في ذكرى الكروان بابكر ود نوبة

 


 

 

ثمانية عشر عاماً مضت على رحيل الكروان وفنان التراث الشعبي الأول بمنطقة بحري كردفان ومحلية بارا بابكر عبد الله محمد احمد المشهور بـ(بابكر ود نوبة) والذي توفى لرحمة مولاه بمدينة بارا في يوم 16/يوليو/1993م بعدما اصابه داء (السرطان) فعجل برحيله، لذلك حزن عليه أهل المنطقة خاصة وقد ساهم في تشكيل وجدانهم من خلال أماسي الأفراح والليالي الملاح ويكفيه فخراً ما قاله عنه أحد الفطاحلة وهو المرحوم الباحث الطيب محمد الطيب وذلك من خلال برنامجه الشهير (صور شعبية) عندما قال: (بابكر وبابُكِر حفظوا تراث السودان القومي) في إشارة واضحة (لبابكر ود السافل وبابكر ود نوبة) كما أن الشاعر الكبير سيد عبد العزيز عندما زار مدينة بارا برفقة أصدقائه الشعراء (قاسم عثمان وحدباي والأمي) ورئيس رابطة شعراء الحقيبة الوجيه محمد الحسن قدري إحتفل بهم أهلها وكان ذلك في وجود ابنائهم الشاعر (عثمان خالد) والمطرب بابكر ود نوبة والذي غني في بداية البرنامج أغنية (قائد الأسطول) من نظم الشاعر (سيد عبد العزيز) الشئ الذي جعل الشاعر سيد عبد العزيز يعلق بقوله (والله حقو ناس الحقيبة يتركوها لك.. ولكن قول لي انت انصاري ولا شنو) فضحك الجميع ولعل ذلك يؤكد الحديث الذي سبق أن ذكره الجنرال الاستاذ أحمد طه عندما قال بأن المقصود بقائد الأسطول هو السيد عبد الرحمن المهدي وذلك حسبما سمعه من شاعر الاغنية سيد عبد العزيز ، لاسيما وان افادة الجنرال تتفق مع بعض المفردات الواردة في الأغنية:
يا قائد الاسطول تخضع لك الفرسان يا ذو الفخار والطول ارحم بني الإنسان
يا تري من تخضع له الفرسان سوى السيد عبد الرحمن المهدي (طيب الله ثراه)، كما ان الاستاذة اسماعيل خورشيد و احمد عثمان عيسى عندما حضروا لعرض مسرحية (عروس في المطار) استقبلهم أهل بارا بعندليبهم الشعبي (بابكر ود نوبة) وعندما استمع الاستاذ خورشيد لود نوبة أعجب بصوته القوي وقال بأن قوة صوته تلك تجئ مباشرة بعد صوت الفنان الكبير الحاج محمد احمد سرور "عراب الاغنية السودانية" ، وقد حكى رواية قال فيها (بأن المرحوم سرور عندما كان يغني في أبوروف يسمع صوته في شمبات) وكذلك كان ود نوبة عندما يغني في البكراوية يسمع صوته في الركابية، علماً بان ود نوبة كان يؤدي بمصاحبة كورس فني وبايقاع الدلوكة. وهو من جهة والده من الجوامعة الطريفية الذين يقطنون بمنطقة البيضاء ريفي ام روابة ويلتقون مع الجوامعة في جدهم (جامع بن سعد الفريد بن مسمار بن سرار) وذلك رغماً عن مولده بمدينة بارا عام 1930م، أما والدته فهي بتول عباس محمد كوكو وهي من (الجابرية القنابرة) وإن لقبت بـ(نوبة) وكانت زائرة صحية تطوف كل أصقاع دار الريح و عرفت بالشجاعة والاقدام من خلال ركوبها على ظهر الخيول والجمال خاصة في المناسبات السعيدة بل كانت ترتب للسوط عندما تبلغ منها الحماسة مبلغاً عظيماً مع غناء ابنها بابكر واحياناً تقوم بضرب الصبيان بالسوط وذلك حينما كان للبطان والسوط أثره الكبير على أهل تلك البوادي لذلك كانت مهابة عند