“ما بعد الجنجويد- فهم مليشيات دارفور”، لجولي فلينت – عن غفلة الناس الساكنين في الخريطة المصنوعة .. عرض: الوليد محمد الأمين

 


 

 

صدر هذا التقرير في طبعته الأولى في العام 2009، ونشر في سويسرا بواسطة مشروع مسح الأسلحة الصغيرة كما كُتب في الصفحة الرابعة من النسخة العربية، وهو كما يشير التعريف مرتبط بالمعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية. وفي ويكيبيديا العربية على شبكة الانترنت نجد تعريفا مفصلا لهذا المشروع ونشاطاته ومشروعاته ومطبوعاته، نقتبس منه أنه مشروع بحث مستقل موجود في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف بسويسرا، وهو يوفر معلومات نزيهة وعامة حول كل أوجه الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة، كمورد للحكومات وصناع السياسات والباحثين والنشطاء، بالإضافة إلى الأبحاث المتعلقة بأمور الأسلحة الصغيرة. والتقرير، أو “المطبوع “، كما سُمي في النسخة العربية، قامت بإعداده السيدة جولي فلينت، والتي لا تتوفر عنها معلومات غزيرة على شبكة الانترنت رغم تأليفها لأكثر من كتاب وعملها الصحفي. يجيء تعريف السيدة جولي في موقع قوقل بوك بأنها صحفية وصانعة أفلام. أما في المطبوع نفسه فقد جرى تعريفها كصحافية وباحثة في الشئون السودانية، ألّفت كتابين عن دارفور بالاشتراك مع اليكس دي وال آخرهما "دارفور تاريخ جديد لحرب طويلة"، (مع أن الترجمة الأمثل أو الحرفية للكتاب هي: "دارفور: تاريخ قصير لحرب طويلة")، ونشرت فصلا عن الحركات المتمردة في كتاب ثالث بعنوان "دارفور: الحرب والبحث عن السلام"، عملت مستشارة في نزاع دارفور ومحادثات السلام بين الأطراف السودانية في أبوجا لمنظمات عالمية وجماعات حقوق، وحضرت أربع جلسات للمحادثات بين سنتي 2004 و2006. وهي كذلك وفقا للتعريف بها، تقسم وقتها بين لندن والشرق الأوسط. كما عملت من كولومبيا إلى الصين وفازت بالعديد من الجوائز. من الواضح إذن أن للكاتبة اهتماما جيدا بدارفور ومعرفة معقولة بما يحدث فيها، وفي المطبوع الماثل بين أيدينا تقول الكاتبة إنها حضرت بنفسها في جبال سيرو اجتماعا بين المتمردين ورجال مليشيات قبيلة أولاد راشد البدوية.
في ملخص المطبوع وُصِف المؤلَّف بورقة العمل، وجاء فيه أن ورقة العمل هذه تتمعن في تعبئة سنتي 2003-2004، كما تسعى إلى تمييز هذه الفترة من الحرب عن السنوات التي أعقبت ذلك، وتُجادل، أي ورقة العمل، بأن النزاع والمليشيات وأدوارها قد تغيرت كلها مع الوقت، وهي حقيقة، تقول المؤلفة، إنها مفقودة في السرد المتواصل عن "الجنجويد" و"الضحايا". من المهم ربما قبل الاسترسال في استعراض التقرير الإشارة إلى المنهجية الأكاديمية التي اتبعت في كتابة ورقة العمل هذه رغم بعض الهنات البسيطة التي تكاد لا تذكر.
أما في الملخص التنفيذي للورقة فنجد المؤلفة تُحدد بوضوح أن ورقة العمل هذه لا تقدم سردا شاملا للعشرات من المليشيات القبلية المسلحة التي سلّحتها الحكومة أو تعاونت معها، كما لا تتناول الورقة انتهاكات حقوق الانسان، بل تسعى الورقة إلى فرز المليشيات والبدء في فهم دوافعها ومظالمها. كما تُجادل الورقة، بحسب المؤلفة، بأنه من دون اشراك عرب دارفور فلن يكون هناك حل مستدام للنزاع، ذلك أن هذه المليشيات العربية هي جزء من المشكلة وينبغي أن تكون جزء من الحل. والمطبوع كما أسلفنا نشر في العام 2009.
يقع المطبوع في 68 صفحة شملت في محتوياتها خرائط وإطارات، مصطلحات ومختصرات، نبذة عن المؤلفة، شكر وامتنان، ملخص (شمل خمسة عناوين: ملخص تنفيذي، تعبئة المليشيات، التمرد العربي، لا سيطرة للحكومة على القبائل العربية، الخاتمة)، بعد ذلك توجد الحواشي وثبت المراجع ثم أخيرا خرائط وإطارات.
