30 يونيو اسقطت العقل التقليدي بدلا عن الانقلاب 

 


 

 

يقول جون هرمان راندال مؤلف كتاب " تكوين العقل الحديث" حول تطور حالة التغيير في العقل الإنساني يقول في مقدمة كتابه( و ما تاريخ الإنسانية سوى تاريخ جهود و أبنية تتناولها يد الإنسان بالتعديل المستمر فتتسع لتآلف التيارات الجديدة للحياة. و هو أيضا قصة جدران قديمة شاخت فعملت فيها معارك التهديم ثم أعيد بناؤها بأشكال جديدة)

أن مأزق استمرار الأزمة السياسية في السودان؛ هو تراجع العقل التقليدي الذي عجز عن استيعاب التحول الكبير الذي حدث في الوعي على مستوى الجماهير، و يحول أن يتعامل مع هذا التغيير بذات الأساليب و الثقافة التقليدية التي كانت تتحكم فيها عوامل عديدة؛ منها انتشار الأمية، و قلة الوعي الجماهير، و الولاءات للبناءات الاجتماعية الأولية، و القصور في فهم الحقوق و الواجبات. فالعقل التقليدي يحاول استقطاب الجماهير بشعارات لا تستند لمشروعات سياسية واضحة، لذلك حدث تباين كبير بين العقل الجديد الذي يحاول أن يفرض ذاته عبر تضحيات كبيرة، و البحث عن مشروع يعبر عن الوطن و ليس الأفق الحزبي المحدود، هذا الحلم الجماهير لا يستطيع أن يستوعبه العقل التقليدي الذي أدمن الفشل. فالعقل الجديد لا يواجه عقل البندقية المتمثل في المؤسسات العقمعية في البلاد، بل يواجه أيضا العقل التقليدي الذي يتمثل في المؤسسات الحزبية المختلفة، التي فشلت أن تغير تصوره القائم على الإرث القديم، و التي لا تنظر إلي حركة الشارع إلا أنها حركة يمكن الاستفادة منها لتحقيق مكاسب ذاتية و حزبية ضيقة، رغم أن العقل الجديد يحاول أن يفرض شروطا جديدة في مسار العمل السياسي في البلاد، و هنا تحصل المفارقة.

أن قراءة التاريخ؛ و تجارب الشعوب في التحرر، و التحول من الشمولية للديمقراطية، استندت إلي تجديد في الثقافة السياسية، و قراءة صحيحة لعملية التغيير في سط حركة الأجيال الجديدة. و نلاحظ عندما بدأت ثورة ديسمبر في 2018م، أن الأجيال الجديدة لم يكتفوا بآلية واحدة هي الخروج في تظاهرات مستمرة فقط، بل استطاعوا أن ينوعوا ألياتهم من خلال  الفنون و الموسقى و تعدد الشعارات فكانت الجداريات التي تعكس قيم الثورة و حركة الجماهير و الأشعار و المقاطع الموسيقية و الشعارات المرتبطة بالقيم " حرية سلام و عدالة" هذا الذي كان قد أشار إليه الدكتور عبد الله أحمد البشير بولا في "حوارية لآهاي" حيث يقول ( أن المثقف هو حامل المعرفة النقدية المحررة التي لا تعتمد على المعرفة العقلية و حدها بل التي تعدتها إلي تنمية الملكات في الشعور و الوجدان و نقلتها من الأنانية لضيقة إلي الأفق إلي عالم التحرر الإنساني) هذا التحول الجديد في الوعي؛ لم تستطيع القيادات السياسية ذات العقل التقليدي استيعابه، لأنه لا يستند على ذات المصادر التي استقت منها الاجيال الجديدة أفكارها، و أصبحت الهوة كبيرة بين الأجيال الجديدة و بين حملة العقل التقليدي.

عندما تضع الأجيال الجديدة عبر مكوناتها الجديدة جدول لمسيراتها، تجد أن العقل التقليدي الذي من المفترض أن يكون مصدرا لتقديم المشروع السياسي الجديد يتحول إلي كمبارس في العملية السياسية، مصورا أن المسيرة سوف تكون نهاية الانقلاب، و أن قيادات الانقلاب في حالة من الخوف و الرهبة و الانكسار، و هذه ليست حقيقة، للذي يقرأ الواقع، عندما كانت القيادات السياسية تطالب الجماهير بالخروج من أجل إسقاط الانقلاب في 30 يونيو، و تصور أنه يوم الخلاص، صرح رئيس الانقلاب في لقاءه مع القوات الخاصة، و حتى في الفشقة، أنهم لا يسلمون السلطة إلا بعد حدوث اجماع وطنى أو لقوى منتخبة، و هذا ليس تصريح من أجل الاستهلاك السياسي، و لكنه يمثل الإستراتيجية التي تتحدث بها مع المجتمع الدولي، في الوقت الذي تعجز القوى السياسية أن تتوحد و تصيغ مشروعها السياسي الذي يحمل رؤيتها للخروج من الأزمة، لآن الفكرة عندهم ليس عملية التحول الديمقراطي، بل هي السلطة و أن كانت مستترة.