المسئولين ويحكى بأن الرئيس نميري عندما زار مدينة بارا بعد انقلاب هاشم العطا عام 1971م وكان هنالك بعض ابناء بارا في الاعتقال بدعوى مساندتهم للشيوعين قالت له نوبة (يا رئيس رامنك بالنجمة أم ضنب) فقال لها (ماذا تقصدي) فقالت (أولادنا ديل محبوسين لاكتر من ستة شهور بالاشتباه والله نيمنا دا ما فاتوه) فقال لها النميري (والله لا ادري عنهم حاجة ولكن بمشيئة الله يطلق سراحهم اليوم من السجن) وبالفعل تم ذلك، إلى جانب أن نوبة امتازت بصوت عذب وجميل في شبابها لذلك ورث ابنها بابكر منها جمال الصوت وحسن التطريب ويذكر المخضرمون بأنها كانت تؤدي بعض الاغنيات الحماسية وخاصة اغنيات المقاومة كمثل الاغنية التي تقول في مطلعها:
يا نصراني يا خملة ويا مرحاكة الرملة
أما أشقاء الفنان بابكر فهم المرحوم/ محمد المشهور بـ(حنين) الذي كان له لوري تجاري كما ان شقيقته هي المرحومة مرضية والتي كانت معلمة ومن رائدات العمل النسوي، وقد تلقى بابكر تعليمه الاولي بمدرسة بارا الغربية ومن ثم عمل شرطياً و تحول للعمل في مكافحة الجراد الصحراوي مما اكسبه علاقة اجتماعية رائدة مع اهل دار الريح ولكن الغناء أخذه من كل تلك الحرف خاصة وأن مدينة بارا كانت محطاً لمقاومة الاستعمار حيث شهدت حدثين هامين أحدهما كسر مكمايكل مفتش مركز بحري كردفان في عام 1912م بواسطة ناظر الكواهلة آنذاك (عبد الله ود جاد الله) وما تبع ذلك من إعجاب عبرت عنه الحكامة (مستورة بت كوكو) في رائعتها (عشميق الأصم) والتي غنتها الحكامة( فاطمة بت فرج الله) بمنطقة الخيران وذلك قبل ان يصدح بالاغنية كروان التراث بابكر ود نوبة في الخمسينات من القرن الماضي فيزيدها ألقاً وشهرة ومن ثم تغنى بها المطربون في بلادنا ومنهم صديق متولى ولعلها كانت من الاغنيات الخالدة في وجداننا خاصة وهي تأصل لمقاومة الاستعمار لاسيما عندما قالت شاعرتها:
شدو لو ركب فوق اصهباً مربيك الهوج والشرق مرقن يعاينن ليك
العاقر تقول بلدي وبسمي عليك يا عيد الضحية البفتحولو البيت
رايو مكملوا كسر قلم ماكميك
وثانيهما حادثة حرق العلم بمدينة بارا والذي كان حدثاً عظيماً عام 1948م تم بقيادة مجموعة من شباب بارا، حيث قاموا بإنزال العلم الانجليزي وحرقه مما اضطر الانجليز سحب العلم المصري والقبض على اولئك الشباب ولكن المدينة بقيت ثلاثة أيام بلا علم يرمز للحكم الثنائي ومن ثم تم احضار علم انجليزي ورفع معه العلم المصري ولكن الحادثة كسرت حاجز الخوف عند الناس مما حدا بالحكامة (حميدة عبد الله) أن تؤلف قصيدة معبرة فيها عن كراهيتها لمفتش المركز (مستر بن) لأنه سجن زوجها بسبب عدم دفعه للطلبة فقالت:
شان أخر البرن ودوه لي السجن إنشاء الله مستر بن باكر يصودوا الجن
مما جعل الشاعر مكي مجمر يتلقف تلك الروح ويكتب قصيدة قال فيها:
مستر بن مرتك شينة بس كان راجل أنزل لينا
