في انتظار الضوء الاخضر الامريكي (2/2)

 


 

السر سيد أحمد
17 February, 2020

 

 

قبيل مغادرته الخرطوم العام الماضي بعد انتهاء فترة عملة تحدث ستيفن كوتسيس القائم بالاعمال الامريكي السابق في أحدى الحفلات التي أقيمت وداعا له عن العلاقات السودانية الامريكية وعندما سأله البعض لماذا لا تدعم واشنطون حكومة الفترة الانتقالية وتستجيب لدعوات الكثيرين في المجتمع الدولي ورفع أسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب، لم يتلجلج كوتسيس وهو يرد بوضوح ان هذه قضية ستتخذ فيها الولايات المتحدة قرارها في الوقت الذي يناسبها ويخدم مصالحها ولن تخضع لآي مطالبات من أي جهة كانت.

في صيف العام الماضي وبعد حدوث التغيير في السودان وصل كوتسيس في زيارة عمل الى واشنطون حيث حضر أجتماعا مع بعض الباحثين والمهتمين بالشأن السوداني وفي رده على احد التساؤلات عن موقف واشنطون من التأثير المتوقع للسعودية والامارات على الوضع الجديد في السودان قال ان مصالح أمريكا تتسق مع مصالح حلفاءها في المنطقة . أهمية هذا الكلام الذي أوردته صحيفة "ديلي بيست" في يونيو الماضي انه يشير بوضوح الى انه لا ينبغي أخذ قضية دعم واشنطون للتحول الديمقراطي في السودان قضية مفروغ منها.

وأنتبه الكاتب توماس فريدمان الى هذه النقطة في تعليقة على الحراك الشعبي الذي شهده العراق وايران ولبنان مؤخرا اذ كتب يقول انه في الوقت الذي تنتفض فيه هذه الشعوب بحثا عن الحرية والكرامة والديمقراطية وتتطلع الى واشنطون لمساندتها فأن الولايات المتحدة تتصرف كأي دولة من العالم الثالث اذ أصبح التمايز في نظامها السياسي على أساس قبلي بين جمهوريين وديمقراطيين وعلى حساب القيم التي تأسست عليه البلاد. وتلخص تجربة عزل الرئيس ترمب الوضع اذ تم التصويت على أساس حزبي ولم يشذ عن الاصطفاف وراء ترمب والحزب الا نائب واحد من الجمهوريين الذين رفضوا حتى استدعاء شهود مثل جون بولتون مستشار الامن القومي السابق لترمب. يضاف الى ذلك ان المسؤولين الذين شهدوا بما عرفوا ضد ترمب دفعوا ثمن ذلك ابعادا من مواقعهم الوظيفية، الامر الذي يثير علامات أستفهام أساسية عن دولة المؤسسات واستقرار قيم الحقوق والواجبات ومدى سيطرة الرئيس الذي أصبح يتصرف كأي من رؤساء العالم الثالث.

والامر لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط وأنما هناك تمدد للظاهرة في أوروبا وأسيا وهذه واحدة من التحولات التي يشهدها العالم مع تقدم الشعبوية على حساب العولمة والقيم الديمقراطية والليبرالية وأبرزها ما يجري في الهند التي أصبحت أسيرة لنموذج شعبوية رئيسها مودي وحزبه الهندوسي واستهدافه للمسلمين ولو على حساب مباديء العلمانية التي ظلت من أهم ملامح المشهد السياسي للبلاد، وهو ما دفع مجلة "الايكونومست" تناول وضع القضية في موضوع غلاف عنوانه "الهند غير المتسامحة".

أحد ملامح هذه التحولات الاتجاه الى الانكفاء الامريكي على الداخل والتراجع عن استراتيجية أستمرت سبعة عقود من الزمان وعبر مختلف الادارات والانشغال بمشاكل العالم والتركيز فقط على المواجهات العسكرية الكبرى مع الصين وروسيا. هذا الاتجاه الذي يدعمه جهد فكري من قبل بعض منظري اليسار واليمين الامريكي ووصل الامر بجورج سوروس المحسوب على اليسار واليميني شارلس كوخ أن يؤسسا مع بعض مركز أبحاث جديد مهتم بالتركيز على تفعيل العمل الديبلوماسي وتقليص التدخلات العسكرية. هذا الاتجاه دخل حيز التنفيذ عمليا من خلال الخطة التي قدمها وزير الدفاع مارك أسبر وسيتم بموجبها تخفيض الوجود العسكري الامريكي في أفريقيا بداية وانهاءه كلية ثم الانطلاق الى أسيا وأمريكا اللاتينية ويشمل ذلك هجر قاعدة عسكرية بنتها واشنطن حديثا في النيجر بكلفة تزيد على مائة مليون دولار ووقف تقديم العون للوجود العسكري الفرنسي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

أهمية هذا التحول فيما يلي السودان ان قضية مكافحة الارهاب التي كانت على قائمة الشروط الامريكية لم تعد أولوية أو ذات أهمية لواشنطون وهو مما يضعف من أهتمامها بما يجري في السودان، على ان ذلك يعني من ناحية أخرى افساحها المجال ودعمها لتحركات حلفاءها في المنطقة، وهو ما يظهر في علاقات ترمب الدافئة مع حكام مصر والامارات والسعودية للدرجة التي يخاطب بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بديكتاتوري المفضل واتصاله بالقائد العسكري الليبي خليفة حفتر المدعوم أماراتيا والمناويء لجهود الامم المتحدة في ليبيا وحكومة فايز السراج المعترف بها دوليا.

