يا هذا .. نبايعك على هذا

 


 

علي يس
14 March, 2010

 

 

معادلات

 

          الفريق ابراهيم عبود ، يرحمه الله ، ظللتُ أعجب كثيراً وأنا أتصفح قائمة إنجازات حكومته مقارنة بمن سبقوه ، ثم وأنا أتصفح شهادات أناس كثيرين لا يمكن اجتماعهم على الكذب خصوصاً وأنهم تحدثوا بعد وفاة الرجُل ، شهاداتهم عن مروءة الرجل وعن تواضعه وعن أخلاقه وعن دينه ، وعن بساطة شخصيته ، ظللتُ أعجب وأنا أتصفح كل هذا ، ثم أتصفح صحائف "المناضلين" من أحزاب الطوائف ، التي وصفتهُ بكل منقصةٍ ورمتهُ بكل رذيلة ..

          وحين جاء النميري ، ب"إنقلاب" مايو ( أو ثورة مايو ، لا يهم الاسم!!) كنتُ صبيَّاً في العاشرة ، ومضى النميري في "انتفاضة" أبريل وقد تجاوز من كانوا صبياناً  عند مجيئه ، تجاوزوا العشرين ، ولم يعودوا بحاجةٍ إلى من يحكي لهم عن إنجازات النميري مقارنة (بالديمقراطية) التي سبقتهُ ، وإن وقع الكثيرون منهم ضحيَّةً لأكاذيب مبغضيه بعد اختياره المنفى في مصر ، أنا شخصياً صدقتُ الفرية التي تحدثت عن "أموال الشعب" التي نهبها النميري وأنشأ بها الشركات المليارية في القاهرة ، بعد أن أسقطتهُ انتفاضة أبريل .. ثم رأينا الرجُل يعودُ إلى بيته القديم المتواضع ، والوحيد ، بود نوباوي ، ليموت فيه ، وليس معهُ ذهبٌ ولا شركاتٍ  ولا حساباتٍ في بنوك سويسرا كما زعم الكذابون !!

          ولم نزل نأخذ على النميري ، يرحمه الله ، مآخذ ، ونرى لهُ هفوات ، هي مما لا يتنزه عن مثله سائر البشر ، الخطاؤون، غير أنهُ ظل ويظل ، بالمقاييس كلها ، أفضل ممن سبقوه ، ما عدا الراحل الفريق ابراهيم عبود ..

          ثم هتفنا ، كالببغاوات ، أيام الفوضى في أبريل عام خمسة وثمانين ، وخرجنا نغني في الطرقات "للحرية"!! ، فكان شأننا بعد ذلك أن ظللنا لأربع سنوات نأكل "حُرِّيَّة" ونشرب حرية ونغتسل بالحرية ، وتسيل الحرية في الطرقات فنمشي عليها ، وتساوى كل الشعب السوداني أيامذاك – من حيث الحرية – بالمتشردين ، الذين كانوا حقاً أحراراً .. ولم يكن بُذٌّ من أن يضيق الناس بحُرِّيَّةٍ بهذه المواصفات ، ويبحثوا عن "سجون" تقيهم شرور تلك الحرية الرخيصة !! فكان أن استبشر الناس وانطلقت أهازيج الفرح ، وارتفعت زغاريد النساء في كثير من الأنحاء يوم أن سمع الناس البيان الأول لضابط يسمع الكثيرون باسمه لأول مرة في حياتهم ، إسمهُ عمر حسن احمد البشير ..

          كان قد وقر في النفوس أن شموليَّةً يعرف أصحابها ماذا يفعلون بها ، أفضل ألف مرَّةٍ من "ديمقراطية" يتنازعها "أطفال" لا يعرفون ماذا يفعلون بها!!.. وكان أواسط الناس أعماراً قد رأوا بأعينهم ثلاث "ديمقراطيات" أعقبت كلاّ منها حكومة عسكرية ، وكانوا قد شهدوا بأعينهم ما أنجزهُ نظامان عسكريان ، وما "أهدرتهُ" ثلاث ديموقراطيات تغنَّى بها الناس ..ولم يشُكَّ أحدٌ في أن عساكر يونيو سوف يسيرون على خطى عساكر نوفمبر  وعساكر مايو ، الذين بكى الناس عليهم بدموعٍ غزار..

          والآن ، لسنا بصدد إحصاء إنجازات البشير ، وهي كثيرة ، ولسنا بصدد إحصاءِ إخفاقاته ، وهي كثيرةٌ أيضاً ، ولكننا بصدد المقارنة ، حقَّاً ، بين ثُلَّة من الزعامات التاريخية ، أُتيحت لها ظروف مثاليَّة ثلاث مرَّات ، لتحكُم البلاد "ديمقراطياً" ، نفس الوجوه ، تعاركت ديمقراطياً في مرحلة الشباب ، ثم في مرحلة الكهولة ، ثم في مرحلة الشيخوخة ، وهاهي الآن ، نفس الثُّلَّة من الزعماء ، تتكأكأ على الديمقراطية وقد هَرِمت وناهز أمثلها عمراً الثمانين ، و ما تزالُ شهوة الحُكم تتنازعها ، وما أخالها تتركها حتى القبر .. نحنُ الآن بصدد المقارنة بين هذه الزعامات ، وبين ثلاثة "عساكر" ، لم يتسلحوا  بخبرة سياسية كالتي أُتيحت لأولئك الشيوخ ، ولم يستند احد منهم إلى طائفيات كأولئك ، ولم يتم "تجريب" أحدٍ منهُم ديمقراطياً !!

