الارتباك في التعامل مع منظمة إيقاد بين البرهان والبشير (3/4)

 


 

 

د. سلمان محمد أحمد سلمان*
1
ناقشنا في المقالين السابقين حالة الارتباك و التخبّط التي تسود حكومة البرهان فيما يختصُّ بالتعامل مع منظمة إيقاد منذ نشوب الحرب في منتصف ابريل عام 2023. أوضحنا أن تدخّل الإيقاد في قضية الحرب في السودان تم بناءً على طلب البرهان نفسه، وبإلحاح، وأنه سافر إلى معظم دول الإيقاد ليحثَّ قادة هذه الدول على التوسّط في النزاع السوداني. وقد شملت تلك الدول كينيا التي كان البرهان قد كالَ لها ولرئيسها دكتور روتو في الأشهر الماضية النقد والهجوم بصورةٍ تفتقر إلى أبسط قواعد الدبلوماسية. لكن بعد كل تلك الزيارات والرجاءات بالمساهة في حل قضية الحرب في السودان فقد عاد البرهان ليخبرنا ببساطةٍ متناهية أن "منظمة الإيقاد من وجهة نظرنا لاتعنينا وغير معنية بالشأن السوداني." ثم تكرر حكومته "أن الإيقاد لم تعد محايدة وأنها ترحب بجهود زعمائها بشكلٍ منفرد."

2
سوف نناقش في هذا المقال الارتباك والتخبط الذي تعاملت به حكومة الحركة الإسلامية بقيادة البشير مع مبادرة الإيقاد لحل قضية جنوب السودان. سيوضح المقال أن ما قامت وتقوم به حكومة البرهان من ارتباكٍ وتخبطٍ تجاه مبادرة الإيقاد لحل مشكلة الحرب في السودان هو امتدادٌ متكاملٌ لما قامت به حكومة البشير تجاه مبادرة الإيقاد لحل قضية جنوب السودان، وأن الليلة، في حقيقة الأمر، تشبه البارحة في كل أوجهها. فاللاعب الأساسي في الحالتين هو الحركة الإسلامية السودانية الحاكمة التي ما تزال تعتقد أن بإمكانها حسم الحرب الدائرة حالياً في السودان عن طريق البندقية، كما اعتقدت في بداية عهدها بعد استلامها السلطة عام 1989 بالحسم العسكري لمشكلة الحرب في جنوب السودان.

3
فور نجاح انقلابها في 30 يونيو 1989 قررت حكومة الحركة الإسلامية بقيادة البشير وضع كل إمكانياتها العسكرية والبشرية والاقتصادية لدحر ما واصلت تسميته بالتمرّد في جنوب السودان. تحولت الحرب في الجنوب بعد الانقلاب إلى حربٍ جهاديةٍ قاسيةٍ مدمرةٍ تغذيها شعاراتٌ عبثيةٌ مثل ساحات الفداء وعرس الشهيد وصيف العبور ومسك الختام. ومدّت الحركةُ الإسلامية الأممية يدَ العون بكل ما تستطيع لإخوة الدرب والدين في السودان.
لكن رغم كل هذه الاستعدادات والإمكانيات فقد توالت الهزائم واحدةً تلو الأخرى للجيش السوداني ومليشيات الحركة الإسلامية. أحسّت حكومة البشير بعد عامين من التصعيد العسكري بصعوبة إن لم تكن استحالة كسب الحرب. بدأ الجدل داخل أجهزة الحكومة العسكرية والأمنية والسياسية يدور حول اللجوء إلى التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لحل قضية جنوب السودان، وهو ما اتفقت عليه معظم القيادات الإسلامية في تلك الأجهزة.
سافر وفدٌ حكومي إلى أديس أبابا ليطلب من الحكومة الإثيوبية التوسط مع الحركة الشعبية. وافقت حكومة إثيوبيا على ذلك وبدأت التحضيرات للقاء الجانبين في أديس أبابا. غير أن حكومة البشير عادت وطلبت من إثيوبيا تأجيل بدء مواعيد التفاوض، وتوقّف ذلك الجهد من حيث بدأ.

