل من يخضع تسجيله لإعادة التسجيل، إما إعتمادا على قوانين مخالفة للدستور، أو أحيانا بالمخالفة للقوانين نفسها التي شرعتها هي.

أزمة الحكم
شهد السودان في الفترة التي تلت إنفصال الجنوب أزمة حكم متصاعدة بسبب عدم قدرة النظام على إدارة الإقتصاد، بالإضافة للفساد الذي إستشرى مستقويا بإنعدام الشفافية الناتج من الحكم لإستبدادي.وهو الأمر الذي أدى لسخط شعبي متزايد عبر عن نفسه بإحتجاجات تنفجر من وقت لآخر،كان يخمدها النظام بإستخدام العنف المفرط. سيطرت على المشهد السوداني بدءً من ديسمبر 20018 حركة من الإحتجاجات الواسعة التي إستمرت أربعة أشهر، دون أن يفلح النظام رغم إستخدامه للعنف في إخمادها في سابقة لم يشهدها النظام من قبل، ولم يعرف كيف يتعامل معها، خاصة حين بلغت ذروتها في إعتصام الجماهير بشكل متواصل ومستمر، في أعداد مهولة، أمام مبنى قيادة القوات المسلحة، وهو الأمر الذي جعل إستمرار أجهزة النظام في تأدية مهامها، في حكم المستحيل. بدلاً من الإستجابة لمطلب الشعب، قرر رئيس الجمهورية المخلوع أن يوجه الأجهزة العسكرية التي كان يضعها الدستور تحت إمرته، ضد الشعب، فأمرها بفض الإعتصام بالقوة حتى ولو أدى الأمر إلى إبادة المعتصمين.
وفقاُ لهذه المعطيات فقد قررت اللجنة الأمنية المكونة من قيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى عصيان الأمر الصادر من رئيس الجمهورية وخلعه والإستيلاء على السلطة.

شرعية خلع رئيس الجمهورية
أول ما يلاحظه المراقب هو أن ما وقع في 11 أبريل هو إنقلاب عسكري لا ريب فيه. وأي إنقلاب عسكري هو عملية غير شرعية بالنسبة للدستور القائم، لأنها تعني إنتزاع السلطة بالقوة.لا يمنع القول بذلك أن الإنقلاب العسكري لم تنفذه مجموعة متآمرة من العسكريين بغرض إستلام السلطة، ولكنه نُفذ بواسطة القيادات الشرعية للقوات المسلحة، والأجهزة الأمنية الأخرى.وهي قيادات كان الدستور السائد آنذاك، يلزمهابالخضوع للسلطة المدنية القائمة. فما هو المبرر الدستوري الذي يمنح تلك القيادات سلطة الإستيلاء على السلطة؟
تنص المادة 144 (2) من دستور 2005 الذي كان قائما آنذاك على أن "تكون مهمة القوات المسلحة القومية السودانية حماية سيادة البلاد، وتأمين سلامة أراضيها، والمشاركة في تعميرها، والمساعدة في مواجهة الكوارث القومية وذلك وفقاً لهذا الدستور. يبين القانون الظروف التي يجوز فيها للسلطة المدنية الاستعانة بالقوات المسلحة في المهام غير العسكرية"
هذه المادة تلزم القوات المسلحة بأمرين الأول حماية سيادة البلاد، والثاني بتنفيذ أوامر السلطة المدنية في حالة استعانة السلطة المدنية بها في المهام غير العسكرية وذلك بشرط أن يكون ذلك في حدود القانون.والسؤال الأول الذي يتوجب علينا الإجابة عليه هو ما هو المبرر الدستوري الذي يبرر عصيان القيادات المذكورة لأوامر رئيس الجمهورية؟ حتى نجيب على هذا السؤال علينا أن نسأل أنفسنا أولا هل كان ذلك الأمر مخالف للقانون؟ الواضح أن مهمة فض الإعتصام بإستخدام القوة في مواجهة مدنيين ليست من المهام العسكرية، فهل كانت هنالك ظروف تبرر للسلطة المدنية وفق القانون الاستعانة بالقوات المسلحة في مهمة فض إعتصام الجماهير مطالبين بذهاب البشير ونظامه؟ الإجابة على هذا السؤال تقرر ما إذا كان يجوز للقيادة العسكرية عصيان أمر رئيس الجمهورية أم لا، لأنه إذا لم يكن مخالفا للقانون فإنه كان يتوجب على القيادات العسكرية تنفيذه. ونلاحظ هنا أولا أن القانون لا يعني القانون الداخلي فحسب بل يعني أيضا وبصفة أساسية القانون الدولي.

