السودان (من الاستعمار المستنير الي الاحتلال الهمجي)

 


 

عبدالله مكاوي
31 December, 2023

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
يمكن ان يُقال الكثير عن ذم الاستعمار الانجليزي للسودان، بداية من غرسه ثقافة الافندية الانانية، مرورا بزرعه لغم مشكلة الجنوب، وصولا لحرمان الشعب من حريته السياسية التي تعبر عن وطن يملكه ويستحقه، او ما يمكن وصفه، بنزع الاهلية عن المواطنين وفرض الوصاية عليهم.
ولكن ما لا يمكن اغفاله او المغالطة بشانه، ان الاستعمار الانجليزي بوصفه صادر عن دولة عقلانية تسعي لتعظيم مكاسبها، فقد حرصت علي تاسيس دولة بكل مقوماتها، وتاهيل كادر محلي يساعد في ادارتها. وسبق ذلك اجراء دراسة وافية لطبيعة المجتمع السوداني، ومن ثمَّ اختيار اسلوب ادارته، ومعرفة موارد الدولة وكيفية استغلالها.
وايضا من دلائل عقلانية الحكومة الانجليزية، انها وبعد اعادة استعمار السودان وهزيمة الهوجة التعايشية لم تلجأ للانتقام، بقدر ما انصرفت لجني المكاسب، وهذا ما جعلها تتعامل مع السودان بوضعية خاصة، سواء من جهة تولي شئونه بواسط وزارة الخارجية كما ظل يكرر الاستاذ شوقي بدري، او من جهة اختيار اميز الكوادر الانجليزية للعمل في السودان، او من جهة منحه استقلاله عبر التفاوض وليس المقاومة المسلحة (مثل الجزائر). وهذا ناهيك عن العشرات من الروايات الشفاهية التي تبين مدي احترام الانجليز للشعب السوداني، ومدي التزامهم بالقوانين وحدود مهامهم (لم نسمع لا بالمحاباة ولا الفساد ولا الاغتصاب ولا التعذيب في المعتقلات ولا غيرها من التجاوزات التي اصبحت دارجة في الحكم العسكري بعد خروجهم، وان صدف وحدث ذلك يكون في اضيق النطاقات). ويكفي ان الانجليز عند خروجهم خلفوا وراءهم خدمة مدنية يضرب بها المثل. ولو قدر لنا مجرد المحافظة عليها لكان لنا شأن بين العالمين.
ومؤكد ان الاستعمار الانجليزي، ما كان له ان يجد كل هذا التقريظ، لولا ان ما اعقبه من حكومات وطنية جلها عسكرية بخلطة ايديولوجية، سقطت بنا في مهاوي الفشل والبؤس والاحباط. لدرجة ان الاستعمار بكل عيوبه كان الاعدل بين المواطنين والاصلح لتسنم السلطة والاكفأ في ادارة الدولة. وهذا بدوره يقول شئ واحد، ان منظومة الحكم وادراة الدولة، اذا استجابت للمضامين الحديثة في الحكم والتزمت المنهجية في ادارة الدولة، ولو كانت تحت رعاية الاحتلال، هي افضل وبما لا يقاس من منظومة الحكم الاعتباطية وطريق ادارة الدولة المزاجية، ولو كانت بواسطة عناصر وشرائح وطنية. واكبر دليل علي ذلك ان الاستقلال تحول الي ورطة، بعد ان فقد جدواه، وذلك بالطبع بعيدا عن الاغاني والمشاعر العاطفية.
ومجمل القول، ان الاستعمار الانجليزي احدث قطيعة مع منظومة الحكم الهمجية التي جسدتها فترة تسلط التعايشي، لصالح منظومة حكم وادارة حديثة للدولة. بل يصح القول ان كلمة دولة اتخذت مدلولها ووجودها علي الارض بعد الاستعمار الانجليزي، اما ما قبله فيمكن ان يوصف باي شئ الا انه دولة. والمفارقة انه بعد خروج الانجليز اصبحت ذات الدولة في حالة تراجع مطرد، وانحدار الي حالة اللادولة.
وعموما حالة التدهور استمرت ببطء، حتي استولي الاسلامويون علي السلطة بانقلاب عسكري. والحال ان انانية الاسلامويين ورطتهم في الاستبداد بالسلطة وادمان الفساد والاستهتار بالدولة، وغرورهم حجب عنهم تواضع الاعتراف بالاخطاء، ناهيك عن التعلم منها. وفي غمرة السَكر بالسلطة تم تقويض مؤسسات الدولة. اما هاجس الدفاع عنها، فنتج عنه التفريط في الامن القومي (تم تقديم حماية النظام علي حماية البلاد)، وذلك من خلال ادلجة المؤسسة العسكرية من جهة، وتهميشها عبر تكوين تشكيلات موازية لها (جهاز الامن اولا، ومليشيا الدعم السريع ثانيا) من جهة مقابلة.
