إلى صديقي بكري الجاك: أثر الفراشة لا يرى.. الثورة السودانية تحتاج إلى ترتيب لا لصدفة !!

 


 

 

faizalsilaik@gmail.com

أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ

تبقى الفراشة ذاتها ترفرف بأجنحتها مرفوعة من جمال الفيلسوف محمود درويش، وحديث أثر الفراشة يقفز بي إلى جدل الرفقة الطويلة مع صديقي بكري، حيث حواراتنا الوجودية الطويلة، ومنها ذات محطة عندما كنا نتحدث في اسمرا، حول نظرية ( تأثير الفراشة ) .
لا أزال أذكر اعجابك بمقولة ((رفرفة جناح فراشة في الصين قد يتسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا.)) أظن تعجبك المقولة ذاتها بنسخة مختلفة ( إن رفرفة جناح فراشة في غابات الأمازون يمكن أن تتسبب بعد وقت، في حدوث إعصار في تكساس)).
تذكرت الحوارات ما بين شوارع اسمرا، إذاعة صوت الحرية والتجديد، بعد قراءة مقالك (رأس المال الاجتماعي، والمشروعية السياسية)، توقفت كثيراً عند آخر فقرة في المقال، ورأيت أنها نتيجة تستحق الحوار حولها عند الحديث عن الثورات، وتشكيل ما يعرف بالكتلة الحرجة، إذ قلت ((إن استعادة الحالة الثورية كما يقول التاريخ بالإضافة الي توفر رأس المال الاجتماعي في حاجة الي تضافر عوامل عديدة أخري من بينها الصدفة واللحظة التاريخية التي ليس لها علم معرفي و مانيوال يمكن اتباعه)).
.
في يوم ٢٢ سبتمبر الماضي قررت الشابة الإيرانية مهمسا أميني، زيارة العاصمة الايرانية طهران مع أسرتها، عند وصولها الى المدينة ألقت شرطة
الأخلاق - المعادل الموضوعي - للنظام العام في السودان، القبض على الفتاة بسبب ارتدائها زياً لا يعجب سدنة الملالي ، لقيت الشابة حتفها في مخافر الشرطة، فكانت موتها فاجعة وصدمة أشعلت النيران في كل إيران.
لا تزال النيران تشتعل، ربما يطول الوقت أو يقصر حتى تحصد ثورة النساء في طهران ثمار كفاحها الطويل، ليس من المستبعد أن تحرق أعاصير الفراشة أميني، رموز وسياسات وقوانين الملالي.
في عام ١٩٥٤ سيدة سوداء اسمها روزا باركس، تنفيذ أوامر سائق حافلة لها بترك مقعدها ليشغله بدلاً عنها راكب أبيض البشرة لأن القوانين الأمريكية كانت تخصص المقاعد الأولى لذوي السحنات البيضاء، ولو امتلأت سيكون الدور على ما يليها في حافلة الركاب، وقع ذلك الأمر الغريب من عاملة ماكينة خياطة، في مدينة مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما، أصرت روزا، على عدم ترك مقعدها، شعرت روزا، المجهدة والغاضبة بقسوة أوامر سائق الحافلة فقررت عصيان الأوامر تلك وفي نفسها تقول ( سجن سجن غرامة غرامة ) كما نقول، وبالفعل اقتيدت السيدة الى المحكمة التي غرمتها مبلغ عشر دولارات.
لكن ما أعقب ذلك كان زلزالاً حقيقياً لا يمكن قياس مقداره بمقياس ريختر، انتظمت البلاد نتيجة حادثة روزا، حركة احتجاج واسعة، و قاطع السود والملونين للحافلات في الولاية، وفي أجزاء أخرى من أمريكا مما أرهق أصحاب الحافلات من رأسمالية أمريكا وقتها مدة ( ٣٨١) يوماً.
أفتت المحكمة الجزئية الأميركية للمنطقة الوسطى في ألاباما في يونيو ١٩٥٥ بعدم دستورية قوانين التمييز بين السود والبيض ، ثم أيدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية القرار في نوفمبر 1956.

