كبوة الدكتور عبد الله حمدوك

 


 

 

لعل خيبة الامل والصدمة التي اصابت ثوار السودان عقب قرار الدكتور عبد الله حمدوك الذي اتخذه في 21 نوفمبر الماضي بتوقيع اتفاق مع قادة انقلاب 25 اكتوبر، لا يفوقهما شدة، الا الصدمة والخيبة التي اصابت السودانيين عند انفصال جنوب السودان. وخيبة الامل في قرار الدكتور حمدوك كانت مزدوجة، فالقرار كان بمثابة طوق النجاة لقادة الانقلاب بعد ان اُغلقت في وجههم كل السبل وكانوا قاب قوسين او ادنى من الغرق، ومن ناحية اخرى خيبة امل الثوار الكبيرة في الدكتور حمدوك نفسه الذي كان يمثل لهم رمز الثورة والحكم المدني ولم يتوقعوا ابدا منه هذا الموقف.
الفرق الجوهري بين جيل ثورة ديسمبر 2018م الذي يقود الثورة الان، وجيل اكتوبر 1964م وابريل 1985م، ان جيل ثورة ديسمبر 2018م راديكالي في منهجه يسعي الي تغيير جذري لتحقيق اهداف واضحة، بينما الاجيال السابقة لا زالت تسيطر عليها مفاهيم "الجودية" و "من فش غبينتو خرب مدينتو" وانتهاج اساليب مهادنة في مسائل لا تحتمل الحلول الوسطية. للأسف فان هذا الجيل المهادن هو من يتسيد المشهد حتى الان، وهو من تسبب في النكسة التي اصابت الثورة في 21 نوفمبر الماضي بحجة حقن الدماء بعد ان اُهدرت شلالات من دماء السودانيات والسودانيين خلال مجازر استمرت لثلاثة اسابيع. فهذا الجيل الذي اضاع ثورتي اكتوبر وابريل هو من أوعز للدكتور عبد الله حمدوك بقبول اتفاق مُذل مكن للانقلابين الاستمرار في مخططهم دون أي محاسبة، وحقق لهم كل ما هدفوا اليه في العبث بالوثيقة الدستورية ومزيد من احكام قبضتهم على مفاصل الفترة الانتقالية دون أي ضمانات في تحقيق المكاسب الضئيلة للثورة واهمها الاطلاق الفوري لسراح كل المعتقليين السياسيين بعد الانقلاب، والذي لم يتم حتي الان.
انطلاقاً من ذلك النهج المهادن اصبح الدكتور عبد الله حمدوك يتحدث عن ان الدولة لا تبني "بالغبائن" مبررا بذلك بعض مواقفه السياسية المهادنة واخطرها قراره في 21 نوفمبر الماضي. مثل هذه المواقف السلبية ليست جديدة في مسيرة حمدوك فقد اتحذ مواقف مشابهة في قضية د. عمر القراي والتي رضخ فيها للهوس الديني، ووالي كسلا والتي رضخ فيها لرغبة المعارضين مما شجعهم ان يعيدوا الكرة بعد حين بأغلاق كل الشرق متسببين في ازمة اقتصادية، اضافة الى عدم دفاعه عن وزير التربية والتعليم البروفيسور محمد الامين التوم والتخلي عنه ببساطة نزولا لرغبة العسكر. في واقع الحال فان ثورة ديسمبر المجيدة كانت رد الفعل الطبيعي لتراكم "الغبائن" الناتجة عن الاستبداد والفساد والظلم والاضطهاد وانتهاك حقوق الانسان خلال 30 سنة من حكم اسلاموى مزج بين " الكليبتوقراطية " و"الثيوقراطية" في السودان. فثورة السودان السلمية من وجهة نظر كاتب المقال، هي رد الفعل الواعي "للغبائن" التي تراكمت جراء ممارسات الحكم الإسلامي خلال ثلاثة عقود، للخروج بالسودان من ضيق القيود والاكراه والاستبداد، الى فضاء الحرية، ومن جور التحيز الاثني والديني والفساد، الى رحاب العدالة، ومن اهوال وانتهاكات الحروب، الي سكينة السلام والامن من الخوف. فهذه "الغبينة" موجودة في بنية التركيبة النفسية للإنسان نتيجة لما يقع عليها من ظلم، فاذا كان رد الفعل "المغبون" هو على الدوام "عفى الله عما سلف" و"من فش غبينتو خرب مدينتو" و"البلاد لا تبني بالغبائن الشخصية" سيتمادى الظالم في ظلمه، وهذا ما ظللنا نعاني منه منذ الاستقلال، نطفي "الغبن" بمثل هذه المفاهيم فاستقوي الظالمون علينا 52 عاماً وتمادوا في ظلمهم واستبدادهم. والان يريد جيل اكتوبر وابريل اطفاء وهج ثورة الشباب بنفس منهج "الجودية" العقيم.
من وجهة نظر كاتب المقال، فان اتفاق الدكتور حمدوك مع العسكر والذي يقول ان ذلك كان قراره ولم يتعرض لأي ضغوط داخلية او خارجية، فيه سوء تقدير منه للوضع وكبوة نامل ان يخرج منها، ونتج عن ذلك انتكاسة وخسارة بالغة للثورة. فكيف للدكتور حمدوك ان يتحذ مثل هذا القرار وهو تحت الاقامة الجبرية ولا يملك الرؤية الكاملة للمشهد ولا يمكنه الاستعانة بمستشارين قانونيين؟ وكيف له وفقا لتصوراته الشخصية ان يحدد مصير مسار الثورة الكلي؟ ففي الوقت الذي بلغ بالانقلابين الياس مبلغه وايقنوا ان حماقتهم اوصلتهم الي حافة الهاوية، جاء هذا الاتفاق منقذا لهم ووهبهم روح جديدة ودون أي تنازل جوهري عن مواقفهم، واهمها:
• الاصرار على اجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية.
• ضم الأحزاب السياسية التي كانت مشاركة في السلطة البائدة حتى سقوطها.
• الاصرار على اشراف مجلس السيادة على بعض بنود الوثيقة الدستورية.
• ادارة الفترة الانتقالية بموجب اعلان سياسي جديد.
النقاط اعلاه جوهرية وتمس الوثيقة الدستورية، ومعلوم ان الوثيقة الدستورية ابرمت بين العسكريين وقوي اعلان الحرية والتغيير، ولا حقا انضمت مجموعة سلام جوبا كطرف ثالث. والسؤال هو باي صفة يبرم الدكتور حمدوك اتفاقاً مع احد الاطراف الوثيقة الدستورية في مسائل تتعلق بأجراء تعديلات عليها دون وجود الاطراف الأخرى؟ نامل من القانونيين توضيح مدي شرعية هذا الاجراء.
المشكلة الأخرى، ما هي الالية التي ستتم بها المشاورات لتوسيع المشاركة؟ وكم سيتطلب ذلك من وقت، فقد اوضحت التجربة ان مثل هذا المشاورات لا تصل الي نتيجة؟ وكيف سيشكل الدكتور حمدوك حكومته بعيدا عن الاحزاب السياسية؟ وهل سيتمكن من اقناع كفاءات ذات قدرات حقيقة بالمشاركة معه تحت ظل الانقلاب العسكري الراهن الذي يراس حكومته، ام سيضطر بالاستعانة بمن يقبل العمل معه في هذا الوضع بغض النظر عن المقدرات؟ ونفس هذا التساؤل عن مدراء المؤسسات والجامعات، هل سيقبلون العمل معه تحت مظلة الانقلاب، وقد استقال بعضهم بالفعل كنتيجة لهذا الاتفاق؟
من ناحية اخري ليست هنالك أي ضمانات ان ينفذ العسكر كل ما يليهم في الاتفاق. وقد ظهرت بوادر ذلك في البند المتعلق بالإطلاق الفوري لكل من اعتقل بعد الانقلاب، حيث لا زال الكثيرين في المعتقلات حتي الان، بل لا زالت حملات اعتقال مزيد من الناشطين متواصلة بعد توقيع الاتفاق. ولا ادري لماذا لن يشترط الدكتور حمدوك اطلاق جميع المعتقلين قبل أي توقيع.
برر حمدوك ان الاتفاق جاء لحقن الدماء، ربما كان ذلك سيكون منطقياً اذا حدث الاتفاق قبل اراقة كل هذا الدم، اما وقد حدث يصبح هذا المبرر لا قيمة له. كيف يضمن الاتفاق ان الجنرال لن يطلق أيدى زبانيته الامنية وتحريك آلة القتل والاعتقالات عندما يجد نفسه قريب من الهاوية مرة اخرى؟ فمن الواضح انه يعمل على حماية سلطته مستندا علي العنف الدموي مجيٍّراً كل سلطاته بصفته في قمة هرم المؤسسة العسكرية ومقدراتها المادية في ذلك. فتاريخه القريب يقول ان خلال فترته الاولى من 12 أبريل 2019م وحتى 5 يوليو 2019م في الحكم قامت قواته الامنية وباعتراف الناطق الرسمي لمجلسه العسكري بفض اعتصام القيادة مما تسبب بمجزرة راح ضحيتها 128 شهيد ومئات الجرحي والمفقودين وعشرات من حالات الاغتصاب، وقد فاق عدد شهداء الثورة تحت سلطته في فترته الاولى اولئك الذين استشهدوا تحت بطش المخلوع الذي امتد في الفترة من 19 ديسمبر 2018م الي 11 أبريل 2019م. والان خلال فترة حكمه الثانية من 25 اكتوبر الي 21 نوفمبر 2021م وصل عدد الشهداء 42 ومئات الجرحى، هذا اضافة الى اعتقال عدد كبير من الوزراء والسياسيين والنشطاء. فهذه المجازر التي ارتكبها زبانية الانقلاب المشئوم باستخدام مقدرات وسلاح الدولة لإزهاق ارواح الاطفال والشباب والكهول من الجنسين في معركة القيم الانسانية السامية ضد الاستبداد والانانية، تدلل على العنف القاتل الممارس خلال فترات سلطته. فبينما الثوار يهبون حياتهم في سبيل ارساء قيم الحرية والسلام والعدالة للجميع ويُقتلون بسلاح يدفعون ثمنه، نجد سلطات الانقلاب لا تتوانى في قتل الاخرين في سبيل احتفاظ الجنرالات بمكتسباتهم وتوفير الحصانة لأنفسهم بالحفاظ على السلطة لأطول مدى ممكن، باستخدام مقدرات وسلاح الدولة.
نخلص الي ان مثل هذا الاتفاق لن يقدم حلاً مُرضياً للثوار، ولن يعصم الانقلابيين، وكل من اجرم في حق الشعب السوداني من المحاسبة، وستستمر الثورة في طريقها حتي تحقق اهدافها. ولن يفعل هذا الاتفاق اكثر من تأجيل الانتصار الكامل للثورة.
25 نوفمبر 2021م
sameirali@live.com
/////////////////////////

 

آراء