قضايا قانونية مترجمة: الفرق بين جريمة الاحتيال ومجرد الإخلال بالاتفاق: قضية حكومة السودان ضد (ه.ج. ش) 

 


 

 

قضية حكومة السودان*

ضد

ه.ج. ش/112/1957


خلاصة أسباب الحكم:

(1) لإثبات جريمة الاحتيال يجب أن يكون هناك غش وخداع سابق وباعث على تسليم المال أو المبلغ موضوع الاحتيال. وما إذا كان الفعل يشكل غشاً وخداعاً، فهذا يعتمد على وقائع كل قضية على حدة.

(2) التمييز بين قضية الإخلال بالعقد، وقضية الاحتيال بيّنٌ، وإن لم يكن سهلاً دائماً، ويستخلص القصد الجنائي من تصرفات المتهم وأفعاله اللاحقة لوقوع الفعل الذي يَحمِل على الرضا والتصديق.


ملخص الوقائع الثابتة بالقضية:

المتهم تاجر هندي ببورسودان والشاكي تاجر بمومبسا بشرق أفريقيا. في 12 يونيو 1956 كتب الشاكي من مومبسا إلى المتهم يخبره أنه يرغب في شراء ملح مسحوق ويستفسره عن السعر والكمية والسفينة التي يمكن أن ترسل عليها الشحنة.

رد المتهم ببرقية يعرض على الشاكي بيع ما بين 100 إلى 300 طن من الملح بسعر 155 شلن (الشحن: سيف c.i.f. مومبسا) على أن يكون الشحن في 26 يونيو 1956. ثم استمر تبادل الرسائل وأخيراً أُبرِم عقد البيع بالبرقيات المؤرخة 23 يونيو و24 يونيو حيث اتفق أن يشحن الملح على السفينة S. S. President Cattier  والمتوقع وصولها إلى ميناء بورسودان في 26 يونيو.

قبل 7 أيام على أقل تقدير من وصول السفينة أبلغ وكيلُ السفينة، المتهمَ أنه لا يوجد مكان شاغر بالسفينة لشحنة الملح.

ولكن برغم ذلك طلب المتهم من الشاكي ببرقية مرسلة في 24 يونيو أن يقوم فورا بتحويل ثمن الملح. وبالفعل قام الشاكي بتحويل المبلغ بشيك مرسل بالبريد الجوي تسلمه المتهم في 29 يونيو .

وصلت السفينة المذكورة إلى ميناء بورسودان في 29 يونيو وغادرت في الأول من يوليو بدون الملح موضوع القضية. وفي الثاني من يوليو أخذ المتهم الشيك إلى البنك العثماني حيث أودعه حسابه.

وكان قبل يوم من ذلك أي في الأول من يوليو قد بعث المتهم برقية إلى الشاكي يخبره فيها أنه لم يكن هناك مكان شاغر بالسفينة لشحنة الملح ووعده بأنه سوف يقوم بشحنه إلى مومبسا في السفينة التالية. ولكن الشاكي رد بالغاء صفقة شراء الملح.

والحقيقة لم يكن لدى المتهم في أي وقت من الأوقات ملح ولم يبذل أي محاولة لشراء الملح لشحنه إلى الشاكي ومع ذلك أودع الشيك بحسابه ولم يتخذ أي خطوة لرد المبلغ إلى الشاكي.

أدانت محكمة كبرى ببورسودان المتهم بجريمة الاحتيال تحت المادة 361 من قانون العقوبات السوداني وأيّد رئيس القضاء الإدانة.


الحكم


القاضي/ محمد أحمد أبو رنات/ رئيس القضاء:

أدين المتهم في هذه القضية أمام محكمة كبرى عقدت ببورسودان بجريمة الاحتيال تحت المادة 362 من قانون العقوبات.

لإثبات جريمة الاحتيال cheating يجب أن يكون هناك غش وخداع سابق ودافع على تسليم المبلغ موضوع الاحتيال والاحتفاظ به. وأما الفعل الكافي ليكون غشاً وخداعاً فهذا يعتمد على وقائع كل قضية على حدة.

وقد ثبت دون أدنى شك معقول أنه ما لم تتوفر مساحة شاغرة بالسفينة S. S. President Cattier فلا يمكن شحن الملح إلى مومبسا في التاريخ الذي حدده المتهم. وقد أوضح مستر رِيس وكيل النقل البحري في شهادته أمام المحكمة أنه قبل سبعة أيام على أقل تقدير من وصول السفينة أبلغ المتهم أنه لا يوجد مكان شاغر لشحن الملح البالغ 300 طن.