غير أن ما أود التركيز عليه في عرض الكتاب هنا، وهو بلا شك بعض ما سيخرج به القارئ للتقرير، هو مدى غفلة غالب السودانيين، وأخص هنا السودانيين النهريين كما في تعبير الدكتور محمود محمداني لوصف السودانيين في شمال وشرق السودان، غفلتهم وعدم انتباههم لما كان يحدث ويتخلق منذ زمن طويل في منطقة دارفور، ما انتهى في النهاية إلى حرب الخرطوم الأخيرة والاستهداف الممنهج لساكنيها ولإثنيات بعينها تحت مسميات مختلفة. فمرة تحت مسمى الفلول، ومرة تحت مسمى الكيزان ثم دولة 56 في إشارة إلى الدولة الوطنية في السودان بعد خروج الاستعمار في 1956، غيّرت المليشيات التي طورت نفسها واستراتيجيتها من مجرد عصابات صغيرة ثم مليشيات تحت إمرة الحكومة تكتفي بالغنائم، طورت نفسها إلى جيش كامل خاض في النهاية حربا ضد جيش الدولة الذي ترعرع في كنفه، بل و"خرج من رحمه" كما في تعبير قادة الجيش السوداني نفسه غير مرة قبل الحرب الأخيرة، قاصدا الدولة نفسها كغنيمة هذه المرة.
ترى الكاتبة أن استعانة الجيش السوداني بالمليشيات ترجع في بعض أسبابها لضعف الجيش المحترف، وفي ذلك تقول الكاتبة في موضع آخر: لقد دمرت الجبهة القومية الإسلامية جيشا محترفا بوصف ذلك جزء من جهودها الرامية إلى إنشاء دولة إسلامية. ولكنها بالمقابل ترى أن كلا من الجيش والمليشيات قد استخدم الآخر، فالمليشيات استخدمت الجيش للحصول على الرواتب وغنائم الحرب والأرض والانتقام. ولكن الأمر انتهى بعجز الحكومة عن السيطرة على المليشيات، وهو ما قاله في وقت ما (مايو 2008)، الدكتور نافع علي نافع المسئول الحكومي الكبير في حكومات الإنقاذ لبعض المسئولين الأمميين، ولكن العداء ضد حكومة السودان وقتها لم يترك لمثل هذا القول آذانا صاغية. وهو ذات ما كان قاله ما قاله المبعوث الخاص للأمم المتحدة يان برونك بشكل مبكر في 2004 في تقريره لمجلس الأمن من أن الحكومة لا تسيطر على قواتها بالكامل.
كان من أسباب الاستعانة بالمليشيات أول الأمر في عهد المشير سوار الدهب (رئيس المجلس العسكري الانتقالي بعد سقوط حكم الرئيس جعفر النميري في العام 1985) ترى الكاتبة، ضخامة التكلفة المالية لتعبئة الجيش وقتها وعدم شعبية التجنيد وكذلك الشك في ولاء العديدين من ضباط الجيش. واستمرت هذه المسألة فيما بعد في حكومة السيد الصادق المهدي تحت إشراف وزير الدفاع وقتها الجنرال فضل الله برمة ناصر المنتمي إثنيا لذات القبائل التي تتكون منها قوات الجنجويد، فوفقا لممداني في كتابه "دارفور منقذون وناجون-السياسة والحرب على الإرهاب"، فقد سلّحت الحكومة في عهده البقارة بأسلحة أوتوماتيكية في مليشيا سميت بقوات المراحيل، كان الغرض منها التصدي لمقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان. وبالمقارنة مع قوات الدفاع الشعبي والمجاهدين المؤدلجين الذين كانت خدمتهم تجازى بالغنائم، تقول الكاتبة إن الأبالة غير المتعلمين والفقراء كانوا يطلبون نقدا وليس أيديولوجيا.
وترى الكاتبة أن اللحظة الحاسمة في عملية مكافحة التمرد حلت في 25 أبريل 2003، عندما نجحت قوة مشتركة من جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة في الهجوم على مطار الفاشر وتدمير الطائرات العسكرية في المنطقة العسكرية للمطار وقتل أكثر من 70 من الجنود والفنيين وأسر أكثر من 30، كان منهم قائد سلاح الجو اللواء إبراهيم بشرى إسماعيل والاستيلاء على أسلحة أكثر مما كان يمكنهم نقله، منها مدفعي هاون وقاذفات صواريخ ومدفعا مضادا للطيران وغير ذلك.