          أستحلفك بالله يا شيخ .. لو أن عبود كان حياً ، وجاء يرشح نفسهُ لحُكم البلاد ديمقراطياً ، أكنت ترضى بأحدٍ غيرهُ من "مُعتادي" الديمقراطية؟؟؟ وهل كُنتَ تضن بصوتك على النميري إن هُو جاء بين أولئك الهازلين ينافس ديمقراطياً على ولاية أمرك؟؟

          لقد جرَّبنا أولئك ، ديمقراطياً ، ثلاث مرّات ، فرأينا منهُم ما جعلنا نقيم الأفراح استقبالاً لأول عسكري يقلب نهارهم الهازل ليلاً جادَّاً .. ثم جرَّبنا البشير "حاكماً شمولياً " فرأينا لهُ في شموليته إنجازاتٍ لم يوفق إلى مثلها من وضعناهم على رؤوسنا قبلهُ ، ديمقراطياً .. فهل يكون الرجُل ، وقد جاء ديمقراطياً ، أسوأ منهُ شمولياً ؟؟؟

          لسنا راضين كل الرضا عن حُكم البشير ، وما نزالُ نرى له من الاخفاقات ما يستحق أن يُعان على تجاوزه ، أو  أن يُنبّه إلى وجوده .. ولئن كانت له منا بيعةٌ جديدة ، فلا خير فينا إن لم ننصح لهُ ، ونُذكِّرهُ الله ، ولا خير فيه أن لم يسمع ، مشفقاً وخائفاً ذلك اليوم القريب..

          ألا فاعلم ، يا عبد الله ، أنك إن كُنت تُقَدِّم نفسك لهذا الأمر حبَّاً في الرياسة وطلباً للسلطان والجاه ، أو شهوةُ في إرغام خصومك والانتقام منهم وإذلالهم ، أو التباهي أمام أوليائك بأنك "تفعلُ ما تُريد"  فاعلم أنك إذاً مُهلكٌ نفسك وجانٍ عليها ، وخاسرٌ آخرتك ..

          والله ليوقفنّك الله أمامهُ ، وليسألنّكَ عن الدرهم والدينار ، وعن (القرش والتعريفة) ، وعن طفلةٍ في ملجأ المايقوما ماتت لأنها لم تجد الدواء .. ليسألنك الله يا عُمر ، عن مال الزكاة كيف جُمع ، وأين أُنفق؟؟ ولن ينجيك أن تقول "إسألوا أمين الزكاة" فإنك المأمور بأن تسأله، فإن لم تفعل ، ليسألنّك الله أنت !! ولتُسألَنَّ عن "بائعة شاي" ألجأتها الحاجة إلى الخروج في طلب الرزق لأطفالها ، فطاردها بعضُ جنودك وحطموا آنيتها ، وأخذوها ب"جريمة" السعي في طلب الرزق!!.. وليسألنَّك الله حتى عن "السكارى" في أزقّة المدينة ، فإن لهم عليك حقوقاً ، ما دام الله قد ولاّك أمرهم ، أن تأخذ بأيديهم بعيداً عن طريق المعصية ، دون أن تظلمهم ، وألاّ تزدريهم ، فإن الله وإن كان ابتلاهم بمعصيته إلى حينٍ يعلمه ، لم يحقِّرهُم ولم يغلق أبواب رحمته في وجوههم!!

          لتُسألنَّ يا رجُل ، سؤالاً شديداً ، عن الوظائف العامَّة هل اجتهدت في إسنادها إلى القوي الأمين ، أم تركتها للمادحين والمنافقين والمتزلفين؟؟ ليسألنّك الله عن دنيا الناس قبل أن يسألك عن دينهم ، لأنك إن أفسدت على الناس دنياهم ، أفسدت دينهم وفتنتهم ، وإن أنت أصلحت دنياهم ، سهل عليك إصلاح دينهم وقامت لك الحجة عليهم .. لتسألنّ يا عُمر ، والله ، حتى تقول : (ليت أم عُمر لم تلد عُمر!!) ، حيثُ لا تنفعُ ليت..

          إنك لتعلمُ أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، حتّى لو كان هذا المظلوم عاصياً ، بل حتى لو كان كافراً ، ألا فاعلم أن من يدعون الله عليك أكثر عدداً ممَّن يدعون الله لك ، وإن بين الداعين عليك من قد يكون مظلوماً ، مظلمةً لم تعلمها أنت ، ولكن لا ينجيك أن تقول : لم أعلم!! فإن كل ظلمٍ يقع من معاونيك ، علمتهُ أم لم تعلمهُ ، مسؤولٌ أنت عنهُ ، فاجتهد في أن تمتحن كل من تُولِّه شأناً من شؤون العباد ، وأن تسد عليه المنافذ ، وأن تبعث وراءهُ العيون ، ولا تثقنَّ في أحدٍ من الناس ، وقد كان ابن الخطَّاب لا يثق في أهل بدر ، مخافة أن يهلكوه وهو غافل!!

          إنا سنُلقي عليك أحمالنا ، ف"اركز" لها ، واعلم أنك لست بخيرنا ، ولكنك أثقلنا حملاً ، وأشدَّنا محنةً وسؤالاً أمام الله ، واعلم أن خيار الناس طائعوك ما أطعت الله فيهم ، وأن شرارهم متربصون بك وطالبون منك الغفلة حتى يُهلكوك .. واعلم أنك بخيرٍ وعافيةٍ  ما كرهك الصهاينة ، فإن هُم أحبوك ذات يوم ، فابشر بكراهيتنا ..والله المسؤولُ أن يهديك سواء السبيل.

 

ali yasien [aliyasien@gmail.com]

 

آراء