كما كان للحركة الوطنية دورها في إشعال فتيل المقاومة بمدينة بارا حيث تبارتض مجموعة الاتحاديين والاستقلاليين والشيوعيين في تقديم نموذج للنضال الحي فضاق المستعمر ذرعاً مما اضاف قيمة معنوية للمدينة و انعكس ذلك على الثقافة والغناء بمدينة بارا حيث شهدت نقلة لاغنيات التم تم بواسطة الموهوب على بشارة وكذلك كان الفنان الانيق محمد محجوب كما كان للحركة الكشفية اثرها الكبير على ذلك الابداع حيث برز جيل الكشافين ومنهم ابراهيم بركية ومحمد بخيت أرن وأمين الفاضل شداد ومحمد مهدي وحامد محمد حامد ومكي احمد دوليب وعطا المنان المستريح وعلى معروف وكان ذلك في حوالي عام 1941م وتزامن ذلك مع تأسيس نادي بحري كردفان الذي كانت تؤدى فيه لعبة التنس الى جانب تقديمه لبعض الخدمات الاجتماعية كالبناء والتعمير واطفاء الحرائق واقامة المخيمات الشبابية ودعم التعليم والاسهام في مؤتمر الخريجين ، كما كان لتكوين اندية الصبيان ببارا اثرها البالغ حيث كان المطرب محمد محجوب مرشداً لتك الاندية بل قام بتكوين فرق موسيقية هذا الى جانب وجود مجموعة مقدرة من المطربين والمطربات مثل (ود النور وام بارود والتومة البرين والرحمة محمد نور والنحل صباح الخير وأم بتوتو وبت المدير) ويذكر الناس لأم بارود اغنيتها الرائعة في وصف الحاج جديد عندما تقول:
يا بولاد الحديد وانت المرض الشديد وحقيت النبأ يا جديد
هذا إلى جانب شاعرات أخريات من أسر بارا منهن (الضمير بت قفة و آمنة بت مكاوي والحكامة بحر النيل حكامة النور عنقرة) كما ان المنطقة زارتها مجموعة من المطربات منهن (عائشة كرن) والتي تغنت بأغنية (عروسك الأرباب) إذ قالت: الليلة طاري التومة يا خليل متين القومة
عروسك الارباب ومهرك في السحاب تتشاب
كما غنت أيضاً رائعتها (الكوراك يوم ضرب) والتي اصبح يتغني بها ود نوبة من بعدها وتقول الاغنية:
الكوراك يوم ضرب حسب البروق بنشاف
الخيل روقوهن وشجعوا الخواف
أما المطربة الرحمة مكي (رحمة الدومة) فقد غنت قصيدة للاداري (عامر بشير فوراوي) الذي كان بمنطقة بارا في الثلاثينيات من القرن الماضي وقام بالقبض على عتاة الهمباتة (كرة وقنفود) بمنطقة (أب تبر) فقالت فيه:
بشكر تلباً كبير هوي يا ليلة حكاية عامر ودبشير
فيما غنت المطربة الكبيرة النحل صباح الخير بعض روائعها بالمنطقة كمثل قولها:
مرقوا الروبة الظليلة الملاك ما شاف متيلا
يابا الشيخ زندا خلاص خلاص قلبي أنملأ شالن جوز الكلو ختنو في محل الفدا
ومن أغانيها التي كانت تعجب الناس أيضاً:
يا أم كفلاً زي الرحل ويا المهرة الخايضه الوحل
مسجونك ما ليهو حل طال هجرو وطال بيهو المحل
جوز عينيك فنجال وراق واتحكم جلس الزراق
من لحظك نوم عيني انسرق وطول شعرك ليلة الفراق
يا ام وشاً تامي الملاح ويا أم خداً في الضلمة لاح
يا أم رمشاً زي السلاح ويا ام وصفاً حير صلاح
(صلاح هو ابو صلاح شاعر الحقيبة المشهور)
لذلك وجد الفنان الشعبي ود نوبة أرضية صلبة وقف عليها وفات كل اقرانه من المطربين والمطربات وكان ذلك بمساعدة كورسه المكون من (خميس ودريدقة) أولاً ثم صاحبه كورس آخر مكون من الثلاثي (ود الهجين ومحمد مبروك كنين والجزولي) حيث غنى في بداية ظهوره في الخمسينات اغنيات الحماسة التي كانت سائدة آنذاك كمثل اغنية حسان الزبير التي كتبها للشيخ (عبده عمر قش) عندما صدق له بنظارة الفراحنة تحت ادارة ناظر دار حامد ولكن الامر تعطل مما جعل الشاعر يعبر عن ذلك بقوله:
توري الما تور بقر يا كوكبي الضواي
كم اصلح دقون كانت لا فهم لا رأي
توري الما تور دواس توري الفي الخرطوم كايسلو ناس
وكذلك غني ود نوبة اغنية حكامة كجمر:
الباجا عربانا القيد والسجن لي ضوينا ما هانا
الزول العظيم شانا
ومن اغنيات الحماسة التي غناها ود نوبة اغنية (اخوان الرضية):
مرقوا اخوان الرضية وتكلوا الحوية فوق الحوية
مرق أب ايداً سخية بدي الكتير ما بدي الشوية
الكوراك يوم ضرب الحلة تتصنت ما بطرا الاضينة الامو تتقنت
يا أولاد العجوز الامكم عقرت احرتو الكف جميع الدنيا شن خلت
كما غنى للشاعرة بحر النيل" حكامة النور عنقرة اغنية (احمر عين هوشوه) والتي قالتها في بسالة النور عنقرة حين (كتلة اسحف) عام 1881م:
يا ناري لي المابقدروه احمر عين هوشوه
احمر عين هز فيكم جرح الضحى وشاف جريكم
من شايبكم لي صبيكم كان جريتو الموت راجيكم
وأيضاً غنى اغنية (كالو العاط في سماه) من نظم الشاعرة عائشة بت بدوي في مدح زوجها الفارس( محمود ود احمد) أحد حاميتي (كنجي واربعجي بلك) ببارا ومن امراء المهدية حيث قالت فيه:
كالو العاط في سماه مزاحو شين أجروا يا الشايلين جناه
في دهسيه ورهسيه اتبرد حتى ريشو يا جنيات الزول دا ميسو
ولم يغفل بابكر الغناء لدار حامد حيث غنى من مفردات الحكامة حواء بت تندل (كاسر يا جرو الخلا ابو ساجور) كما غنى لفارس الجوامعة حميدة ود بابكر من تأليف الشاعر (بت ود كيفو) أغنية (عجبي حميدة) والتي تقول مفرداتها:
الزول بدور عجبي حميدة ساتر عرضو ما ناسيهو ...الخ
وقد تناول بابكر بعض الاغنيات العاطفية مثل الاغنية التي تشجي وتطرب القلوب:
الجنين نور جافانا ليه طول يا حبيب
الجنين نور ما طبعك الاول ناظر بحري بالاول يا حبيب
أما رائعته التي كان يؤديها وهو ممسك بآلة الدلوكة فقد كانت تعجب الناس وهي اغنية (السفر راجينا فراق الليلة قاسي علينا يا ناس)، وعندما يغادر ود نوبة في رحلته لمحاربة الجراد الصحاري في دار الريح كان يستمتع بالجراري الجميل من قبائل الكبابيش ودار حامد وخاصة رباعية الجراري التي كان يترنم بها دوماً:
شولك سادر تابر ومهرك بدبل قادر
جوز ام قوف كان حاضر بخرب سوق ام بادر
وغنى بابكر الكثير من أغنيات التراث القومي منها (ابو زينب لي انا وخال فاطنة وعجبوني الليلة جو) وغيرها وكان يؤدي اغنيات الحقيبة بطريقة جميلة وبديعة، على كل كان بابكر شجاعاً ومجاملاً وانيقاً كما كان فارساً يثبت عند الصعاب وعندما زاع صيته انضم لفرقة فنون كردفان عام 1962م وطاف معهم كل ارجاء السودان من خلال مهرجان المديريات التسعة. فلله در تلك المدينة الفاضلة (بارا) التي صنعت الفطاحلة وجمعت الظرفاء والأدباء والمطربين فهي صورة في قصيدة شاعرها ابراهيم ادريس حينما قال:
يا بارا لو تتذكري بهجة عيال (عبد الودود)
العاشوا بي صدق الشعور وطيبة نفوس فايتة الحدود
رحم الله بابكر عبد الله (ودنوبة) وجعل الجنة متقلبه
////////////////////////////////

 

آراء