غيّر الهجوم كل شيء تقول الكاتبة، وعزمت الحكومة سرا على سحق المتمردين وكل من يتعاطف معهم، وكتمهيد لذلك أطلقت سراح الزعيم القبلي موسى هلال الذي كان قيد الإقامة الجبرية، وذلك بعد موافقته على المساعدة في قتال المتمردين الزغاوة، والذين كانوا في ذلك الوقت قد سرقوا إبلا تعود لعشيرته، أم جلول. جاء إطلاق السراح هذا تقول المؤلفة، تحت إلحاح نائب الرئيس السوداني وقتها علي عثمان محمد طه، والحاكم السابق لولاية شمال دارفور اللواء عبد الله صافي النور. لم يكن موسى هلال على كل حال بالشخص الذي يمكن الوثوق به تماما، فأثناء إقامته الجبرية في الخرطوم كان قد اتصل غصبا عن الحكومة، كما تذكر المؤلفة، بعبد الواحد محمد نور رئيس جيش تحرير السودان عبر وسيط، كما أنه كان قد أخبر شيخا كبيرا من شيوخ الطريقة التجانية أكبر الطرق الإسلامية انتشارا في دارفور، أنه سيقاتل الحكومة مالم ترفع عنه الإقامة الجبرية. وبعد عودته إلى دارفور بأقل من شهر تقول المؤلفة إنه اتصل بوسيطه السابق مع عبد الواحد، المحامي حافظ يوسف، مخبرا إياه أنه كان قد اجتمع بحاكمي شمال وجنوب دارفور عثمان كبر والحاج عطا المنان، وتورد المؤلفة أن حافظ يتذكر قول هلال:" انضم إلينا، لدينا المال إذا كنت ترغب في ذلك. مشكلة العرب هي مع الزغاوة، وهذا هو سبب انضمام العرب إلى الحكومة".
تذكر المؤلفة أن موسى هلال كان منذ مطلع شبابه وحتى في المدرسة الابتدائية شخصية مثيرة للجدل ومشاكسا وغير مطيع، ولكن شخصيته القوية هي ما جعلت شيوخ المحاميد يختارونه خلفا لوالده في العام 1986 ناظرا للقبيلة وهو في سن السادسة والعشرين، مفضلينه على أخيه الأكبر الأكثر ميلا إلى الهدوء وعلى ابن عمه كذلك. وفي فترة من الفترات قررت لجنة الأمن الإقليمي في الفاشر بالإجماع تعليق زعامته للمحاميد متهمة إياه على حد تعبير الحاكم وقتها التجاني السيسي، بالتحريض على الكراهية والصراع القبليين. وتذكر المؤلفة أنه وبعد 13 عاما من ذلك أبعده الحاكم الجنرال سليمان (في الغالب أن المقصود هنا هو الفريق إبراهيم سليمان والي دارفور في بعض أوقاتها) من دارفور للسبب نفسه وإن استخدم التهرب من الضرائب ذريعة لذلك.
لم تكن عشيرة أم جلول بعيدة عن التقاطعات السياسية في الإقليم وفي المنطقة قبل ذلك، إذ تذكر المؤلفة أن الشيخ هلال عبد الله والد موسى هلال، كان واحدا من الذين اختارهم القذافي في سعيه لإقامة حزام عربي عبر افريقيا، فتسلح العديد من عرب دارفور في الثمانينات تسوقهم أجندة الهيمنة العربية. من الواضح أن طموحات القبائل العربية في دارفور، وربما في مناطق أخرى من السهل الأفريقي، كانت متجاوزة لمفهوم الدولة القطرية وهو ما وافق هوى لدى عقيد ليبيا صاحب الأفكار الأممية والأمين على القومية العربية بوصف الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، اللقب الذي راق للقذافي وكثيرا ما رافق اسمه لفترات طويلة.
