محاورة الشيوعيين بلينينيات

 


 

عمر العمر
27 September, 2022

 

حتى لا نحتفي بذكرى ميلاد عبد الخالق محجوب طقسًا أرستوقراطياً، نحدّق مليّا في مكانة الحزب الشيوعي داخل المشهد السياسي الراهن من منطلق الحوار بمنأى عن التجريح . هدينا في ذلك شهاب من وهج إرث الغائب كامل الحضور والنور وسط الجماهير. ذلك إرث لم يأفل يوم دفعوا جسده المهيب في عتمة بئر القتل شنقا . هو حضور بهي لم يستدع الشعب ان يبحث له قبرا. عبد الخالق نسخ سيرة سياسية استثنائية .لذلك نغلو في الظلم الفادح فيما لو وضعنا القيادة الحالية للحزب في كف المقارنة مقابل مكانته . ظلم للكفتين.
*****

في موكب الثاني من يونيو ١٩٦٩ - أول مليونية شهدتها الخرطوم - لم يكتف عبد الخالق بوصف ماحدث في ٢٥ مايو بحركة عسكرية نفذتها شريحة من البورجوازية الصغيرة. بل حذر بعين المفكر عميق الرؤى نافذ الإستقراء من ان الحزب سيكون -كما حدث- أول ضحايا تلك الحركة .ذلك التوصيف أشعل غضب جعفر النميري إذ لم يعجبه أصلا ان يخلفه عبد الخالق على المنبر مخاطبًا ذلك الحشد الجماهيري الاستثنائي ثم يصنفه ورفاقه بالبورجوازية الصغيرة.
*****

رؤية عبد الخالق جاءت مغايرة تمامًا لحديث الشفيع أحمد الشيخ أحد أبرز قيادات الحزب و سكرتير اتحاد العمال ،العقل المنظم لذلك الموكب. الشفيع أسمى ما قامت به ثلة الضباط ثورة .بل وصف الموكب بالتلاحم بين الشعب وحكومتها .كما قال ( ان قوى الطبقة العاملة وكل العاملين والشرفاء من ابناء شعبنا سيظلون كعادتهم مخلصين أوفياء للثورة). اشادة بالضباط الانقلابين حرص الشفيع على القول(أهنئ أبطالنا وأحييهم وأعانقهم فردًا فردًا وعلى رأسهم القائد جعفر محمد نميري)
*****

مع ذلك لم يطلع آنذاك علينا ناطق باسم الحزب أو بيان من المكتب السياسي يتبرأ مما قاله الشفيع رغم اختلاف مضمونه مع حديث عبد الخالق .يبرز هذا الموقف شاخصاً مع تواتر ما دأبنا على سماعه وقراءته في شأن تباين الرؤى والمواقف بين أعضاء القيادة الحالية . مما يزيد المقابلة ثقلا المفارقة بين مهابة سكرتير الحزب و هيبة سكرتير اتحاد العمال وقتذاك من جهة وبين أصحاب التصريحات والمواقف حاليا.أكثر من ذللك فتباين عبد الخالق والشفيع جسد المحور المركزي للخلاف العميق المفضي إلى أوسع إنشقاق في تاريخ الحزب .
*****

ربما تتماثل القضيتان من حيث تناولهما موقع الحزب داخل الحراك الجماهيري. لكن الأول محوره تحديد موقف الحزب تجاه الوضع الإنقلابي الجديد آنذاك . ذلك جدل يهم فقط فصائل اليسار و مدارس الاشتراكية .أما الراهن فيدور حول موقف الحزب من تحالف القوى السياسية الناهضة بأعباء الثورة الوطنية الديمقراطية بألوان طيف قزحها.لعل الفارق واضح جليٌ بين الحالتين. فنجاح الثورة الوطنية الديمقراطية رهين بانخراط الأغلبية الساحقة في النضال . وهي أغلبية تتألف من طبقة ، فصيل واحد أو من طبقات ، فصائل عدة مثلما أوضح لينين في مايو ١٩٠٧.حيث أبان (لا طريق إلى الاشتراكية إلا من خلال الديمقراطية والحرية السياسية).لينين ذهب في التبيين أعمق من ذلك إذ قال(في النضال الديمقراطي السياسي فان الطبقة العاملة لا تقف وحدها فإلى جوارها جميع المعارضة وفصائلها وطبقاتها انطلاقًا من معاداتها للحكم المطلق.)
*****

هكذا نصح لينين ببناء تحالفات بل ومصالحات من قناعة راسخة بأ ن كل تقدم ثوري حقيقي رهين بما يتم استقطابه من جماهير عريضة لصالح الثورة .بما ان الثورة لا تنبثق انجازا متكاملا فهي عرضة للخطأ. تصحيح أخطاء الثورة لا ينبغي التصدي له بالقفز إلى الأمام أو الخروج عن تحالف المرحلة . فمن مقومات الديمقراطية المركزية الأساسية ممارسة النقد والنقد الذاتي.أي تحالف لا يمثل تنظيما واحدًا متجانسًا في الرؤى والمعالجات .هذا وضع يستحيل معه وجود قيادة نموذجية للنضال. وحده الصبر على صوغ برنامج نضالي موحد يساهم اكثر من غيره في تخليق قيادة متجانسة .مثل هذا البرنامج يتم انجازه هو الآخر عبر صراع ليس بالعجول.تجربتنا المرحلية الراهنة تثبت إما العمل داخل التحالف الوطني العريض أو تبديد في الطاقات والزمان والفرص.
*****