4
في تلك الأثناء حدث الانشقاق الكبير داخل الحركة الشعبية وبرزت مجموعة الناصر بقيادة لام أكول ورياك مشار. قررت حكومة البشير اللجوء للتفاوض مع مجموعة الناصر والتخلّي عن مشروع وساطة إثيوبيا للتفاوض مع الحركة الشعبية الأم.كان غرض الإسلاميين من التفاوض مع فصيل الناصر المنشق هو توسيع هوّة الخلاف داخل الحركة الشعبية وإضعافها لتسهل هزيمتها.
بعد اتصالاتٍ مكثّفة، التقى وفدا حكومة البشير ومجموعة الناصر في فرانكفورت في 22 يناير عام 1992. بعد يومٍين من التفاوض وقّع الطرفان على إعلان فرانكفورت الذي منحت حكومة البشير بمقتضاه، لأول مرةٍ في تاريخ السودان، حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقّع على إعلان فرانكفورت في 25 يناير عام 1992 الدكتور علي الحاج ممثلاً لحكومة البشير، والدكتور لام أكول ممثلاً لفصيل الناصر المنشق عن الحركة الشعبية الأم.
كان الثمن لهذا التنازل الكبير من حكومة البشير (منح حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان) أن يقوم فصيل الناصر بتوسيع هجومه العسكري علي جيش الحركة الشعبية، وتنسيق ذلك مع الجيش السوداني، بغرض هزيمة وسحق الحركة الشعبية الأم.
غير أن سذاجة هذا الافتراض وضحت بعد أشهر قلائل من توقيع إعلان فراكفورت. فقد تواصلت انتصارات الحركة الشعبية الأم على الجيش السوداني والفصيل المنشق، وتواصل سقوط المدن والحاميات في يدها.

5
أرغمت تلك الهزائم المتواصلة حكومةَ البشير على العودة إلى فكرة التفاوض المباشر مع الحركة الشعبية الأم. كما ذكرنا أعلاه فقد تعاملت الحكومة السودانية بارتباكٍ كبير مع طلبها لوساطة إثيوبيا التي سعت إليها ثم طلبت من الحكومة الإثيوبية تأجيلها. لذا فقد قررت حكومة البشير البحث عن وسيطٍ جديد.
قام الرئيس البشير بالسفر إلى أبوجا حيث التقى إبراهيم بابنجيدا رئيس جمهورية نيجيريا خلال مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، وطلب منه وساطة نيجيريا لحل النزاع في السودان.
كانت الحكومة السودانية تعتقد أن نيجيريا التي واجهت محاولة انفصال إقليم بيافرا وهزمتها في ستينيات القرن الماضي ستكون أكثر تعاطفاً مع السودان الذي يواجه وضعاً مماثلاً في الجنوب. كما أن هناك أوجه شبهٍ كثيرة، حسب رؤية الحكومة السودانية، بين نيجيريا والسودان في الشمال المسلم والجنوب المسيحي أو الوثني في كليهما، والذي نتج عنه قيام نظامٍ فيدرالي في نيجيريا له تجربة ثريّة وناجحة في قضايا اقتسام السلطة والثروة بين الإقليم والمركز. كما أن تولّي السيد بابنجيدا رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية ذاك العام كان سيعطي وساطته السلطة القانونية والسياسية والمعنوية المطلوبة للنجاح.

6
استجابت الحكومة النيجيرية لذلك الطلب وبسرعةٍ واهتمامٍ بالغين. بدأت المفاوضات في أبوجا في الأسبوع الأخير من شهر مايو عام 1992، بعد أربعة أشهر من إعلان فرانكفورت. وقد شاركت في المفاوضات التي بدأت في يوم 26 مايو ثلاثة وفودٍ مثّلت الحكومة السودانية، والحركة الشعبية الأم، وفصيل الناصر المنشق.
بدأت الخلافات منذ الساعات الأولى للاجتماعات عندما طالب وفد فصيل الناصر بإضافة حق تقرير المصير إلى الأجندة التي لم تشمل ذلك البند. اعترض الوفد الحكومي على ذلك بحجة أنه لم يكن هناك اتفاق على تضمين ذلك البند في الأجندة. أشار فصيل الناصر إلى إعلان فرانكفورت الذي منح شعب جنوب السودان حق تقرير المصير كما ناقشنا أعلاه. فوجئت الحكومة النيجيرية بذلك الإعلان لإنها لم تكن على درايةٍ به وبخلفياته. دار جدلٌ قانونيٌ حول إلزامية الإعلان، وأشار وفد حكومة البشير إلى أن الحركة الشعبية الأم ليست طرفاً في إعلان فرانكفورت، وعليه لا يمكن أن يكون جزءاً من أجندة المفاوضات. وتواصل ذلك الجدل العبثي في هذه المسألة طيلة اليوم الأول للمفاوضات.