تداخلت عوامل متعددة في اتجاه القبائل العربية للتمرد على السلطة المركزية أو التمرد على وجه العموم، من ذلك الاشاعات التي انتشرت في وقت ما عن تخطيط الحركات المسلحة من غير العرب لطرد جميع العرب من دارفور، ومن ذلك سبب مهم قامت به الإدارة الاستعمارية البريطانية التي كانت قد اعترفت بدُور أو أوطان لكافة جماعات دارفور المستقرة تقريبا بمن فيهم البقارة، ولكنها تركت الأبالة دون أرض. ومن الواضح أيضا أن العنصرية في دارفور ذات تاريخ متجذر رغم ذلك، وهو تاريخ لا يقتصر على دارفور ولكنه يمتد ليشمل الدول التي يمتد عبرها الحزام العربي بتعبير القذافي من تشاد والنيجر ومالي، ولكن الاصطفاف أو الفرز العنصري زاد في العقود الأخيرة بعدما دخلت دارفور ضمن تقاطعات السياسة الدولية في زمن الحرب الباردة والصراعات في منطقة بحيرة تشاد. وتورد الكاتبة قول من سمته بأحد أعيان قبيلة المسيرية المصنفة كقبيلة عربية:" كنا خائفين، فان لم نقف معا فسيكون مصيرنا الانتهاء. لقد توقفت الحركات عن قتال الحكومة، إذا كنت عربيا فسيوقفونك في الشارع، وإن لم تكن عربيا فبوسعك الذهاب حيثما تريد".
وعلى الرغم من ذلك وتاريخ العداوات الطويل فقد تعامل القادة من الطرفين في العديد من المرات ببراغماتية لم تأبه لحقوق الضحايا من الجانبين، إذ وقعت المليشيات العربية باختلافها عددا من الاتفاقيات مع حركات التمرد غير العربية ، منها اتفاق حميدتي مع حركة عبد الواحد في يونيو 2007، وحميدتي مع حركة العدل والمساواة في ابيشي التشادية في مارس 2006، وهناك اتفاق موسى هلال مع العدل والمساواة كذلك في أدري بتشاد في مايو 2006 ، وذلك عن طريق شقيقه المحامي حسن هلال الذي يعمل في الخليج وشقيق خليل إبراهيم زعيم العدل والمساواة، جبريل، والذي كان مستقرا في الخليج حسبما ذكرت المؤلفة. وهناك اتفاقات أخرى تعرضت لها الكاتبة.
من الملاحظ ارتباط كل من الحركات والمليشيات بتشاد، وذلك يرجع بالطبع إلى امتدادات كل منهما القبلية في تشاد وما وراءها، وعلى كل حال فإدريس دبي الرئيس التشادي وقتها كان هو من أعطى المجموعة العربية المتمردة الأولى مركبتها الوحيدة. وتذكر الكاتبة أن هذه المجموعة كان اسمها جيش القوات الشعبية، وقادها صلاح محمد عبد الرحمن المعروف بأبي ثورة، والذي تصفه باليساري المخضرم من عشيرة الشاطية التي يتبع لها حميد موسى كاشا (المقصود هو عبد الحميد موسى كاشا، عمل حاكما لولاية شرق دارفور في عهد حكومة الإنقاذ وتولى مناصب أخرى، وهو من قبيلة الرزيقات).
يحفل المطبوع بالعديد من الأسماء التي سيكون لها دور مؤثر في مآلات الأحداث في دارفور وفي السودان عموما، كذلك يوضح المطبوع أن عجز الحكومات السودانية عن التعامل بحكمة مع مسألة دارفور ليس نابعا بالضرورة عن رغبتها في بقاء الوضع كما هو عليه أو السيطرة على مقدرات المنطقة كما تدعي الحركات المطلبية، بل ربما كان ذلك نتاجا لعدم الالمام بتعقيدات المنطقة وتداخلاتها مع الجوار غرب الافريقي والامتدادات القبلية للمجموعات السكانية في دارفور في تلك المناطق. كذلك فإن واحدة من الأخطاء التي ارتكبت ترى الكاتبة، كانت هي مسألة الإفلات من العقاب، وهي بالطبع لا تشمل فقط منطقة دارفور، فعلى تاريخ الممارسة السياسية السودانية ساد مبدأ عفا الله عما سلف كتبرير للإفلات من العقاب، ترافق ذلك هنا في مسألة دارفور مع استمالة الحكومة للأطراف المناوئة وتفتيتها باستخدام سياسة الترغيب والوعود بالمناصب الوزارية، بل إن الحركات والمليشيات نفسها تعاملت مع المناصب كغنائم دون النظر لما تتطلبه تلك المناصب من مؤهلات مطلوبة، فأدى ذلك ضمن ما أدى إلى ترافق الإفلات من العقاب مع تعيين أناس بلا كفاءة، ما نتج عنه المزيد من انهيار للخدمة المدنية المنهارة من قبل ذلك. إضافة إلى ذلك فقد كان الفساد الملازم للجيش السوداني واحدا من أسباب الغبن والفشل في إدارة المعركة على وجه العموم، ففي الوقت الذي كانت مرتبات الجنود تبلغ 350 ألفا (137 دولارا)، فقد كانوا يتلقون فقط 200 ألف جنيه سوداني (78 دولارا)، بينما يلعق الضباط بقية المبلغ، تقول الكاتبة. ولم يكتشف الجنود الأميون ذلك إلا بعدما قرأ لهم السجناء المتعلمون قسائم المرتبات.
