انتصار البادية لا يجلب العدالة المنشودة

 


 

 

التاسع من يونيو ٢٠٢٣

إن المراقب لتاريخ السودان لا يفوته التدافع القديم والمستمر مابين الجماعات البدوية العربية الوافدة ومابين أهل الأرض الأصليين المنتظمين في حواضر وكيانات سياسية قائمة.. تلك المقابلة يتجسد في جوهرها كنه الصراع والتدافع النمطي مابين البادية والحضر.
كون ان الغالب الأعم لتلك القبائل البدوية هو إنحدارها من سلالات عربية تعود أصولها وأصلابها للجزيرة العربية، لا ينفي تلاقحها مع جماعات بدوية صحراوية بربرية كقبائل الطوارق الذين سبقوا في وجودهم وبداوتهم الهجرات العربية الأولى لأفريقيا.. تجسدت أحدث تجليات ذلك التلاقح في الإجتياح المسلح الذي شنه تحالف عسكري كان قد جمّع مابين الحركة الوطنية لتحرير الأزواد (الطوارق) بتنظيم القاعدة لغرب أفريقيا (أكمي)، تكلل بالهجوم على تمبكتو وقاو في شمالي مالي في وقت ما من العام ٢٠١٢.
بنفس القدر فإن المجتمعات الحضرية المدينية المقيمة لا تنطوي بالضرورة على تناغم إثني ولا تجمعها بصفة رئيسية علائق الدم أكثر مما تدفعها مصالحها ومقتضيات التعايش السلمي فيها كمجتمعات متجاورة أن تتضامن داخل كيانات مدينية ذات مصير مشترك لا يعبأ بالتمايز الإثنيّ فيها إن وجد.. هذا على خلاف المجموعات البدوية التي تجبرها سلامتها ومصالحها أن تحافظ على الحبال العشائرية والعرقية والولاءات التقليدية، حتى تحمي كياناتها المتتقلة وأفرادها المتجولين في بيئة مفتوحة سقفها السماء وهاديها القمر، تزدحم بالضواري والعفاريت والمخاطر بضروبها المختلفة.
إدارة منازعات الرُحّل
حرصت السلطات إبان العهود الإستعمارية في دول جنوب الصحراء على تأمين مسارات تلك المجموعات البدوية وضمان مصالحها، حفائرها ونقاطها البيطرية. بل أطّروا لها الأعراف الإجتماعية التي تضمن لها عبور النهر شمالا وجنوبا سعيا وراء المرعى، والتعاطي بيسر مع المجتمعات البدوية المنحدرة من أصول افريقية كالدينكا والنوير والأمبررو وخلافهم، وفق تتابع مواسم الجفاف والأمطار.. وهي أعراف ضمنت السلام والمصالحة لعقود وضمنت كذلك تقاليدا تالدة لمجابهة النزاعات التي كانت تقع مابين الحين والآخر مابين تلك الجماعات البدوية المتعددة، بما في ذلك نظام الفزع، والعفو وسداد الديات.. إلا ان هذه الأعراف قد تعرضت مؤخراً لكثير من التعقيدات إبان فترات الحكم الوطني وذلك لإهمال قضاياها بل وتعقيد نزاعاتها من خلال مد أطراف النزاع بالأسلحة النارية ومن ثمّ الزجُّ بالدين على خط الأزمة، كعوامل فاقمت من تعقيدات الأوضاع الأمنية والتنافس فيما بين تلك المجموعات نفسها شمالها وجنوبها، أو ما بينها وبين التجمعات الحضرية المتاخمة لمسارات الرعاة التقليدية.
لا شك ان موجات الجفاف والتغيرات المناخية المتتالية قد عقدت الأوضاع المعيشية وأدت إلى نفوق القطعان ودفع أعداد كبيرة إلى النزوح في إتجاه ضفاف الأنهار. تدهورت إثر ذلك ثروات ومداخيل تلك المجتمعات، بل تمخضت الأوضاع عن تهديدات حقيقية لمصير الأمن والتعايش السلمي في معظم الدول الواقعة جنوب الصحراء.
دفع ذلك التراجع في القطعان والمراعي والثروات الكثير من تلك الجماعات البدوية للإنخراط في أنشطة عدوانية مسلحة، ربما لتعويض التآكل في الثروات من خلال عمليات واسعة للنهب والسلب، أول ضحاياها هي المجتمعات الحضرية في المدن لا سيّما تلك الأكثر قربا للبوادي.