7
مثّل حق تقرير المصير النقطة الجامعة لوفدي الحركة الشعبية - الأم وفصيل الناصر - إذ سرعان ما أعلنا أنهما قد توحّدا في وفدٍ واحد حول برنامجٍ تفاوضي مشترك مبنيٍ على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. كان ذلك الإعلان خبراً مفاجئاً وغير متوقّع وغير سار لوفد حكومة البشير الذي رهن تحركه واستراتيجيته التفاوضية على الانقسام داخل الحركة الشعبية. حاول الوفد التنصّل من حق تقرير المصير وأشار إلى أن حكومة السودان وقّعت على إعلان فرانكفورت مع فصيل الناصر، وبما أن هذا الفصيل لم يعد له وجودٌ قانونيٌ منفصل في المفاوضات فهي في حلٍّ من إعلان فرانكفورت. كان واضحاً أن حكومة البشير قد أحست بورطة منح شعب جنوب السودان حق تقرير المصير في فرانكفورت، ورأت في مفاوضات أبوجا فرصةً للتنصل منه وفتح ملف الفيدرالية الذي طبّقته نيجيريا بنجاح في قضية بيافرا.

8
أغضب ذلك التصرف المرتبك تجاه إعلان فرانكفورت من وفد حكومة البشير الوسيطَ النيجيري الذي كان قد وصل إلى قناعة، بعد متابعته لهذا النقاش المدهش، أن وفد حكومة البشير تنقصه الجدية ويفتقر إلى التفاوض بحسن نية. فقد أخفى عنها إعلان فرانكفورت، ثم عاد ليعترف به ويعلن في نفس الوقت أنه غير مُلزمٍ به.
بعد جولاتٍ أخرى من التفاوض المتعثّر قررت نيجيريا غسل يديها من الوساطة بين الوفدين، وأعلنت نهاية جهدها وإغلاق باب وساطتها. وهكذا انتهى فصل مفاوضات أبوجا من حيث بدأ بسبب ارتباك وتخبط حكومة البشير قي موقفها من حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وإعلان فرانكفورت الذي كانت قد وقّعت عليه قبل أشهر قليلة.

9
في تلك الأثناء تواصلت الحرب في جنوب السودان وتواصلت هزائم الجيش السوداني وحلفائه في الفصيل المنشق. حاولت حكومة البشير بعد أشهر قلائل إعادة الحياة إلى مفاوضات أبوجا، لكن نيجيريا، بعد انتهاء دورة الرئيس بابنجيدا، لم يعد لديها الحماس لفتح ملف مفاوضات أبوجا، خصوصا بعد اقتناعها التام بعدم جدية حكومة السودان. عليه فلم يعد لحكومة البشير خيار غير العودة إلى جيرانها في شرق أفريقيا وطلب وساطتهم مرةً ثانية، وبإلحاحٍ شديدٍ هذه المرة .

10
انعقد في نهاية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر عام 1993 في مدينة أديس أبابا اجتماع رؤساء دول وحكومات منظمة إيقاد. التقى الرئيس البشير برئيس وزراء إثيوبيا وقتها ميليس زيناوي وطلب منه فتح ملف وساطة إثيوبيا. قفز إلى ذهن ميليس زيناوي تجربته السابقة مع حكومة البشير في مسألة طلب التفاوض مع الحركة الشعبية، لذا اقترح أن تقود الوساطة منظمة الإيقاد وليس إثيوبيا لأن ذلك، حسب رأيه، سوف يعطي الوساطة وزناً أكبر. رحب الرئيس السوداني بهذا التعديل وطلب من بقية دول الإيقاد الوساطة، بعد أن اجتمع منفرداً بكلٍ من رؤسائها وناقش ذلك الطلب معه.
وافقت دول الإيقاد على القيام بالوساطة في النزاع السوداني بناءً على طلب الرئيس البشير، وفوّضت لجنة رباعية تكوّنت من كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا للقيام بهذا الدور. اتفقت هذه الدول أن تكون كينيا مقراً لوساطة الإيقاد، وأن يشرف عليها رئيس جمهورية كينيا السيد دانيال أراب موي بنفسه.

11
سوف نناقش في المقال القادم (وهو المقال الأخير في هذه السلسلة من المقالات) بداية وتعثر مفاوضات الإيقاد، وانسحاب وفد حكومة البشير من المفاوضات بعد كيل الاتهامات للإيقاد بتجاوز صلاحياتها، ثم عودة نظام البشير طائعاً مختاراً لوساطة الإيقاد بعد أعوامٍ من النقد الحاد والهجوم القاسي عليها. وسوف يعكس المقال أوجه الشبه في الارتباك والتخبط من جانب حكومة البشير في مفاوضات قضية الجنوب، تماماً مثلما يحدث الآن بواسطة حكومة البرهان في وساطة الإيقاد في مشكلة حرب السودان، فاللاعبون هم نفس اللاعبين في الحالتين.

*رئيس مجلس جامعة الخرطوم

Salmanmasalman@gmail.com
www.salmanmasalman.org

 

آراء