أ ممارسة الدولة للعنف القانوني
الدولة هي جهاز يمارس السيادة على إقليم معين نيابة عن الشعب.والمقصود بالشعب هم السكان الموجودون بصفة دائمة في ذلك الإقليم. لقد نشأت الدولة في الأساس لحماية أمن الشعبداخل حدود الإقليم المكون للدولة.لتمكين الدولة من توفير الأمن للشعب منحها القانون حق إحتكارإستخدام العنف القانوني، وهيتفعل ذلك عن طريق أجهزة تنفيذ القانون. إذا فالدولة أصلا تمارس العنف حماية للشعب، وليس في مواجهته. ولقد فطن القانون الدولي لذلك فوضع على الدولة مسؤولية حماية شعبها. في تقريرها المعنون "مسؤولية الحماية" رأت اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول (ICISS)أن السيادة لم تمنح فقط الدولة السلطة الحصرية على شؤونها الداخلية، ولكنها أيضا وضعت عليها إبتداءً مسؤولية حماية الشعب داخل حدوده. ولكن اللجنة لم تقف عند ذلك بل ذكرت أن هذه المسؤولية تتحول إلى المجتمع الدولي عندما تفشل دولة ما في حماية شعبها - سواء بسبب عدم القدرة أو عدم الرغبة.

ب واجب الحماية
وفقا لذلك المفهوم فلقد قبلت جميع الدول الأعضاء في مؤتمر قمة العالم للأمم المتحدة، المنعقد في سبتمبر 2005، مسؤولية كل دولة عن حماية سكانها من الإبادة الجماعية، والقتل واسع النطاق، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية. وقد اتفق قادة العالم أيضا أنه عندما تفشل أي دولة في القيام بما تتطلبه هذه المسؤولية، تصبح جميع الدول"المجتمع الدولي" مسؤولة عن المساعدة في حماية الأشخاص المهددين بمثل هذه الجرائم. في حال فشل السلطات الوطنية بشكل واضح في حماية سكانها، وعدم كفاية الوسائل السلمية بما في ذلك الوسائل الدبلوماسية والإنسانية ينبغي على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل جماعي في الوقت المناسب، وبطريقة حاسمة من خلال مجلس الأمن الدولي وفقا لميثاق الأمم المتحدة، على أساس كل حالة على حدة، وبالتعاون مع المنظمات الإقليمية حسبما يدعو الحال
في عام 2004، أيدت اللجنة الرفيعة المستوى المعنية بالتهديدات والتحديات والتغيير، التي أنشأها الأمين العام كوفي عنان، مبدأ مسؤولية الحماية "R2P" وأكدت وجود مسؤولية دولية جماعية "تتم ممارستها من خلال السماح لمجلس الأمن بالتدخل العسكري كملاذ أخير، في حالة الإبادة الجماعية وغيرها من عمليات القتل واسعة النطاق، والتطهير العرقي والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي أثبتت الحكومات ذات السيادة أنها عاجزة أو غير راغبة في منعه ". وقد اقترحت اللجنة المعايير الأساسية التي من شأنها أن تضفي الشرعية على منح الإذن باستخدام القوة من قبل مجلس الأمن الدولي، ومنها أن يتناسب الإجراء مع درجة خطورة التهديد، وأن يستخدم فقط كملاذ أخير.
أشار مجلس الأمن لمسؤولية الحماية للمرة الأولى في أبريل 2006، في القرار 1674 بشأن حماية المدنيين في الصراعات المسلحة. أشار مجلس الأمن لهذا القرار في أغسطس 2006، عندما اصدر القرار رقم 1706 الذي يسمح بنشر قوات حفظ سلام دولية في دارفور. وتكررت الإشارة بعد ذلك لمسؤولية الحماية في عدد من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن.
أصدر مجلس الأمن القرار 1973، في 17 مارس 2011والذي أذن فيه المجلس للدول الأعضاء أن تتخذ "جميع التدابير الضرورية" لحماية المدنيين المعرضين لخطر الهجوم في ليبيا ، مع استبعاد الاحتلال الأجنبي بأي شكل لأي جزء من الأراضي الليبية. وبعد بضعة أيام، بدأت طائرات الناتو ضرب قوات القذافي، إستناداً على ذلك القرار.
وقد أصدر مجلس الأمن قرارات مشابهة في ساحل العاج وجنوب السودان وفي اليمن وسوريا وإفريقيا الوسطى.