أن القوى السياسية منقسمة على نفسها، هناك لجان المقاومة و هي التي تمثل معادلة القوى مع المؤسسة العسكرية و الحركات المسلحة الملتفة حولها، و هناك قوى الحرية و التغيير التي تمثل مجموعة من الأحزاب، و الحزب الشيوعي و واجهاته السياسية. مآزق قوى الحرية و التغيير و الحزب الشيوعي لا يستطيعان الدخول في أي عملية تفاوضية مع العسكر لحل الأزمة السياسية، لأنهما لا يستطيعان الرهان على وقف المسيرات، لا يملكان السلطة على الشارع، و لا يمتلكان هذا القرار. الأمر الذي يجعل قوى الحرية و التغيير مترددة في الدخول بقوة في العملية التفاوضية، إلا إذا ملكت تأييدا قويا من لجان المقاومة، أو ضمان مشاركتها في وفد واحد للدخول في العملية التفاوضية. و الحزب الشيوعي يبني إستراتيجيته على تكسير قوى الحرية و التغيير، و جعلها أداة تابعة له حتى تصبح المعركة بينه كقوى تقود ماتسميه الثورية الشعبية ضد سلطة الكيزان، و يبقى الصراع بين تيارين " اليسار و اليمين – الرجعية و التقدمية" و تعتقد القيادة الاستالينية أنها بعد ذلك تدخل في تفاوض يمكنها من قيام الانتخابات يجعل الشارع بقواه الجديدة مناصر لها، الغريب في الأمر أن الحزب الشيوعي يبني نظرته من مؤتمره الرابع في عام 1967 م حيث جاءت في وثيقة المؤتمر منشور في كتاب " الماركسية و قضايا الثورة السودانية" يقول فيه ( ضرورة وجود الحزب الشيوعي و تدعيم نفوذه كمركز للقوى الثورية و الاحتياج لتأمين تطور الثورة على أساس التطبيق المبدع للنظرية الماركسية- الحاجة إلي تجميع القوى الشعبية الراغبة في التغيير الاجتماعي على أساس الاشتراكية في تنظيم جماهيري يضم كافة القوى التي لا تشلها تعصبات أزاء العمل الثوري – الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تقدم البديل للنظام الرجعي القائم و تفتح طريق التطور غير الرأسمالي للبلاد) هذه الرؤية التي تكونت قبل أكثر من نصف قرن حيث تغيرات وقائع كثيرة، و تغير العالم، و سقط عالم القطبين أي الحرب الباردة، لكن لم تتغير البنية التقليدية للعقل الاستاليني الدغمائي، و المقولة هي التي تحدد حركة و تكتيك الحزب الشيوعي. أن شعار الدولة المدنية الديمقراطية شعار تكتيكي عند القيادات الاستالينية و الثورية التي يعتقدون إنها بداية التحول الاشتراكي هي الإستراتيجية التي تريدها القيادات التاريخية. المطلوب أن تظهر قيادات جديدة داخل هذا الحزب التاريخي تستطيع أن تعيد هرم هيجل، أي أن تجري مراجعات فكرية حقيقة تستوعب التحولات التي تحدث في الساحة، و رغبات الأجيال الجديدة المؤمنة بالديمقراطية، لكن الماركسية من تجاربها التاريخية في الحكم في أوروبا و غير هي في حالة خصام مع الديمقراطية.

إذا المعادلة التي تستطيع أن تحدث تغييرا في المسرح السياسي، هو ظهور قيادات جديدة لها علاقة وثيقة مع الشارع، أو الشارع نفسه يخلق قيادته التي تعبر عن تطلعاته، و تقدم مشروعا سياسيا تحدد فيه خطوات الفترة الانتقالية بشكل مفصل و واضح، و تختار مجلس وزرائها و مجلسها التشريعي و رؤساء المفوضيات، و رؤيتها للإصلاح العدلي و الخدمة المدنية، و تجلس مع المكون العسكري بحضور المجتمع الدولي، و تعلن كل ذلك من داخل جلسات التفاوض. حتى تستطيع أن تعزل العقل التقليدي الذي أدمن الفشل، و تطلب من كل القوى السياسية الذهاب لتهيئة نفسها للدخول في انتخابات، ثم تعلن الحوار في قانون الانتخابات و مشروع الدستور من كل القوى السياسة في البلاد، حتى تضمن استقرارا سياسيا في الساحة. و نسأل الله حسن البصيرة.


zainsalih@hotmail.com

 

آراء