بعد ما فات الأوان أيها الشعب الثائر..!!

 


 

كمال الهدي
18 November, 2022

 

تأمُلات
. قبل الخوض في فكرة هذا المقال أعذروني في الاستهلال بمقدمة طويلة واجبة.

. أولاً كنت قد قررت قبل أيام أن أكف عن الكتابة حول قضية الوطن وكل ما هو سياسي إلى حين أن نصبح أكثر جدية في التعامل مع الأخطار الكبيرة التي تهدد وجودنا مع انشغال الكثيرين منا بأمور تافهة لأبعد مدى، لكن بعد ما رشح بالأمس عن اتفاق منتظر بين قحت والانقلابيين وجدت أنه من السلبية بمكان أن أكون داعماً للثورة طوال سنوات حُكم الكيزان وأحتفظ برأيي لنفسي في مثل هذه اللحظة الفاصلة.

. ولهذا كان لزاماً على التعليق على الاتفاق الذي لاحت بوادر رفضه من الشارع سريعاً.

. وقبل طرح رأيي في ذلك أُذكر مجدداً بأنني منذ بدء الثورة ومروراً بمختلف منعرجاتها وبعد تشكيل حكومة دكتور حمدوك كنت من أكثر الداعمين للتغيير الجذري الذي يطالب به البعض الآن بعد أن فات أوانه.

. كما أذكرُ بأنني ظللت انتقد دكتور حمدوك ووزرائه وقحت منذ أول أسبوع لتشكيل حكومته لكونه قد بدأ بالطريقة الخطأ وأصر على مخاطبة الخارج مع اهمال الداخل وما تتطلبه الأمور من حسم ثوري.

. وحين كانت غالبية مقالات الرأي موجهة لانتقاد المكون العسكري ركزت في نقدي على الشق المدني بالرغم من أنني دعوت بعد ترؤس البرهان للمجلس العسكري بأيام لأن يخرج الثوار في مليونيات لإسقاط المجلس العسكري كاملاً بدل شغل (القطعة) ورفض شخص هنا أو هناك.

. لكن تركيزي في الانتقاد على الشق المدني كان نابعاً من قناعة بأنك تنتظر الشيء ممن يقف معك في خندقك لا ممن يعاديك.

. ولهذا كنت قاسياً جداً مع أي تهاون من قحت ودكتور حمدوك لأنهم بذلك يدعمون العسكر ولو بصورة غير مباشرة طالما أنهم ما كانوا يصارحون الشارع بحقيقة ما يجري خلف الأبواب المغلقة.

. كان ود لبات في نظري عميلاً وساطع وابتسام السنهوري ونبيل خونة وحمدوك متخاذل وفيصل خنوع وضعيف وقلت ذلك حينها بلا مواربة.

. لكن المؤسف أن غالبيتنا (انساقت بالخلا)، فيما تعاطف آخرون مع الرجال والمواقف الخطأ حينذاك وكانوا يرون فيما نكتب (شخصي وعدد مقدر ممن تبنوا مواقف شبيهة) نشازاً.

. حتى العقلاء من المقربين كانوا يطالبونني بتخفيف حدة الانتقاد لأن ذلك يدعم الأعداء في نظرهم، لكنني كنت أرى أن التهاون سوف يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.

. " وما لا تحمد عقباه" هو ما يحصل حالياً.

. وبعد أن سكتنا جميعاً على مؤامرة جوبا التي دعمت القتلة ومكنتهم منا تماماً شعرت بأن التفريط في الوطن ووحدته بلغ مداه.

. لكل ما تقدم أرى أن تحميل قحت المسئولية وحدها يعد هروباً من مواجهة أنفسنا.

. فقد شاركنا جميعاً في ادخال الوطن لعنق الزجاجة بسذاجة، عاطفة، جهل، خيانة أو عمالة لا يهم، فالنتيجة واحدة وهي أننا عقدنا الوضع بطريقة لا يوجد معها حل سوى التسوية التي يرفضها الكثيرون بعد أن سكتوا وصفقوا لكل مواقف قحت نفسها (ووقعوا شكر في حمدوك) وقت أن كان زخم الشارع قادراً على تغيير الكثير.