خلع رئيس الجمهورية كواجب دستوري
وفقا لذلك فإن الأمر الصادر من رئيس الجمهورية المخلوع كان مخالفا للقانون الوطني والدولي ويتطلب تنفيذه إرتكاب جرائم بالغة الخطورة وفقا للقانونين الوطني والدولي كالجرائم ضد الإنسانية، والقتل خارج القضاء. وبالتالي فإن القيادات العسكرية لم تكن ملزمة بتنفيذه ويجوز لها عصيانه بموجب المادة 144 من الدستور. بالإضافة لأن تنفيذ الأمر يعرض من ينفذه لعقوبات جنائية. ولكن الأمر لا يقف عند جواز العصيان لعدم قانونيته ولما يسببه من عقوبات جنائية، بل يتعدى ذلك، ليصبح عصيان ذلك الأمر تنفيذاً لواجب دستوري، فلقد وضعت المادةة 144 من دستور 2005 على القوات المسلحة القومية السودانية واجب حماية سيادة البلاد، وتأمين سلامة أراضيها.والثابت هو أن تنفيذ أمر رئيس الجمهورية بفض إعتصام القيادة بإستخدام القوة المفرطة من شأنه أن يعرض سيادة البلاد للخطر، لكونه سيؤدي لتحول مسؤولية حماية الشعب من الدولة السودانية إلى المجتمع الدولي،مما يسمح بالتدخل العسكري في السودان، وهو الأمر الذي ينتقص من سيادة البلاد وسلامة أراضيها .
لذلك فلقد كان أمام القيادة الشرعية للقوات المسلحة والقوى الأمنية الأخرى خياران إما أن تنفذ أمر الرئيس، فتعصى القانون والدستور، أو أن تقوم بواجبها الدستوري، فتعصى أمر الرئيس. لقد كان جوهر الأمر الصادر من الرئيس المخلوع يخرق أساس الدستور بغض النظر عن نصوصه، لأنه يقوم على إستغلال السلطة في تحقيق هدف مضاد لما شُرِّعت السلطة لتحقيقه. أساس ممارسة السلطة الدستورية، هو حماية الشعب لا الإضرار به. كان واجب القوات المسلحة والذي يتمثل في حماية الشعب، الذي هو مصدر كل السلطات في الدولة، لا يقف عند عصيان الأمر، بل يمتد إلى منع تنفيذه. وهو أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بالإطاحة بالرئيس.

إسقاط الدستور كنتيجة لإحترامه
هذا الخيارالذي هو في جوهره إنتصار للمبادئ الدستورية، ترك السلطة كلها في يد المجلس العسكري، لم يكن ذلك خياراً إختارته قيادة القوات المسلحة بقدر ما هو أمر فرضه أداؤها لواجباتها الدستورية عليها. فمن حيث الواقع لم يكن ممكنا رفض تنفيذ أوامر الرئيس دون الإطاحة به، و من حيث الشكل لم يكن في الإمكان الإطاحة بالرئيس دون إسقاط الدستور. بالإضافة لأن ما قام به الرئيس السابق، حين أمر القوات المسلحة بفض الإعتصام بالقوة، أدى من حيث الواقع إلى الإطاحة بالدستور، لأن رئيس الجمهورية وفقا للدستور يمثل الإرادة الشعبية ويمارس الإختصاصات التي يمنحها له الدستور (م 58) وليس من بينها سلطة منع الإحتجاج السلمي، ولا قتل المتظاهرين، وهو قتل خارج إطار القانون معاقب عليه داخليا ودوليا ويهدر أساس الحريات الدستورية للشعب. وفقا لذلك فإن أمر الرئيس المخلوع كان إخلال بواجب الدولة في حماية مواطنيها.
وفقا لكل ذلك فإن أمر الرئيس المخلوع بإستعمال العنف لإخلاء الميدان حتى ولو أدى لقتلهم جميعا بالإضافة لأنه كان يعرض البلاد للتدخل المسلح لو تم تنفيذه، كان في حد ذاته إسقاطا للدستور لما ينطوي عليه من مخالفة جسيمة له من قبل الشخص المكلف بحمايته، ولأنه وضع على أجهزة الدولة الأخرى واجب التدخل لحماية الشعب، وهو أمر يؤدي لإسقاط الدستور.
لما كان الرئيس في واقع الأمر قد أساء إستغلال سلطته الدستورية، وأحال هياكل الحكم الدستورية، إلى هياكل تابعة له، تأتمر بأمره، فلم يعد أمام المجلس العسكري حتى يحمي البلاد إلا أن يطيح بالرئيس الذي كان قد أطاح بالدستور نفسه.

