كابلي … رمزٌ عبقريٌ

 


 

 

أي صوت زار بالأمس خيالي طاف بالقلب وغنى للكمال، واذاع الطهر في دنيا الجمال، واشاع النور في سود الليالي - إنّه صوت كابلي، او تدري من هو الكابلي؟، إنّه الرمز العبقري الذي ملأ الدنيا باسباب الهناء، وعطّر الليالي بابهى احلام المنى، وزرع الحب في الورى ينبوعاً دافقاً وحنيناً، وفوق كل هذا وذاك، هو نصفنا الآخر المحتوي على كل المعاني الملهمات، والشامل للاماني المترعات بالود النبيل والوجه الوضيء والسناء المضيء، المشرئب نحو رسم لوحة الوطن الجميل الكبير المجيد والجديد، المبني بسواعد بناته وبنيه شابات وشباب الغد الذي يملك الاجابات الصادقة، المفسرة لقضايا الاجيال الماضية وللقوى الشبابية المعاصرة وللكيانات الحاضرة، وهو العملاق المستمد عزمه وطمأنينته من فتيات وفتية الفجر السعيد مستبشراً بعودة فرحة العيد والأمل، صاعداً سلم المجد والسؤدد والكرامة والإباء، جاثماً على قمة الهرم الثقافي والادبي والفني، متوجاً سلطاناً على بساط الاغنية السودانية الدارجة داخل الوطن الحبيب، وملكاً من ملوك الاغنية العربية بالشرق الاوسط القريب، ومحاضراً عن تراث قومه ببلاد الغرب البعيد، سمعناه وشاهدناه بتلفزيون الجمهورية العربية السورية، وبقنوات التلفزة الامريكية مُفْحماً ومُعجِباً لمقدمي االبرامج، واستوعبنا محاضراته البليغة الملقاة بلغة الفرنجة، شارحاً ومنافحاً عن تراثه القومي التقليدي امام دهشة سكان بلاد العم سام.
حبيبة عمر الكابلي تفشى خبر سرها وعم القرى والحضر، بالرغم من انه اقام الحصون المحصّنة وخبأه من فضول البشر، إلّا أنه ذاع وعُلم وعرف عنه القاصي والداني والمتردي والنطيح ومأكول السبع، وتلقفته آذان القرويين واهل الحضر مع وجود هذه الحصون المحصّنة، ومع محاولات خيول الفضول القفز فوق السياج الساتر للستر المستتر، وما عاد يعي ما تقوله الحبيبة المسكينة الواقعة بين حبال شباك حب هذا الكاهن القائم بمحراب العشق والهيام، فما كان يلقي لها بالاً ولا يسمع لحروفها الصارخة صوتاً حتى اصطدم بالجدار المنيع ثم قالت ويحك، فنهض وهب واستيقظ من وهدة المهاد الطويل السهّاد القصير العمر، كيف لا وصوت الحبيبة ينساب منه الخطر، والتفت للحديث المثير المتواري خجلاً وحياءً خلف الستار الحذر، فما ذنب عبد الكريم في أن وهبه الرب الروح الشفيفة المهدهدة بجناح اغر؟، ومنحه المهجة التي جعلت من كفيف البصر ان يقف عاجزاً امام الجدار الذي لم يلن هوناً ولم ينشطر ولم يلو احد على اختراقه - جدار العشيقة التي كانت سبباً وقدراً في عزل القاضي المقيم.
الراحل اهدى ضنين وعده الهوى والفؤاد الباعث للحب الندي، متحدياً الحبيب بأن خيال شعره سوف يرتاد الثريا لو تجاوز الحسن ناموس الكون وبلغ مداه أشُدّه، ويتحداه بان إخفائه لتلك الصبابة تفضحه عيناه، وانه ما زال واثق الحطوة يمشي ويرسل من اعماقه الدفينة ويبعث من مشاعره الدفيقة الالحان شلالاً روّيا، ليبث لليل البهيم اسرار الهوى، وينسج ثوب الصبح والفجر الجديد بالوان الحضارة البابلية، ثقةً في الحكمة المنادية بأن خيال الشعر لا محال مرتاد للثريا، وأن الومضة اللحظية للاشراق يمكن ان يحيا على امل انقشاع برقها العشرات بل المئات والالوف من الهائمين والعاشقين والتائهين، دون اعتبار لمرورها السريع الخاطف والعاجل من غير ان تصغي الى الناس، إنّها الكلمة المخبأة في خافق الراحل المقيم، التي آلت على نفسها الا وان تخرج بعد ان ترفق بها في البحر والبر سيراً على الاقدام، قدم بقدم مع الحفاة العراة، مغذياً إيّاها من دم شريانه التاجي حتى غدت ذات جرس يأسر الاذن شجيا، فالجمال الآسر يقابله الكابلي بقريحة الشعر المستنطق للصخور العصيّة ليكبح البعد والصدود بالخيال المدرك للنائي القصي.
ايها الكريم عبد الكريم، لقد شهد لك احبابك بأنك رجل عصي الدمع شيمتك الصبر، فحينما ادلهمت الخطوب بالطائرة المنكوبة التي كانت تقلك ومن بعد ان تهددها خطر المهووسين، وكاد ان لا يصدقك الركاب وانت المطرب الحليم المشفق الرقيق الحس الفخيم النبرات، بحكم انهم لا يهمهم ولا يعلمون أن زمان الناس يكمن في هدوء البال، وأن زمانك كامن بين ازمنة الترحال، وادركوا مؤخراً ان حبك للناس اجمعين جعلهم يحبونك مثنى وثلاث ورباع، وأن شمعتك المضيئة ليلاً ونهاراً سال دمعها على الخدين لكي تضيء الدرب للآخرين القادمين الساهرين المجتمعين، ساكبة نور حياتها وراقصة تدور حول مدارات الامل المسحور، دون ان تدري أن مقياس هذه المسافات هي الدهور والسنون المليونية من الرحلات الماكوكية والضوئية.
رحمك الله يا عبد الكريم، لقد عهدناك عضواً رئيساً بمكتبة الوالد العزيز، حين كان صوتك عنصراً اساساً من عناصر دوزنة وجداننا، لك الرحمة والمغفرة ولذويك الصبر وحسن العزاء.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
5 ديسمبر 2021

 

آراء