. الجميع أخطأوا وعلينا ان نعترف بذلك ونبطل شغل المزايدات بعد أن أضعنا الفرص مراراً وتكرارا.

. وليعتذر كل من أساء التقدير أو تبنى موقفاً خاطئاً نتيجة سذاجة أو عاطفة أو حباً في زيد من القادة، لأن كل تلك المواقف أدت لما نحن فيه الآن.

. لا يعقل أن تتوقع من البرهان وحميدتي وبقية القتلة أن يقدموا السلطة في طبق من ذهب لأي كائن بعد أن سمحنا لهم جميعاً بإكمال مخططاتهم اللئيمة، و أتحنا لهم فرصة الاستعانة بحملة سلاح خونة وأرزقية ووفرنا لهم الوقت الكافي لاقحام من يرونهم من أطراف خارجية في شأننا.

. حتى الشباب الذين أعجب جداً بجسارتهم و إخلاصهم وتضحياتهم لعبوا دوراًً سلبياً.

. فقد قُدمت لهم دعوات متكررة منذ العام ٢٠١٣ لتشكيل قياداتهم وتدارس ما سيكون عليه الوضع بعد التغيير، لكنهم لم يفعلوا شيئاً في ذلك.

. صحيح أنهم استمروا في المواكب والمسيرات بلا كلل أو خوف خلال الثورة وظلوا يضحون بأعز ما يملكون، لكنهم لم يدعموا المواقف الصلبة كما يجب وربما أنهم انخدعوا ببريق الأصم وقحت وحمدوك وغيرهم

. فعندما قدم الراحل المقيم على محمود حسنين مقترح إعلان الحكومة من أرض الاعتصام كان ذلك ممكناً حينها، سيما أن الرجل (رحمه الله) كان يحمل داخل حقيبته وقتها دستوراً انتقالياً.

. وفي ذلك الوقت كان من الممكن أن نستبق تحركات أطراف خارجية لئيمة عديدة ونفرض إرادة شعبنا على الجميع، إلا أن شيئاً من ذلك لم يتحقق.

. والأغرب أن الكثيرين (مستنيرين ومفكرين وسياسيين وكتاب وصحفيين وناشطين) دعموا قرارات الرباعية وبقية (خزعبلات) العالم الخارجي بعد انقلاب البرهان وتعشموا فيهم الخير وتوقعوا رفض الغرب وعمله على إفشال الانقلاب.

. وحين كنت تكتب مستنكراً التعويل على الغرب وقتها إما اعتبروك ساذجاً وغير ملم بالتفاصيل أو متشائماً.

. فكيف بالله عليكم ترفضون تدخلات الغرب الآن بعد أن تعشمتم فيهم الخير في وقت مضى!

. ارجعوا للقروبات الداعمة للثورة وليعيد كل منكم قراءة ما كان يكتبه في السنوات والأشهر الماضية.

. وليراجع كل كاتب رأي ما كان يخطه قلمه حينها.

. وقتها فقط ستكتشفون أن قحت ليس وحدها من أخطأت في حق الوطن.

. يوجد خونة وعملاء وأرزقية في قحت، لكن بها أولاد ناس أيضاً وهؤلاء ربما أخطأوا التقدير ولم يكونوا واعين وبعيدي نظر بالقدر الكافي، حالهم في ذلك حال الكثير جداً من المستنيرين والناشطين والكتاب وغيرهم ممن دعموا المواقف الخطأ في مناسبات عديدة (مؤامرة جوبا مثالاً).

. فكيف ستُحل الأزمة الآن بالله عليكم، وعن أي تغيير جذري تتحدثون!

. هذا تنظير لا يجوز في مثل هذا المنعرج الخطير.