كان ثمرة تلك " الحادثة" التي يمكن اعتبارها " صدفة" حركة حقوق مدنية بقيادة مارتن لوثر كينق، غيرت كثيراً من وجه الولايات المتحدة، وحاصرت كل أشكال التمييز العنصري، حتى نجح شخص أسود، أصول والده من كينيا، اسمه باراك حسين أوباما، في دخول البيت الأبيض لدورتين، وبنسبة أصوات تعد الأعلى في تاريخ الانتخابات الأمريكية!
في يوم ١٧ ديسمبر ٢٠١٠ أضرم الشاب محمد بوعزيزي النار في جسده النحيل تعبيرًا عن غضبه من شرطية اسمها فادية حمدي، التي صادرت العربة التي يبيع عليها الخضر .
لم يكن جسد بوعزيزي هو المشتعل، بل كانت تونس كلها هي التي اشتعلت ضد رئيسها بن علي، بخروج مظاهرات غضب شارك فيها مئات الآلاف تضامناً مع الشاب وثورة للكرامة الانسانية المهدرة في رمز بو عزيزي، ارتفعت ألسنة اللهب بعد الشاب الذي صار أيقونة في 4 يناير 2011 في مستشفى بن عروس بسبب حروقه
لم تتوقف ثورة الغضب في تونس، بل انتشرت في عدة مدن عربية ضمن سلسلة فصول ما أصطلح بتسميته بالربيع العربي، اتخذت القاهرة مثلاً من قضية مقتل الشاب خالد سعيد، بأحد أقسام الشرطة أيقونةً لثورة يناير ٢٠١١، اتسعت دوائر حريق البوعزيزي، في طرابلس وصنعاء وسوريا دون أن تتوقف النيران إلى اليوم في اليمن وسوريا وليبيا برغم مرور ١١ عاماً من المظاهرات التي تحولت الى مواجهات عسكرية.
هل كانت الشرطية فادية تتوقع أن يؤدي فعلها إلى كل تلك الثورات؟ وهل حين أحرق البوعزيزي، جسده كان يدرك أنه الريح التي حركت جناح الفراشة لتنتقل عواصفها الى من عديدة في منطقة الشرق الأوسط؟
يبدو للناظر من أول وهلة أن عدداً من الأحداث التي وقعت صدفةً غيرت كثيراً من مسارات التاريخ، بل صنعت واقعاً جديداً مغايراً، والصدفة تعني وقوع حدث ما في سياق ما؛ بطريقة فجائية وبدون ترتيب، أو ربما تعبر عن حالة عبثية أو فوضوية.

