هدية حاكم الإقليم.. عدم الكياسة أم “هردبيس” السياسة؟

 


 

 

"هردبيس" السياسة حسب التعريف الضمني للدكتور النور حمد، هو أن تدار شئون البلاد بعقل رعوي، ليس تجديفا في الرعاة أو قدحا في حرفة الرعي، وإنما انتقاداً للعفوية السياسية، في وقت أنّ السياسية علم له مدارس ونظريات، ولا تحتمل العفوية والفهلوة أو "النجر"، فالشأن السياسي له أصول مرعية عند التطبيق، يستوجب مراعاة عدة جوانب عند اللزوم، سيما المتعلق بالعلاقات الدولية، وبلغة "الترزية والأُسطوات"، "يجب القياس مدرتين قبل القطع". ولا بأس لاتخاذ القرار السياسي الكيّس والموقف الحصيف، من مشورة صادقة لأصحاب الاختصاص، الذين ليس لديهم ما يخسرونه جراء صراحتهم وصدق مشورتهم.
والكياسة بصورة عامة، لخصها داهية العرب، عمرو بن العاص بمضمون قوله: لم أتخذ قرارا قط وفكرت في الخروج منه، والعكس صحيح، واضعين في الاعتبار أنّ بني البشر غير معصومين عن الخطأ، فليس من الكياسة، أن يتخذ القيادي الدستوري، قراراً يدخله في "فتيل"، يحرج رؤسائه ويجبرهم على "تقنيفه" ويضطر هو إلى لحس كلمته، وبلع وعوده.
ومن الكياسة العامة، ألاّ يتقرّب المرؤ بقربان تستدر الشفقة عليه، وتثير السخرية منه، من المُهدى ومن العامة، وألاّ يهدي من يحب أو يقّدر، بهدية هو في غنى عنها، أو لا تناسبه، أو لا تتسق مع المناسبة، وهذا ما أقدم عليه بكل أسى حاكم إقليم دارفور السيد منى آركو مناوي، بهديته المتواضعة والأضحوكة لدولة قطر الثرية حد التخمة!
وإزاء هذه الهدية، الشتراء، هنالك ثلاثة احتمالات:
ـــ أن "تفّرمل" الجهات "السيادية" هذه الهدية الفضيحة.
ـــ أن تعتذر دولة قطر عن قبولها.
ــ أن تقبلها دولة قطر، وتحيلها مباشرة إلى مخيمات لاجئي فلسطين المحتلة، أن أرادت تفادي إحراج حاكم الإقليم، أو تهديها بدورها إلى لاجئ دافور المساكين، إن أرادت أحراجه.
أليست مغامرة خطرة، وغير مأمونة العائد، أن يتبرع "شحّات" بما لديه من مال، على أمل الحصول على صدقة أكبر مما تبرع به؟
كان الأنسب أن يتبرع السيد مني، بثلاثة آلاف جندي مدرّب لحراسة المنشآت الأولمبية الفخيمة، طوعا و"لوجه الله"، بعد التشاور مع مرؤوسيه بالطبع، إن كان منضبطا. بمثل هكذا مبادرة، قد يصطاد الحاكم، عدة عصافير بحجرٍ واحدٍ.
وكيف لحاكم إقليم، بدون توصيف دستوري لاختصاصه، وبلا تفنيد لصلاحياته، أن يقوم بتحشيد القوى الرياضية الوطنية، وتسخير الفعاليات الثقافية الاجتماعية لصالح فعالية دولية؟ بلا شك أن هذا من صميم الشأن السيادي والعلاقات الدولية! من الواضح أن هذه التحركات لا تخلو من بروباغاندا ذاتية للحاكم.
ماذا عشّم حاكم إقليم دارفور في الكرم السياسي لدولة قطر، التي وأوفت بتعهداتها البالغة 177.4 مليون دولار لمؤتمر المانحين لإقليم دارفور الذي عقد في الدوحة عام 2013، والتي ترى بأم عينيها أن تلك المبالغ تحولت إلى قصور لتجار الحرب، ورمي القشور لإصحاب المصلحة؟ وكم تساوي "هديتهم التي بها يفرحون" من إجمالي الاستثمارات القطرية بالسودان، التي تقدر بنحو 3.8 مليارات دولار، حسب وزارة الاستثمار السودانية، حيث تحتل الدوحة المرتبة الخامسة بين الدول الأجنبية التي تستثمر في البلاد؟
وحسب تجربته السابقة كمساعد للرئيس المخلوع، لا نظن هنالك من يعتقد أنّ تحركات حاكم الإقليم الخارجية المحمومة، من أجل مصلحة أهالي الإقليم مائة بالمائة، وإنما من أجل مصلحة حركته ومنسوبيها بالدرجة الأولى. وعليه ليس هناك فقير في الدنيا يرضى أن يتبرع أحد قسراً من ماله للأغنياء، سيما أن كان هذا الثري ذات نفسه يبحث عن فرص استثمار في المآسي والاقتصاد السياسي للشعوب!
مع تجاهل حاكم الإقليم لمعاناة النازحين المستمرة، و"تطنيشه" عن التفلتات الأمنية المتصاعدة في معظم الولايات، فإن تبديد موارد الإقليم على شحتها، على النحو الذي حدث منه مؤخرا، بخصوص تبرعه لدولة قطر بثلاثة آلاف خروف أقرن أملح، يرتقي إلى مستوى السفه، الذي يستوجب الهجر السياسي، وتقيد الصلاحيات الهلامية، كهلامية نصوص اتفاق جوبا غير المحكمة، التي يستند عليها الحاكم، تقيدا يتسق مع مقدراته السياسية المتواضعة، وقلة مداركه في شئون الحكم وأمور الحوكمة.
لكن لا غرو في هكذا تصرف، أذ تتسق هذه الفهلوة السياسية مع مرحلة اللا دولة واللا دستور واللا شرعية التي تعيشها البلاد، سيما أن المنصب منفصل على مقاسه، وليس على حجم الإقليم وقدر أزماته، وأن رئيس الجيش الانقلابي، لديه مصلحة في إبقائه رغم "شتارة" قرارته.
ولا شك أن هذا "الهردبيس" السياسي وصل نهاياته، ليتولى شئون الإقليم من يختارهم صناديق الشعب رغم أنف اتفاق "تحت التربيزة"
انتهى عهد حكم الفرد، وولى زمن يتحكم فيه حاكم في مصير الشعب، ليستشرف البلاد عهد حكم الشعب للشعب ولصالح الشعب.
ebraheemsu@gmail.com
أقلام متّحدة ــ العدد 66

 

آراء