تؤرخ الكاتبة للظهور الأول لمحمد حمدان دقلو بتقرب الاستخبارات العسكرية منه. وتصفه الكاتبة بأنه ابن شقيق جمعة دقلو ومعروف باسم حمتي، وتقول إنه كان يعمل في تجارة الإبل قبل الحرب، ولكن متمردي الزغاوة هاجموا قافلة له وسرقوا حسب زعمه تقول، 3400 رأس حيوان وخطفوا 77 شخصا من بينهم 10 أشخاص من أقاربه. وبعد موافقته على الخضوع لتدريب عسكري عُهد إليه أمن منطقة نيالا. لقد كان ذلك تطورا صغيرا إذا نُظِر إليه ضمن سرديات الحروب في دارفور، ولكنه وفي ظل ما ظهر بعد ذلك من طموحات حمتي وسوء إدارة الدولة السودانية، كان تطورا دراماتيكيا استحال إلى التهديد الوجودي الأكبر والأشرس للدولة السودانية ما بعد الاستعمار.
ومع بروز حمتي تقول الكاتبة، تم استيعاب 400 من قبيلة الماهرية في شرطة الاحتياطي المركزي بعد التدريب في الفاشر. وفي موضع آخر من الكتاب تضع المؤلفة شرطة الاحتياطي المركزي كواحدة من المجموعات العسكرية في دارفور التي تشمل بالإضافة إلى القوات المسلحة السودانية ما سمتها الكاتبة بالجماعات شبه العسكرية (قوات الدفاع الشعبي)، والشرطة الشعبية (التي تصفها بقوة إسلامية أعضاؤها بالأساس من قبيلة الرزيقات)، وحرس الحدود (المكونة أساسا من قبيلتي الرزيقات الشمالية)، والشرطة البدوية. وعن الاحتياطي المركزي تقول إنها أضحت أكثر نشاطا في دارفور وكردفان المجاورة، وتصفها بأنها قوات تتبع رسميا لوزارة الداخلية السودانية ولكنها تتلقى أوامرها على الأرجح من جهاز الأمن الوطني والمخابرات بقيادة صلاح قوش.
ومن مصادر أخرى غير التقرير أو المطبوع الماثل أمامنا، نجد أن قوات الاحتياطي المركزي التي استوعبت فيها 400 من قوات حمتي كما ذكرت الكاتبة، هي قوات شرطية تأسست عام 1974، وسميت بهذا الاسم في العام 1992، يقدر عدد منتسبيها بـ 80 ألف عنصر، وهي مسلحة تسليحا فعالا يشمل مختلف الأسلحة، بما في ذلك الطائرات المروحية ومضادات الطيران والرشاشات وغيرها (صفحة الجزيرة نت على الانترنت)، وبحسب المصدر ذاته فإن فكرتها بدأت قبل ذلك، وتحديدا في عام 1970 عندما أنشأت مديرية الخرطوم قوة للدفاع المدني قوامها فصيل واحد تم تدريبها في ألمانيا الاتحادية لتكون قوات احتياطية لقوات الشرطة بولاية الخرطوم والولايات الأخرى، ولا سيما في أعمال الشغب والمظاهرات من أجل أن تتفرغ الشرطة العادية لأداء دورها في منع أو اكتشاف الجرائم. أما في الخرطوم، فقد شاع عن هذه القوات استعمالها المفرط للعنف والقوة ضد المتظاهرين السلميين، وفي مارس من العام 2022 فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على قوات الاحتياطي المركزي بعد اتهامها بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أثناء فض المظاهرات المدنية التي طالبت بإنهاء الحكم العسكري خلال الاحتجاجات التي اندلعت في الخرطوم منذ إجراءات الجيش بحل الحكومة المدنية يوم 25 أكتوبر 2021، مما أدى إلى مقتل عدد كبير من المتظاهرين المدنيين وجرح الآلاف.
ولكن حمتي ما فتىء يلعب لصالح أوراقه الخاصة ومصالحه، ففي مارس من العام 2006 وقّع حمتي تفاهما مع حركة العدل والمساواة يقضي بعدم الاعتداء المتبادل، الأمر الذي تقول الكاتبة إنه لا يبدو أن الحكومة، أو الرئيس البشير، كان على علم به، وتستدل على ذلك بأنه في شهر سبتمبر من العام 2006 استُدعي حمتي إلى الخرطوم لعقد اجتماعين مع الرئيس البشير ووزير الدفاع وقتها عبد الرحيم محمد حسين، حيث عُرض عليه أسلحة وسيارات لإيقاف هجوم المتمردين. قَبِل حمتي ذلك تقول الكاتبة وجمع بين أعمال الحكومة وأعماله الخاصة، فطارد قائد الزغاوة الذي سرق إبله في العام 2003.