من الجانب الاخر فأن هناك أسئلة حقيقية تتعلق بمدى قدرة السودان على الاستفادة من رفع أسمه من قائمة الدول الراعية للآرهاب. وفي البال تجربة تخفيف الحظر الاقتصادي في بداية عهد ترمب، حيث شهد السودان بعده تراجعا ملحوظا في الاداء الاقتصادي وهو ما تم تفسيره وقتها بسوء الاداء والفساد الذي تميز به عهد الانقاذ. وفي حقيقة الامر فان ما جرى أثبت نظرية كثير من متابعي الشأن السوداني من الامريكان وتحديدا بعض الباحثين في برنامج أفريقيا في مجلس الاطلنطي في واشنطون ان العقوبات المفروضة على السودان استنفذت أغراضها وبدأت في احداث تأثير معاكس اذ أصبحت الشماعة التي تعلق عليها حكومة الانقاذ فشلها وانه من الافضل رفعها لتواجه الحقيقة أمام شعبها.

ومع ان تخفيف تلك العقوبات شمل فيما شمل التحويلات المصرفية الا ان الغالبية العظمى من المصارف حتى الخليجية منها رفضت التعامل مع السودان لعدم اطمئنانها من ناحية وعدم وجود نشاط اقتصادي يبرر قيام بالمخاطرة وربما التعرض الى غرامات أمريكية مثلما حدث مع بنك باريبا الفرنسي بسبب تعامله مع دول موضوعة على اللائحة الامريكية الخاصة بالارهاب. وحتى عندما اقترح السودان أن يقوم سيتي بانك الامريكي بأعادة فتح فرعه في السودان ليضرب مثلا حيا يشجع بقية المصارف من التعامل مع السودان تحججت الادارة الامريكية انها لا تستطيع أن تفرض على شركة خاصة القيام بخطوات معينة، وهو ما تكذبه وقائع سابقة ففي أواخر عهد الرئيس الاسبق جعفر النميري أوقفت شركة شيفرون عملها في السودان لاسباب أمنية والتقى وزير الطاقة وقتها شريف التهامي بمساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية شيستر كروكر الذي حمله رسالة ان تعمل الحكومة السودانية على التوصل الى اتفاق مع الحركة الشعبية وستعمل واشنطون من جانبها على عودة شيفرون للعمل، لكن تطورات الاحداث وتسارعها في السودان لم يوفر الوقت للتعامل مع تلك الرسالة حتى أطيح بالنميري ونظامه. سيتي بانك أوضح من جانبه أنه يحتاج الى مشاورة الحكومة الامريكية لمعرفة مستقبل علاقات البلدين قبل الاقدام على الخطوة.

واذا كان سوء الاداء العام والفساد على أيام الانقاذ أسهما في عدم الاستفادة من تخفيف الحظر الاقتصادي، فأن غياب الرؤية المسنودة بخطة عملية وعدم فعالية جهاز الدولة وضعف اداءه يهدد أي مكاسب محتملة أو معونات متوقعة بسبب الرفع المنتظر من قائمة الدول الراعية للأرهاب. وللاسف فنظرة على البرنامج المقدم من قوى الحرية والتغيير في منتصف أكتوبر الماضي وأمتد على مدى 122 صفحة فأن قضايا أعادة تأهيل جهاز الدولة لتنفيذ مهام الثورة لم يحظ بأهتمام يذكر عدا بعض العموميات كما لم يبرز في أولويات الحكومة التي يبدو انها وبعد مضي ستة أشهر من تكوينها لا تزال تتلمس طريقها وتقوم بخطوات وتصرفات بدون خطة واضحة ينظمها خيط واحد في أي مجال والا فما هو المردود السياسي او الاقتصادي للقاء رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وقبل ذلك زيارة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك الى منطقة كاودا؟

ولهذا فأن حذف أسهم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب لن يسهم الا باسقاط شماعة أخرى ظلت تخفي وراءها حالة العجز التي يمثلها ثلاثي عدم الجدية والاولويات المغلوطة وعدم قراءة الواقع كما هو وليس انطلاقا من أمنيات رغبوية ظلت تتسيد المشهد السوداني منذ الاستقلال وحان الوقت لمواجهتها اذا اريد للبلاد أن تبدأ بداية صحيحة.


asidahmed@hotmail.com

 

آراء