البعد اللغوي للدعوة إلى التواضع

 


 

 

اللغة مثل الماء. يجري الماء جريانا حراً حسب "سياق" التضاريس، ولكننا قد نضطر أحيانا إلى إنشاء السدود، والردميات، والأرصفة لمنع تغول المياه على اليابسة. وفي حالة اللغة، لا نترك الحبل على الغارب للسياق اللغوي، بل نعمد أحيانا إلى تحصين بعض المفردات والمصطلحات حتى لا تضيع المفاهيم العظيمة التي تنطوي عليها. على سبيل المثال، في زمن نزول القرآن، كانت هناك كلمتان تؤديان المعنى نفسه هما "راعنا" و"انظرنا". "راعنا" من المراعاة و"انظرنا" من الإنظار، وكلتاهما تفيد الإمهال. فإذا طلب صاحب الدَين دينه، مثلا، قال له الناس "راعنا" أو "انظرنا"، أي أمهلنا. فجاء اليهود وطفقوا يخاطبون الرسول (ص) قائلين "راعنا"، وكانوا يقصدون بها معنى مغايرا يتضمن التهكم. وكان المؤمنون يقولون للرسول (ص) "راعنا" ويقصدون معناها الاعتيادي، بينما كان اليهود يتهكمون سرا وفقَ المعنى الذين يفهمونه. ولذلك جاء النهي في القرآن عن استخدام "راعنا" والأمر باستبدالها بعبارة "انظرنا": "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا". الكلمتان بنفس المعنى، كما قلنا، ولكن "راعنا" تتضمن إيحاءات سلبية في سياق جزئي خاص. ولذلك جاء النهي القرآن سدا لذريعة تفضي إلى هدف خبيث.
وفي السنة الشريفة، نهى النبي (ص) عن قول "الكَرْم" للعنب، وقول الرجل لعبده عبدي. والأخير سببه واضح، أما الأول فلأن العرب كانت تقرن بين الخمر المصنوعة من العنب وفضيلة الكرم، وتعتبر أن الخمر تدفع شاربها إلى فضيلة الكرم، حتى قال شاعرهم: "والخمرُ مشتقةُ المعنى من الكَرَمِ". فنهاهم النبي (ص) حتى لا ترتبط أم الكبائر بأي فضيلة من الفضائل.
واستنادا إلى هذا "النهي عن أمر جائز"، نقول إنه يجوز في اللغة سياقيا وصف الضعف بالتواضع، ولكن الهدف الكبير، المتمثل في التذكير بعظمة التواضع وأهميته، يسمح لنا بأن ننهى أنفسنا عن هذا الأمر للجائز.
لنقل إنه نوع من السياسة اللغوية. وقد رأينا أنّ له أصلا في القرآن.
وبالإضافة لمثال "راعنا"، نجد أن القرآن الكريم نعى على المشركين تسمية الملائكة تسمية الأنثى. ولهذا السبب نلاحظ الآن أنّ أسماء الملائكة جميعها مذكرة. ويدل المؤنث على التأنيث حصرا، ولكني أرى أن المذكر يدل على المذكر وأيضا على المحايد، الذي يتنزه عن التذكير والتأنيث، كاسم الجلالة مثلا، أو الذي لا ينطبق عليه التذكير ولا التأنيث، كأسماء الملائكة.
ولوصف الضعف، لسنا مضطرين، ضربة لازب، لاستخدام "تواضع" كما في قولنا "يسكن في منزل متواضع"، أو "إمكانياته متواضعة" أو "ظهر الفريق بمستوى متواضع"، فهناك بدائل مثل أن نصف الضعيف بأنه: هش، ردئ، واهن، سيء، ضئيل، نحيل، نحيف، هزيل، واه، محدود، ضئيل، قميء، بسيط، قليل، متهالك، خائر، خائب، خوّار، مضعضع، مزعزع، مهلهل، مخلخل، ضحل...فهل لم يبق إلا "متواضع" لنصف بها مستوى فريقنا المغلوب "شيّال الطوب"؟
ألا إنّ الإنسان هشٌ ضعيف، سريع التأثُر، ويسهل غسل دماغه، ويخشى جدا أن يؤدي تواتر استخدام كلمة تواضع في المعاني الدالة على الضعف والسلبية إلى أن تتأثر استجابة الدماغ ويستقر في العقل الباطن أن التواضع صفة يجب النفور منها.
.
نعم، الإنسان هش ضعيف، ولكن أتاح له الله قوةً جبارة لا تضاهيها قوة، ألا وهي قوة التواضع.
التواضع هو القوة الوحيدة القادرة على رفع الإنسان.
ولا رفعة للإنسان ولا منعة بدون التواضع.
.
ونصيحتي: لا تصفوا الشيء الضعيف أبدا بأنه متواضع.
التواضع أعظم قوة، فلا تجعلوه ضعفاً.

elrayahabdelgadir@gmail.com
///////////////////

 

 

آراء