. سمحنا جميعاً كسودانيين بالتدخلات الخارجية وكنا نفرح في وقت مضى عندما يصرح مسئول أو برلماني أَو ناشط غربي في شأننا ونحتفي بكلامهم فليه جايين ترفضوا الآن بعد خراب سوبا الذي ساهمتم فيه!!

. التدخلات الخارجية صارت واقعاً، ولم يعد أمامنا سوى القبول بأقل الأضرار.

. واهم جداً من يظن أن رفض كل شيء سيفضي إلى شيء بعد اليوم.

. وما هو البديل لرفض كل شيء!!

. المواكب وتحريض الشباب على الاستمرار فيها!!

. قد تستمر إلى حين، وسنفقد أرواح أخرى مع كل مسيرة بإتجاه القصر، لكن لن يتحقق أي شيء بدون قيادة ما عاد هناك متسع من الوقت لتشكيلها ولن يُسمح أصلاً بتشكيلها بعد أن استنفدنا كل السوانح.

. الإصرار على رفض كل شيء الآن نتيجته واحدة هي أن تكون التدخلات الخارجية أكثر عنفاً ودموية لتحقيق أغراضهم الدنيئة طالما أن بيننا خونة أوطان بهذه الأعداد المهولة.

. لم يعد أمامنا سوى بعض الحكمة وامتلاك شجاعة الاعتراف بالأخطاء والسذاجة وتبسيط وشخصنة الأمور.

. علينا أن نعتذر لأسر الشهداء والجرحى والمفقودين ونقول لهم " ليس أمامنا سوى أن نمرحل الأشياء ونقبل بالمتاح حالياً لعلنا نستطيع أن نثأر في يوم ما لمن قدموا الغالي والنفيس من أجلنا دون أن نكون على قدر تضحياتهم الجسيمة وقتها".

. هذا هو الحل الوحيد الذي أراه الآن رغم كرهي غير المحدود لكل القتلة والمتخاذلين من سياسيين ومفكرين وناشطين.

. حتى يومنا هذا يشارك ثائر زميله في الكر والفر أثناء المواكب ثم يأتي ليلاً ليصفق الإنقلابي لأنه يدعم الفريق الذي يشجعه، أو يهدر وقته في الاصطفاف مع ندى القلعة أو هدى عربي.

. حتى كتاب الرأي الذين يعول عليهم الناس في التغيير تجد الواحد منهم داعماً للثورة والمواكب وفي نفس الوقت يشيد بإنقلابي داعم لهذا النادي أو ذاك.

. نحن شعب يعيش حالة انفصام يصعب تفسيرها، وبمثل هذه المواقف الغريبة ندفع شبابنا للمزيد من المحارق ونساهم في تفتيت الوطن.

. ليس معقولاً أو مقبولاً أن ننقسم لمجموعتين تناضل إحداهن نهاراً وتتحمل بمبان السلطة الكريهة وبطشها وأخرى جل همها أن يتطور فريق الكرة الهلالي أو يُصان ملعب المريخ ولو بأموال الشيطان نفسه.

. وضح جلياً من تجربة السنوات الفائتة أن التغيير الذي ننشده يتطلب وعياً لم يتوفر لنا حتى اللحظة.

. ولهذا لابد من القبول بحل وسط لتستمر بعد ذلك حملات توعية الناس عسى ولعل أن يأتي يوم نتخلى فيه عن الكثير من سلبياتنا وحينها فقط يمكننا أن نثأر لمن ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن ونبدأ رحلة البناء.

. أما الآن فليس هناك مجال لرفض كل شيء ولابد من التعامل مع المتاح مع ضغط الشارع على الطرفين باستبعاد كافة الفلول على الأقل وتقديم ضمانات بشكل مختلف على التزام العساكر بدعم عملية الانتقال وتسليم المدنيين كافة ما يليهم من مسئوليات.

kamalalhidai@hotmail.com

 

آراء