حدود شرعية سلطة المجلس العسكري
هذه المسألة وضعت السلطات التي تمارسها الدولة على الشعب والإقليم بكاملها في يد المجلس العسكري نتيجة للفراغ الدستوري الذي أحدثته الإطاحة بالرئيس وما تتطلبته من وقف العمل بالدستور.
هذا الوضع لم يكن يريده ولا يقبله الشعب، الذي ما ثار إلا نتيجة لوضع الرئيس المخلوع لكل السلطات في يده، ولكنه أيضاً وضع لم يكن يريده المجلس العسكري ولم يسع إليه ولكنه دُفع إليه من واقع إلتزامه بالدستور والذي فرض عليه القيام بواجب الدولة في حماية الشعب. هذا يعني أن حدود شرعية سلطة المجلس تنحصر في واجب الحماية الذي حتم عليه إنتزاع السلطة من المخلوع ولكنه لا يجيز لها الإحتفاظ بها إلا كأمانة يتوجب عليه ردها للشعب الذي إنتزع السلطة لحمايته.
بتجاهل النصوص الدستورية في دستور 2005 التي تحكم محاسبة الحكام وتسمح بالتبادل السلمي للسلطة، إغتصب الرئيس المخلوع سلطة لم يفوضه إياها الشعب. وهذا هو المبرر الدستوري لتمرد الشعب على نظام البشير والذي تمثل في المواكب السلمية الضخمة، والإعتصام في باحة القيادة العامة العامة، لإلزام البشير بتسليم السلطة للشعب.
سقوط السلطة في يد المجلس العسكري يلزمه بتسليمها لممثلي الشعب. السلطة في المجتمع الديمقراطي تقوم على تفويض صادر من الشعب. والشكل المعتاد لذلك التفويض هو الإنتخابات التي يتم عبرها تفويض الذين يختارهم الشعب لفترة محددة. رغم أن قرار رئيس الجمهورية بفض الإعتصام بالقوة العسكرية كان يشكل جريمة موجبة لخلعه إلا أن المنظومة القانونيةالتي كان النظام يحكم بموجبها، كما ذكرنا في موضع سابق من هذه الدراسة، لم يكن يسمح بتسليم السلطة للشعب قبل تنفيذ مهام الفترة الإنتقالية، والتي تضمن إصلاح المنظومة القانونية، وتحرير السلطتين القضائية والتنفيذية من سيطرة النظام البائد لأن أي إنتخابات يتم إجراءها قبل ذلك ستكون إنتخابات شكلية غير قادرة على عكس الإرادة الشعبية، مماثلة لتلك التي كان يجريها النظام السابق.

تفويض قوى إعلان الحرية والتغيير
عند سقوط النظام السابق، كان الحراك الثوري الذي حاول البشير إستخدام القوة العسكرية للقضاء عليه كان حراكا تقوده قوى إعلان الحرية والتغيير،والمؤلفة من التكوينات المعارضة المكونة من أحزاب سياسية وتجمع مهني وتجمع مدني. كان الحراك المذكور هو إستجابة للبرنامج الذي طرحته قوى الحرية والتغيير على الشعب في 1/1/2019م، وهو البرنامج الذي قبله الشعب حين نزل إلى الشوارع مقدماً أغلى ما يملك، وهو حياته وحريته، من أجل تحقيقه.
هذا القبول الشعبي ينطوي على تفويض لقوى الحرية والتغيير عبر عنه الشعب بالسلوك كما يقول أهل القانون، حين يسلك شخص ما سلوكاً تتضح معه إرادته بشكل لا يحتاج لتأكيد بقول أو كتابة. وهذا التفويض هو تفويض مؤسس على برنامج الحرية و التغيير المحدود بالفترة الإنتقالية.و قبول الشعب لذلك البرنامج هو تفويض للحرية والتغييربإدارة الفترة الإنتقالية، وفقا لذلك البرنامج.
لما كان المجلس العسكري قد تجمعت في يديه السلطات نتيجة لقيامه بواجبه في الحماية فإنه ملزم بتسليم السلطة لجهة مفوضة من قبل الشعب لممارستها.لما كانت الحرية والتغيير مفوضة بإدارة الفترة الإنتقالية لم يكن أمام المجلس العسكري إلا أن يتفاوض معها لتسليمها السلطة وفق تفويضها.
اي تحرك عسكري لوقف المفاوضات التي جرت بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير هو تحرك غير مشروع.و ذلك لأن واجب الحماية الذي اطلع به المجلس العسكري يلزمه بتسليمها لسلطة مفوضة،ووفق التفويض الذي تتمتع به. لما كان التفويض الذي منحه الشعب لقوى الحرية و التغيير هو تفويض محدود بحدود البرنامج الذي طرحته على الشعب، فإن تسليم السلطة يجب أن يتم وفق وثيقد دستورية تحدد هياكل السلطة وتحمي الحريات العامة، وتضمن إدارة فترة انتقالية يتم من خلالها تحرير ارادة الشعب حتي يقوم بتفويض من يريد ان يفوضه لممارسة الحكم نيابة عنه. إدارة الفترة الإنتقالية عقب سقوط الدستور لا تعني إقامة سلطة مطلقة بل يلزم أن تكون سلطة مقيدة بقيود دستورية.

 

آراء