ربما يكون الحزب الشيوعي مطالبًا قبل غيره بتقديم نموذج قوة سياسية مقتدرة على قيادة التحول الثوري عند المنعطف التاريخي الراهن. لعل هذه المهمة تبدو اكثر إلحاحا في ظل أسئلة مثارة عما إذا لا نزال نحتاج وجود حزب شيوعي بالمعنى الماركسي الكلاسيكي .كما ان نجاح أي حزب رهين بما يبني لذاته من موقع مميز داخل مجتمعه وفي تصدره قيادة ذلك المجتمع .لعل السؤال المفصلي يتناول عما إذا ما كان أصل الحزب الشيوعي في المنبت حزب الطبقة العاملة أم هو انتاج شريحة من الطبقة الوسطى إن لم نقل البورجوازية الصغيرة تصدت لمهام التبشير بالأفكار الاشتراكية وسط الورش، المصانع والحقول!
*****

كما كتب محمد إبراهيم نقد-عطّر الله مرقده بالمغفرة- كانت تلك الطلائع المندفعة نحو الحزب تبحث عن تنظيم جديد وأساليب نضال جديدة ( عجزت أحزاب الحركة الوطنية الأخرى ومؤتمر الخريجين عن تلبيته).ثم أضاف كانت ذات حس ناقد وارتباط حميم بالناس مضادة للانعزالية والجمود. ذلك التنظيم بادر إلى (الالتصاق المبكر بحركة العمال)هي الرؤية استعادها العضو القيادي والكاتب الشيوعي غزير الإنتاج تاج السر عثمان في ذكرى ميلاد عبد الخالق قبل ايّام معدودات اذ أوضح تأسيس الحزب جاء تطورا منطقيا في سياق ( نهوض الحركة الثقافية، وخروج المرأة للعمل وتطور التعليم وظهور الصحافة التي أسهمت في رفع درجة الوعي )
*****

تطوير أداء قيادة الحزب ظل قضية ملحة ثابتة أرّقت عبد الخالق ومن بعده نقد. للأول كراسة موسومة (سبيل تحسين العمل القيادي)فيها يطرح مهام القيادة ( من أجل إنجاز مهام الثورة الديمقراطية ثم الاشتراكية ). هو يرتب الديمقراطية ثم الاشتراكية. القضية نفسها تشكل احد المحاور الساخنة في مجموعة أوراق للراحل الثاني في سياق بحث فكري عميق يحفر مسارب وفرضيات جديدة بغية الانعتاق من جمود يكتنف المشهد الشيوعي بأسره.الصدمة لم تستثن نقد وهو يشاهد (الحزب الشيوعي السوفياتي مخذولا من قيادته معزولًا من شعبه ) حسب توصيفه على عتبات تسعينات القرن الأخير . لكن نقد لم يفقد رسوخ يقينه بقناعاته الفكرية. المعضلة لديه ظلت كامنة في تدني مستوى القيادة .
*****

فبيل وفاته حذر لينين من على فراش المرض في رسالة إلى المؤتمر الثالث عشر من انتخاب ستالين سكرتيرا للحزب.المؤتمر العشرون صب جام النقد والغضب على ستالين.ثمة رواية متداولة عن رسالة موجهة إلى الحزب تركها عبد الخالق فبيل اعتقاله الأخير .لو صدقت الرواية فمما لاشك فيه ان مسألة قيادة الحزب شغلت حيزًا واسعًا من تلك الرسالة ان لم تكن كلها مكرسة لها. فهي واحدة من قضايا ملحة ظلت تؤرق عبد الخالق إبان حياته. محمد ابراهيم نقد لم يكن راغبا في تمديد ظله داخل كابينة القيادة . تمديد بقائه على السكرتارية إبان المؤتمر الخامس جاء استجابة لالحاحات استكمالًا لمهامه الجسام في الحفاظ على كينونة الحزب بعد عمليات النحر الشرسة في أعقاب ١٩يوليو.
*****

مثل كل القوى السياسية يعايش الحزب تعقيدات متشابكة عند منحنانا التاريخي الراهن. لعل احد أكثرها إشكالا العلاقات مع تلك القوى من جانب والعلاقات مع الجماهير .لكن لدى الحزب إرث زاخر من المبادرات الخلاقة لتفكيك مثل تلك الإشكالات على درب الثورة الوطنية الديمقراطية.ربما لإيجافي الواقع القول بوجود عدم رضا تجاه تكتيك وأساليب القيادة الحالية النضالية عند هذا المنحنى. ثمة نغمة نقد تتصاعد وسط القوى السياسية توصم قيادة الحزب بالجمود والانعزالية . ربما لا يغالط الحقيقة القول كذلك ان هذا الإحساس ان لم نقل الفهم موجود أيضا لدى شريحة داخل قاعدة الحزب.أ لا يستوجب ذلك أعمال قدر من المراجعة وفق الفكر الماركسي اللينيني نفسه بدلا عن رمي جمرات التخوين وأشياء حارقة اخرى في وجوه الجميع!؟

 

aloomar@gmail.com

 

آراء