وكانت السفينة قد وصلت ميناء بورسودان في 29 يونيو 1956 وقد تأكد للمتهم في يوم 22 يونيو عدم وجود مساحة لشحن الملح بالسفينة وبات من المستحيل شحن الملح إلى الشاكي في الوقت المحدد. ومع ذلك بعث المتهم في 24 يونيو برقية إلى الشاكي يؤكد له فيها بأن الملح سوف يشحن في الموعد المتفق عليه، وطلب منه تحويل مبلغ 2,029.390 جنيهاً. وبناء على تأكيدات المتهم قام الشاكي بإرسال المبلغ بشيك بالبريد الجوي.

دفع المحامي العالِم عن المستأنف أن القضية ليست أكثر من إخلال بالعقدbreach of contract. ولكن هذا يعتمد على قصد المتهم وقت وقوع الفعل الباعث على حمل الشاكي على الرضا والتصديق. فأفعال وأقوال المتهم اللاحقة هي المعيار ولكنها ليست المعيار الوحيد. وقد أقر المتهم نفسه أنه قدَّم معلومات كاذبة. ولستُ في حاجة للدخول في تفاصيل كل هذه المعلومات الكاذبة ولكني أبرز هنا ما جاء برسالة المتهم في 29 يونيو 1956 والتي كتبها بعد وصول السفينة S. S. President Cattier حيث يقول:

"بناءً على تعليماتكم فقد قمنا بتجهيز البضاعة وتعلِيمها وإعدادها للشحن، ولكن يؤسفنا إبلاغكم أن البضاعة لن تشحن في هذه الباخرة. لقد فشلنا برغم نفوذنا وعلاقاتنا الطيبة".

وكما ذكر رئيس المحكمة الكبرى الموقر أن المتهم عند إرساله هذه الرسالة كان يعلم أنه ليس هناك ملح تم شرائه وفرزه وتعليمه وإعداده للشحن. بل في الرسالة نفسها حاول المتهم إغراء الشاكي بأن يشتري منه المزيد من الملح، ما بين 500 إلى 200 طن وذلك لحمله على إرسال المزيد من المبالغ النقدية.

وكان المحامي العالِم عن الدفاع قد أحال إلى إفادة مستر رِيس الواردة في إعادة الاستجواب cross-examination بالمحكمة حيث استعمل الشاهد رِيس كلمة "ربما" might. لكني لا اعتقد من واقع إفادة مستر ريس والأفعال والتصرفات اللاحقة للمتهم ومن واقع تجارب المتهم السابقة في التعامل مع شحن الملح، أنه يوجد مجال للقول بأنه كان يجهل ضرورة التأكد أولاً من وجود مساحة شاغرة بالسفينة قبل قبول الناقل شحنة الملح.

كذلك استند المحامي العالِم the learned advocate عن المتهم على المادة 1 (3) من قانون بيع البضائع الإنجليزي لسنة 1893. ولا أرى  هذا دفاعاً منتجاً، فالثابت أن الشاكي بعث برسالة واضحة إلى المتهم يخطره فيها بإلغاء الصفقة وذلك في 2 يوليو 1956.

إن أي شخص أمين في مكان المتهم سوف يصارح الشاكي بالحقيقة ولن يسحب النقود من البنك وإذا فعل فسوف يردها فوراً بعد إلغاء الشاكي الصفقة.

إن التمييز بين قضية الإخلال بالعقد وقضية الاحتيال بيّنٌ، وإن لم يكن سهلاً دائماً. فقد كان اتصال المتهم بوكيل الشحن البحري وبتجّار الملح هو جزء من خطة مدبّرة بإحكام من قِبل المتهم للتدليل على أنه كان راغباً في شراء الملح للشاكي.

كما أن المتهم احتفظ بمبلغ شراء الملح منذ 25 يونيو 1956 وحتى يناير 1957 وهو تاريخ فتح البلاغ الجنائي ولم يرد المبلغ بعد فتح البلاغ والحقيقة لم يرده حتى الآن. وقد كشفت البينّات أن المتهم قد أعلن إفلاسه ويواجه تنفيذ سداد ديون عليه.

لهذه الأسباب أويد الإدانة بالاحتيال تحت المادة 362 من قانون العقوبات السوداني ولكني أخفض العقوبة إلى سنتين. كما أويد الأوامر الأخرى.


*هامش:

نُشرت هذه القضية بمجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1957 ص 77 ونقلناها من الإنجليزية إلى العربية، فقد كانت المحاكم السودانية تصدر الأحكام القضائية باللغة الإنجليزية حتى سنة 1970.

قررنا عدم كتابة اسم المتهم كاملاً كما ورد بالحكم واكتفينا بالرمز إليه بالحروف الأولى ورقم القضية.




abusara21@gmail.com

 

آراء