ولكن حمتي الذي استشعر ضعف الحكومة أو على الأقل حوجتها لخدماته، استغل ذلك استغلالا جيدا، ففي شهر أبريل من العام 2007 ارتفع التوتر بين المحاميد والماهرية لما قُتل محمد هادي عمير ابن عم حميدتي والشهير بدغيرشو في حفل زفاف، وذلك بعد أيام قليلة من قيام رجاله باعتقال 12 من رجال موسى هلال زعيم المحاميد القوي هو الآخر. رفض الماهرية الدية وطالبوا بحياة موسى هلال الذي أقسم على القرآن بعدها أن لا علاقة له بمقتل دغيرشو، ولكنه قبل ذلك كان قد رفض وساطة الحكومة وطوّق مجمعه بمتراس من سيارات التويوتا لاندكروزر وأرجع وفدا حكوميا رفيعا ضم صافي النور وعثمان كبر. وكان حمتي قد هدد باقتياد لواء دغيرشو إلى المتمردين في جبل مرة إذا لم تُعط الحكومة رواتب الجيش لخمسمائة من رجاله ودفعت تعويضات لأسر من سقطوا في القتال وإعطاء الماهرية النظارة والمحلية. سُوِّي الخلاف كما ذكرت المؤلفة بقَسم موسى هلال ووعدت الخرطوم بتقديم 50 مركبة و500 ألف دولار للماهرية، ولكن فشل الخرطوم في ذلك تقول المؤلفة، مهّد الطريق لأعظم تحد لسلطتها في دارفور منذ بدء الحرب. ففي شهر أكتوبر من العام 2008 هدد رجال حمتي باقتحام نيالا ما لم تدفع لهم الحكومة رواتبهم المتأخرة، وتحالف حمتي مع جماعة متمردة جديدة اسمها الجبهة الثورية بقيادة مهندس كمبيوتر يدعى أنور خاطر، وجاء في بيان باسم الجبهة إن قصف الحكومة العشوائي لن يثني العرب عن مواصلة التمرد بغية استرداد حقوقهم. صافي النور الذي ورد اسمه هنا سيرد اسمه مرة أخرى في المطبوع بأنه عبد الله صافي النور الحاكم السابق لشمال دارفور من قبيلة عريقات، وأنه ساند الحكومة في مقابل وعد بتقلد منصب وزاري في الخرطوم، وبعد التعبئة أصبح وزيرا لشئون مجلس الوزراء في الحكومة المركزية. مثال آخر على كيفية الحصول على المناصب في السودان.
سمى حمتي حركته المتمردة قوات الوعد الصادق، وقال إنه يقاتل من أجل تحقيق العدالة للعرب. وفي لقاء معه في العام 2009 قال إن السبب الرئيس لتمرده هو تعيين الزغاوي ميني ميناوي كبيرا لمستشاري الرئيس، بينما العرب الذين قاتلوا مع الحكومة لم تصرف لهم رواتب ولا تعويضات عن قتلاهم وجرحاهم، ولم تقدم لهم الخدمات الصحية والبيطرية أو المدارس أو المياه، وأن طرق هجرة مواشيهم أوصدت بواسطة المتمردين.
ترى المؤلفة أن تمرد حمتي كان معدا إعدادا جيدا ولم يكن عفويا، فهو قد أخبر الحكومة أنه سيشارك في الهجوم على جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة في منطقة حسكنيتة، ولكنه وبعد تسلمه الوسائل اللوجستية للهجوم بكميات كبيرة من المركبات والأسلحة الثقيلة ومعدات الاتصال والأموال وغيره، أعلن تمرده.