وبالوصول لهذه المرحلة اصبح وجود الدولة علي كف عفريت، اما حرب 15 ابريل فهي اعلان رسمي بنهاية دولة السودان بشكلها القديم، ومن ثمَّ اعداد المسرح لبديل جديد، يمكن ان يعبر عن اي شئ إلا مصلحة المواطن وسلامة الوطن. والشاهد علي ذلك، الدمار الشامل للبنية التحتية والمشاريع الانتاجية والمؤسسات الخدمية، والانتهاكات المريعة التي تمارسها مليشيا الدعم السريع في حق المواطنين الابرياء! لدرجة ان دخولها لاي ولاية او مدينة او قرية، يعني فعليا سقوطها في قبضة وحوش بشرية! لان الدعم السريع ببساطة هو خليط التوحش والنهب والارهاب. وتاليا مشروعه مشروع احتلالي همجي، يقوم علي ارهاب واذلال المواطنين وتحطيم كل مقومات وجودهم.
ويبدو ان هذا المشروع الذي تهندسه الامارات (والاصح مجرد مخلب قط) الغرض منه مسح الطاولة (الدولة القديمة) لوضع دولة جديدة تخضع لمليشيا الدعم السريع. اي انتاج دولة وظيفية توفر المرتزقة وتنهب الموارد وتؤدي كل المهام القذرة للدول الراعية.
ودعم هذا المشروع يقوم علي تقديم الامداد غير المشروط لمليشيا الدعم السريع، لالحاق الهزيمة بالجيش. وللاسف هنالك من بداخل الجيش علي مستوي القيادة العليا يساعد في هذا المشروع (تسليم المقرات والحاميات والمعلومات)! وذلك حتي الوصول لجيش مدجن او منزوع الانياب، يعمل كواجهة لمليشيا الدعم السريع.
وكذلك يقوم المشروع علي تهميش السياسة والسياسيين، إلا كواجهات تحسن مظهر الدعم السريع في الخارج. اما الشعب فتمارس عليه اشد انواع الهمجية والبربرية، لقتله ونهب ممتلكاته وتخريب مصادر رزقه، وذلك لوضعه امام خيارين، اما القبول بما يفرض عليه او الابادة.
في هذا السياق (قوة نفوذ اعداء التغيير الديمقراطي) تندرج الثورات في كونها افخاخ، رغم نبل شعاراتها وجسارة شبابها. اي يتم استغلال الحاجة للتغيير في وجهة مناقضة للتغيير، قد تطال سلامة الدولة في حال كانت الدولة هشة، كالسودان واليمن وليبيا، او اعادة انتاج النظام القديم بصورة اكثر رداءة (نظامي السيسي وقيس سعيد).
وما يحير ان هذا المشروع المشبوه، يجد الدعم من رئيس تشاد (رغم ان دولته هي الهدف التالي)، وكذلك تهاون مصر رغم انها في لب استهداف هذا المشروع! لانه ببساطة مشروع اسرائيلي بواجهة امارتية وتواطؤ اثيوبي. وكأن الدولة المصرية لم تتعظ من خطأ الثقة الزائدة (الساذجة) في الوعود الاثيوبية حول سد النهضة، حتي تسمح بتمرير مشروع يهدد خاصرتها (ضربته مميتة).
وللاسف كل ذلك لم يحدث مصادفة، ولكن بسبب تفنن النخبة السياسية في اضاعة الفرص، وتراكم اخطاء النظم الانقلابية، والادارة الفاشلة للدولة، وكذلك ضعف الوازع الوطني لكثير من القادة السياسيين والعسكريين (خضوعهم للخارج)، وقبل كل شئ لعدم وجود رابطة وطنية مشتركة، تسري روحها في جميع افراد الامة. لذلك حتي عندما نحب الوطن بل ونضحي من اجله، يتم ذلك من مواقع متعددة بتعدد المواقف والمكونات والاتجاهات.
والخلاصة، كما احدث الانجليز قطيعة مع نظام التعايشي العشوائي الهمجي المفارق للتاريخ، هاهو التاريخ (بمكره) يدور دورته، لياتي حمدتي لاستئناف ذات نهج التعايشي ويعيش في مرحلته الغابرة، ليُحدث حمدتي بدوره قطيعة مع كل مكتسبات الدولة السودانية منذ الاستعمار الانجليزي حتي 15 ابريل 2023م. ولكن مع فارق ان التعايشي ابن مرحلته ويخدم سلطته، عكس حمدتي (مركب الجهل والاجرام والعمالة والارتزاق) الذي يخدم الخارج، كثمن لتمرير احتلاله الهمجي للداخل.
واخيرا
السؤال باي صفة يُقابل حمدتي خارجيا، كسياسي ام كعسكري؟ لانه من ناحية سياسية ليس له صفة، ومن ناحية عسكرية لا يستحق كل هذه الحفاوة وقواته لاتنفك ترتكب كل جرائم الحرب!! خاصة وان واحد من الاوجه الهزلية لماستنا، ان حمدتي ومليشياته هم اصلا خارج الدولة بل ضد الدولة، ورغم ذلك يصر حمدتي علي رئاسة الدولة ومليشياته للسيطرة عليها.
اما الكيزن كبلوي افرزت كل البلاوي، فما زالو يمارسون ذات النهج الذي قاد الي هذه المهلكة، حتي لا تتهدد مصالحهم المرتبطة بالسلطة. وهم يحرضون علي قرع طبول الحرب الاهلية، باستثارة النعرة القبلية، ويتناسون موازين القوي الذي اصبح يختل لصالح مليشيا الدعم السريع، وان الحريق هذه المرة سيطال انصارهم قبل الآخرين! (والله يستر). ودمتم في رعاية الله.

 

آراء