حديثك يا صديقي بكري، عن حاجة الثورة للصدفة أعادني إلى نظرية أثر الفراشة، لا استبق اسم بكري، بصفته العلمية والأكاديمية ولقب دكتور لأن بين الأصدقاء والرفاق تختفي الألقاب، ولو كانت علمية مستحقة، وأنت الكادح في دروب العلم كدحاً فملاقيه معرفةً أصقلتها التجارب النضالية منذ أيام جامعة الخرطوم في تسعينات القرن الماضي، وحتى اقتحام الكفاح المسلح في شرق السودان، بحثاً عن الحرية والتجديد.
كعادتك صديقي بكري، تؤسس لكتاباته بمقدمات بحثية، تقود إلى نتائج منطقية وخلاصات، وأنت الأستاذ الجامعي الذي يدرس السياسات العامة في جامعة (( لونق أيلاند) في نيويورك، بالولايات المتحدة الأمريكية، كتتويج لكدحك العلمي والمنهجي.
أتفق معك يا صديقي في كل رؤيتك، لكني فلسفياً أرى أن الصدفة ليست أمراً منفصلاً أو معزولاً عن السياق العام الذي تولد فيه التطورات ويحدث التغيير، و أؤمن لدرجة اليقين بأن الأحداث المعزولة لا يمكن ان تخلق انفجارات عظيمة، وأن الصدفة لن تغير مسار التاريخ، وأن وقوع حادثة ما تثير الاهتمام؛ تعني تماماً اكتمال عناصر التغيير في جانبيها الموضوعي؛ المتعلق بسياسات النظام وممارساته، وجانب ذاتي يتعلق برفض الجماهير لتلك السياسات.
تحدث الأحداث تلك بلا ترتيب كما يبدو في الظاهر، لكنها تكون نتيجة طبيعية لممارسات فاسدة للأنظمة، و ثمرة مرة لغرس القمع والعسف والتمييز العنصري، بل هي شحنةً ناسفة وضعتها السلطات بأفعالها داخل حقائب النفس المتوترة دون أن تدرك أن الشحنات تلك ستنسفها هي قبل أن تروض وحش الجماهير.
تعد الثورات انفجارات عظيمة في تواريخ الشعوب، و"ثورات الجماهير" تحدث عبر تراكم الأحداث، وتحولاتها الكمية والنوعية حتى أوان ميلاد النقلة الحاسمة، أو "اللحظة الفارقة"، أو "انفجار القنبلة الناسفة"، أما الحوادث الصغيرة لا تعدو سوى أن تكون أشبه بعملية انتزاع فتيل القنبلة!.
يقع حادث صغير، ربما في مدينةٍ صغيرة، قد يتمثل في مقتل بائع متجوّل، مع أنّ عشرات من الباعة كانوا قد ماتوا قبله، أو قتلوا أنفسهم غضباً، إلا أنّ ما يسبق الحادث من تراكم، و ما يتبعه من تحريض وتعبئة، وحشد تجعل من هذا الفعل دون غيره بمثابة حدث زمني يعلن بداية الثورة.
كثيراً ما تبدأ مقاومة الاستبداد سلبياً بمحاولة الرضوخ والتكيف ، وكلما زاد القهر بدأ السخط يتولد في النفوس، ويعقب السخط تململاً تذمر ثم تمرد وانفجار، وغالباً ما تحدث الأحداث المعزولة ظاهرياً أو ما يسمونها " صدفةً خلال فترات التذمر والغضب المحقون في النفوس فتصبح الحادثة إهانة للجميع وبدايةً للثورة.
ما تمر به الثورة السودانية حالياً من انحسار ظاهري يا صديقي؛ هو نتاج مباشر للضعف السياسي والتنظيمي، وللتناقضات بين قوى الثورة وتقديم المصالح الذاتية والقبلية والحزبية على مصلحة الوطن؛ بالإضافة الى سياسات التحطيم المعنوي التي يمارسها المتربصون بالثورة والتغيير، و تهدف الى تفتيت الجماهير ووحدتها عبر آليات التخريب والاحتواء.
يقول الأستاذ الحاج وراق، في مقال نشره عام ٢٠٠٩ بصحيفة " السوداني " تهدف إجراءات تحطيم المعنويات الى إشعال التناقضات والاختلافات بين القوى ذات التوجهات السلبية المعادية، والاستفادة من هذه التناقضات، وعبر هذه الإجراءات يتم تقسيم تلك القوى وتخريب صفوفها، وعزلها)) أي الاستثمار في اختلاف الأجندة السياسية وشخصنة الخلافات العامة، واستغلال شح النفس التي لا ترى إلا ما ترى، ولا تضع للآخرين مساحةً.
لم تكتمل الثورة الى نهايتها حتى الآن، وما نحتاجه كي تنتصر نضال النفس قبل هزيمة مخططات القوى المعادية للثورة، متمثلاً في مقاومة آليات التحطيم المعنوي، ومواجهة خطاب الكراهية والتخوين وحفلات الشواء المستمرة، تحتاج هذه المواجهة الى وقوف مع النفس؛ وما الثورة الا انقلاب على الذات.
نحن اليوم في أمس الحاجة للاستثمار في رأس المال الاجتماعي المتوفر بالتراكم، وتوظيفه في عملية بناء تنظيمات قوية، وخلق مؤسسات مرنة ومستوعبة لكل قوى الثورة، وصنع قيادة جماعية نستعيد بها تلك اللحظة التاريخية الفارقة.
نحن الآن لا نحتاج إلى صدفة، أو إلى تلك الأحداث الصغيرة المتعددة، و التي تقود الى تحولات نوعية؛ غض النظر ان اسميناها صدفة؛ بقدر ما نحتاج الى ترتيب الأوراق المبعثرة والدواخل المشتتة، وعلاج الأنفس الشحيحة الأمارة بالإقصاء والعداء والكراهية،

//////////////////////

 

آراء