على كل حال فقد عاد حمتي إلى حظيرة الحكومة تقول المؤلفة، بعدما لم يجد راعيا بديلا، فقد رفضته ليبيا وتشاد والولايات المتحدة، وصدّ أنور خاطر محاولاته للانضمام إلى قوات الجبهة الثورية السودانية، وكذلك لم تثمر محاولاته مع جيش تحرير السودان، وهنا تقول المؤلفة إن حمتي قال إنه لم يجد لديهم تفكيرا استراتيجيا. عاد حمتي إذن للحكومة بعدما قال إنه كان لديه خياران: إما إعادة الانضمام إلى الحكومة أو أن يصبح جنجويدا (وهي بلغة العرب تعني لصاً، تضيف الكاتبة). ولكن الاتفاق الذي عاد حمتي بموجبه إلى الحكومة كان يكتنفه الغموض برأي المؤلفة، فهي تذكر وفق تقارير غير مؤكدة أن حمتي طالب برتبة الفريق في الجيش لنفسه وتنمية منطقته والنظارة لعمه دقلو ومنصب مفوض لشقيقه عبد الرحيم حمدان ومبلغ نقدي مليار جنيه سوداني (نحو 440 ألف دولار وقتها) لنفسه ونصف هذا المبلغ لأخيه لتعويض المقاتلين وأسرهم في الظاهر. وتذكر المؤلفة أن مخبري الأمم المتحدة قالوا إن 3000 من رجاله أدرجوا في الجيش النظامي برواتب الجيش، ووُعد 200-300 منهم بإخضاعهم لتدريب الضباط، وكان هناك حديث عن قذائف صاروخية وبنادق رشاشة، كذلك كان على حمتي إعادة أربع قطع أسلحة ثقيلة كانت أعطيت له قبل الهجوم على حسكنيتة. نفى حمتي بعد ذلك طلبه المال والرتب العالية في الجيش قائلا حسب المؤلفة إنه لا يمكنه توقع نجوم الجنرال على كتفه وهو في الثلاثينات من عمره وادعى بأن كل ما طلبه هو التنمية. على كل حال فقد تحقق لحمتي المولود في العام 1975 بحسب العديد من المصادر الوصول الى رتبة الفريق أول بعد ذلك في 13 أبريل من العام 2019، في عمر لم يبلغه فيها أي ضابط في الجيش السوداني، كما نُصِّب وقتها نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي الذي ترأسه الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. أما شقيقه عبد الرحيم الذي حاز على رتبة الفريق هو الآخر فقد أصدرت الإدارة الأمريكية عقوبات بحقه في سبتمبر من العام ٢٠٢٣ بتهم ارتكاب جرائم حرب شملت القتل والاغتصاب والتمثيل بالجثث من قبل قواته في حرب الخرطوم وارتداداتها في دارفور، ووقتها كان الغموض يكتنف مصير حميدتي الأخ قائد القوات، محمد حمدان دقلو.
في الكتاب أو المطبوع يرد اسم الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة ما بعد إزاحة الرئيس عمر البشير مرة واحدة، وذلك ضمن المراجع، حيث يذكر المرجع ما نصه: تقول مصادر عديدة إن مليشيات المحاميد في جميع أنحاء غرب جبل مرة وزالنجي كانت تحت إمرة العقيد" متقاعد" عبد الفتاح برهان، مفوض جبل مرة في سنتي 2002-2005. غني عن القول بالطبع إن البرهان كان هو الرجل الذي في عهده وقعت حرب الخرطوم في إبريل من العام 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي كان يقودها حميدتي وينوب عنه أخوه عبد الرحيم الذي ورد ذكره عاليه، بعدما تضخمت المليشيا العربية الصغيرة إلى جيش كامل.
يحفل الكتاب كذلك بالكثير من التفاصيل عن تطورات الأحداث وعن تقاطعات السياسة السودانية والطريقة التي أدارت بها الحكومة ملف التمرد في دارفور، وكيف أنها، أي الحكومة، تم خداعها في العديد من المرات. الكتاب كذلك يشير بوضوح إلى براغماتية القادة من الجانبين في دارفور من العرب وغير العرب، واستعدادهم للتعاون المرحلي ضد الحكومة واعتبارها عدوا مشتركا، دون أن يعني ذلك تجاوز مراراتهم القديمة، ولكن فقط يقوم القادة بالتجاوز والصمت عن الانتهاكات التي تجري بحق شعوبهم مقابل المكاسب الشخصية، أو ربما مقابل هدف أسمي هو في الغالب الاستيلاء على السلطة أو الوصول إليها.
يمكننا كذلك من خلال الورقة الانتباه إلى أنه كان هناك من زعماء القبائل في الإدارة الأهلية من تمتعوا بقدر معقول من الحكمة، ولكن تعامل الحكومة معهم حين رفضوا تسليح قبائلهم أدى لتهميشهم وبروز نجم زعامات أخرى لا تتمتع بتلك الحكمة. لقد اعتمدت الحكومة على المليشيات في مكافحة التمرد أكثر من الجيش حتى أن بعضهم في هذه المليشيات كان يحصل على مزيد من التدريب في الخرطوم وفي سوريا كما سمعنا، تقول الكاتبة. وتذكر المؤلفة كذلك أنه وطبقا لضباط غربيين كبار فقد اختير 300 شاب من حرس الحدود وقوات الدفاع الشعبي وأرسلوا لتدريب متقدم على المشاة على يد ضباط سودانيين وروس في معسكر الاستخبارات العسكرية شمالي امدرمان.