لذلك فقد تحول التدافع السلمي السابق من تدافع ناعمٍ مرن سعيا للعشب والمرعي، إلى تدافع أكثر عنفا اتسم بتضاعف أعداد الضحايا، واعتمد على أدوات اشد قسوة شملت طيفا واسعا من الإسلحة النارية، لا تنسجم في تعقيدها وتقانتها الواقع الإقتصادي المتدني الذي تجالده تلك المجموعات.
مفهوم الدولة الوطنية (ناشوناليزم)
مشروع الدولة الوطنية التي أعقبت الإستعمار وحدت الرؤى وسط أطياف واسعة من الشعوب المنضوية تحت حدود جغرافية موروثة كانت قد قامت نتيجة تدافع الكيانات الإستعمارية. ارتبطت تلك الشعوب بلغة مشتركة ورواية تاريخية سائدة. بمصير مشترك ومنظومة مدنية ودفاعية تضمن لها أمنها وسلامتها وثرواتها وكفاحها المشترك.. مثلما ضمت تلك الحدود السياسية المعروفة تجمعات حضرية متفرقة مترابطة في المصالح والثقافات.. فقد ضمت كذلك مجموعات بدوية جوالة، تربطها علائق عشائرية وصلات دم عابرة للحدود. علائق تجعل من تلك الحدود السياسية التي تحترمها الدول الوطنية وتسهر على حمايتها، شيئا لا يخصها ولا تلقي له بالا، ناهيك عن ان تحترمه أو تعبأ بحمايته. وما ينطبق على الحدود السياسية بالضرورة ينطبق على أقدار متعلقاتها من الهويات والمستندات الثبوتية حيث الإنتماء الذي تحدده الدماء والسلالات والعشائر لا يعبأ بفواصل إفتراضية لا وجود لها في واقع البادية وآدابها، ..
ابعد من ذلك فإن القيم التي أسستها الحركات الوطنية أو ما يسمى بالناشوناليزم، قد أقامتها على تلك التمايزات المبنية على الدولة الوطنية الحديثة ككيان افتراضي ذو وشائج مشتركة وحيز جغرافيّ مُعرّف، كيان حديث ومُبجّل، تنصهر فيه الولاءات العشائرية والإثنية، قيم كالوطنية، والتضحية والفداء في مقابل آثام كالخيانة والعمالة واللاوطنية، لا تجد أغلب الظن، ما يقابلها لدى العقليات البدوية بانتماءاتها المعرّفة فيما تقدم.. فللأوطان في دم كل حر.. يدٌ سلفت ودينٌ مُستحقُّ.
حملات البدو عبر التاريخ
الحملات المتتالية عبر التاريخ الحديث، التي شنتها الجماعات البدوية الجائلة على الكيانات الحضرية والممالك الحديثة القائمة على نهر النيل، فيما عرف بخراب سوبا إثر حملة تخريب شنتها تحالفات لعرب القواسمة مع الفونج في القرن الخامس والسادس عشر ضد مملكتي علوة والمقرة، وما تلاها من فراغ وتراجع حضاري. ثم ما أعقب ذلك بعد اربعمائة عام من حصار وتخريب على الحواضر السودانية، إبان الحكم التركي المصري من قبل أنصار المهدي وحلفاؤهم من تجار الرقيق، من هجوم وسلب واستباحة للعاصمة الخرطوم.
يحضرني هنا مقال منشور بالوسائط ومنسوب ليوسف عزت المستشار الإعلامي للدعم السريع "بين الثورة والسكين.. جنجويد"، تعرّض فيه الكاتب للهيمنة والمظالم الإجتماعية التي ظلت تعاني منها لسنين عديدة المجتمعات الريفية في السودان تحت ظل ومساندة الحكومات الوطنية المتعاقبة.. وذلك من قبل طبقات وبيوتات إقطاعية إنفردت بالسلطة والثروات منذ تخلي الإستعمار الأنجلوساكسوني عن السودان.
لا جدال في أن العدالة الإجتماعية وقسمة الموارد والثروات بصورة عادلة وشفافة مابين المواطنين في كافة رقاع البلاد، هدف منشود ونبيل لا يناهضه إنسان أوتي من الحكمة والعقل أيسرهما.. وأن الكفاح في سبيل ذلك مكفول لكل وطني مناصر للحقوق والحياة الكريمة، يحلم بدولة العدالة والمساواة. لكن جوهر المغالطة ينحصر في محاولة المقال حشر الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل من هذا العام والتي يشنها الدعم السريع في مواجهة القوات المسلحة ومناصريها، وطنيون محايدون كانوا، او كانوا انصارا للحرس القديم، محاولة توريط تلك الحرب أو تصنيفها كواحدة من منتجات الغبن الإجتماعي، أو أنها أداة من أدوات الكفاح الواعي الهادف لصد المظالم الإجتماعية والتهميش سعيا لرد الدولة عن غيها وإجبارها للإقلاع عن مظالمها واستخفافها بشعوب السودان الريفية المهمشة. محاولة جائرة لا تخلو من مكابرة.