في الملخص تقول الكاتبة إن معظم الذين جندوا لقتال التمرد كانوا من جماعات قالت المؤلفة إنها " تزعم " أنها عربية، وأن ما وصفتها بحملة التدمير الجسيمة أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 200 ألف شخص وهجرت 1,5 مليون شخص إلى مخيمات المشردين بينما عبر أكثر من 200 ألف آخرين الحدود نحو تشاد. وعلى الرغم من أن المؤلفة لم تذكر مصدرها في هذه الأرقام إلا أنه من الواضح أن حملة أنقذوا دارفور كانت واحدة من المصادر التي راجعتها الكاتبة، وهي الحملة التي كانت مدفوعة بأهداف غير المعلن عنها وبالغت في تقديرات أعداد الضحايا لدرجة كبيرة. ونجد المؤلفة تصف الحملة بأنها "حملة دفاع لم يسبق لها مثيل في الغرب" وتقول إن هذه الحملة وصفت الصراع بأنه "أول إبادة جماعية في القرن الواحد والعشرين"، وأن الحملة مالت إلى إدراج عرب دارفور الذين بقي معظمهم على الحياد ضمن الجنجويد. وليس من العسير بالطبع الوصول إلى حقيقة أن ما حدث لم يكن بأي حال من الأحوال إبادة جماعية وهو ما خلصت إليه التقارير الأممية عن هذا الأمر.
من الكتاب أو المطبوع، يمكننا كذلك الوصول إلى خلاصة أن أمر القبض على الرئيس البشير الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية لم يساهم في حلحلة الأمور بل زاد من تعقيدها، بالطبع كانت المحكمة الجنائية أداة استخدمت سياسيا ولكنها في حالة السودان وضعفه زادته ضعفا على ضعف. وفي مقال مشترك مع الكاتب أليكس دي وال نشر في العام 2009، أوضحت جولي فلينت معارضتها لمذكرة توقيف الرئيس البشير قائلة إن حادثة الإبادة الجماعية كانت قائمة على دليل واهٍ وبرهان ضعيف.
الخلاصة الخفية أو الدرس غير المباشر من قراءة ورقة العمل هذه هي جهلنا الكبير بالتقاطعات الصعبة والتداخلات المتشابكة للعلاقات القبلية في دارفور، وارتباط كل ذلك بصراعات الأرض والبقاء لدى القبائل هناك، وقبل ذلك عجزنا عن تقدير تغلغل النظام القبلي في دارفور وتحديده لطبيعة العلاقات بين الناس في بيئة قاسية وضمن مجتمعات ذات امتدادات عابرة للدولة القطرية الحديثة، بل إنها لا تلقي بالا لهذه الدولة من الأساس. كذلك، جهلنا بما انتبه إليه العقيد القذافي حاكم ليبيا الأسبق مما يمكن أن يشكله الحزام العربي في السهل الإفريقي ومحاولته استغلال ذلك في تحقيق طموحاته الأممية. ربما كان واحدا من أهم ما يجب الانتباه إليه ودراسته بتعمق هو الاختلافات الثقافية العميقة التي أدت وتؤدي لهذه الصراعات والحروب بين الشعوب التي ضمتها الخريطة التي صنعها الاستعمار الإنجليزي خدمة لمصالحه الاستعمارية في ذلك الوقت.
وعلى ذكر الاختلافات الثقافية العميقة، تنسب المؤلفة إلى من تصفه بزعيم مجتمع مدني وأحد أعيان أولاد راشد القول بأن معظم الجنجويد يشربون ويعرفون المخدرات، وتبدر عن البدو أشياء سيئة للغاية لأنهم غير متعلمين، لكنهم يعرفون كل شجرة وحفرة ماء وغير مهزومين من سنة 2004. إنهم لا يريدون السلام، ويجوبون كل الجهات ليجنوا فوائد من انعدام الأمن، تفكيرهم منصب على "أن الحرب إذا استمرت فسيصبح السودان مثل العراق وأفغانستان. جيد جدا، حياتنا عدم – فلتكن حياة الآخرين عدما!". وذلك بالطبع ما فعلوه بالخرطوم وبالسودان وبحياة الشماليين أو النهريين بعد سنوات من ذلك.

wmelamin@hotmail.com
///////////////////

 

آراء