أعباء التغيير الإجتماعي
إن الإنسانية التي تنقلت مجتمعاتها وتسامت عبر عصور طويلة من العنت والكفاح السلمي والمسلح، سادتها علاقات إنتاج إقتصادية بدات من المشاعية البدائية، ثم العصر الحجري، ثم الرق، ثم الإقطاع ثم عصور التنوير التي شهدت إكتشاف الآلة والنهضة الصناعية التي أعقبتها.. والعمران والحضارات التي قامت بعد مخاض طويل .. لا يمكن أن تنضوي عملية التغيير الإجتماعي فيها تحت معارك سلب ونهب واسعة يشنها محاربون غزاة من بدو الصحراء، قادمون بأعداد هائلة، بعضهم من وراء الحدود، يقطعون مئات الأميال، يروعون المدنيين العزل الآمنين في ديارهم، يقتلون الرجال فيها ويستحيون النساء.. وينهبون المصوغات والمدخرات وسيارات الناس بلا ذنب جنوه إلا ضعفهم وهوانهم وكربتهم.
إن مجموعات مسلحة تنتهج السلب والنهب والإغتصاب وإشعال النيران والإتلاف المتعمد للأصول والمنشآت المدنية، وتتخذ من مدنيين، لم يخوضوا يوما معركة ضدها، ومنشآتهم الصحية دروعا للقتال، محاولة إبراز مغامرة كتلك، كحلقة نظيفة من سلسلة نضال شريف من أجل العدالة والمساواة ومكافحة التهميش، محاولة يائسة ومفعمة بالسخرية والمفارقات.. حيلة لم يصادفها التوفيق، فيها الكثير من الاستخفاف بعقول القراء والباحثين والعلماء في حركة التغيير الإجتماعي..
الخلاصة
ربما لا أختلف مع الكاتب في عملية إحتكار العنف والثروات التي تمارسها حكومات المركز المتعاقبة بالخرطوم، دفاعا عن الحقوق المُغتصبة والموفورة لصالح تحالف متوارث عبر الأجيال يشتمل على كبار الضباط والتجار واللصوص الرسميين وأعيان المدينة وحملة الأوسمة والأنواط. ورثة التركة الإستعمارية أو ما يحلو لنا تسميتهم بالنبلاء السود.. لكن التغيير والتنوير يبقى مسعىً نبيلا له وسائله ومساراته الحتمية مهما كان إيقاعها. إن مآلات معركة واحدة لا يحدد مصير الحرب. فليس بالضرورة أن ينسجم إيقاع التدافع في كل مراحله مع إتجاه حركة التاريخ، فعلى الرغم من أن الحرب الأهلية في أمريكا كانت قد تكللت، في خواتيمها، بالنصر الذي وضع حدا لمؤسسة الإستعباد في الجنوب، لكن ذلك لا ينف أن العديد من المعارك التي دارت في أتون تلك الحرب، حدث أن انتصر فيها نخاسون على جيش التحرير، لكنها فوق ذلك لم تفلح في إدارة عجلة التاريخ إلى الوراء، بل أنها لم تفلح في تحديد مصير الحرب.
يبقى التغيير الإجتماعي حلما منشودا، لكنه بأية حال لن تجلبه يوما قبائل بدوية، عابرة للحدود لم تنضوِ بعد تحت عقد إجتماعي، ولا زالت تحكمها أعراف عصبية عشائرية، لأن الأخيرة في نفسها في حاجة لأن تنخرط في عملية تنوير وتغيير إجتماعي ينقلها عبر عملية قاسية وطويلة من التنوير والوعي، ربما يلزمها أجيال وأجيال، لتأخذ موقعها من العملية الإنتاجية وإقتصاد السوق والتدافع الإجتماعي.. قبل أن يعتبرها الكاتب على عِلًاتِها، مسئولة دون سواها من الشرائح، عن ريادة عملية قسرية للتنوير والثورة الإجتماعية، ففاقد الشئ بالإمكان أن يتسوّله، لكنه لا يعطيه.
ورد عن ابن خلدون القول أن البدو (ما داموا على ما هم عليه) لا يتصالحون مع العمران والحضارات، وأنهم لا يتورعون في أن يزيلوا حضارة كاملة عن الوجود، ثم ينكبُّون على الحجارة والأنقاض لكي يشعلوا نارا قرب خيمة من وبر الجمال يقيمونها بالجوار..
إنتهى

nagibabiker@gmail.com

 

آراء