ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (4-4)

 


 

 

مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.


عبد الله الفكي البشير

abdallaelbashir@gmail.com


الكبوة الدستورية: الدستور الإسلامي 1968


على الرغم من أن أشواق الجماهير في ثورة أكتوبر، كانت تُعبر عن الخروج من الذات لملاقاة الآخر، وهي تحمل أماني الوحدة من خلال رفضها للحسم العسكري لقضية الجنوب، كانت الأحزاب التقليدية تعمل على النقيض تماماً، حيث العمل على ما يفتت البلاد من خلال الدعوة للدستور الإسلامي. فقد طرح مشروع الدستور الإسلامي وقد أيدته حينها كل الأحزاب الطائفية وجبهة الميثاق (الإخوان المسلمون)، وتحمست له جميعها. فبعد إجراء الانتخابات العامة في أبريل 1968 أقرت الجمعية التأسيسية الجديدة الاقتراح بتكوين لجنة للدستور من أربعين عضوا من أعضاء الجمعية، يترك لها تحديد اختصاصاتها على أن تكون مسودة الدستور التي تم وضعها سنة 1967 هي الأساس للمناقشة.  وإذا ما نظرنا في مداولات اللجنتين كما أوردهما يوسف محمد علي في كتابه: السودان والوحدة الوطنية الغائبة، نجد أن هناك جهوداً كبيرة بذلت من قبل بعض أعضاء اللجنتين في سبيل أن يكون دستور السودان دستورا إسلامياً على النحو الذي أرادته الأحزاب التقليدية. وقد تصدى فيليب عباس غبوش وأبل ألير وعبد الخالق محجوب وغيرهم، لبنود مشروع الدستور الإسلامي وقدموا اقتراحات بتعديل البنود بما يتسق مع مكونات السودان وتركيبته المتنوعة وينسجم مع أشواق الجماهير التي فجرت ثورة أكتوبر، ولكن اقتراحاتهم سقطت، وكان لابد لها أن تسقط أمام الأغلبية التي كانت تمثل الأحزاب التقليدية. أخيرا تم وضع مشروع الدستور الإسلامي، وتم تقديمه للجمعية التأسيسية التي أقرته في القراءة الأولى والثانية. يقول عبد الماجد أبو حسبو، "عندما وُضع مشروع الدستور الدائم وكنت وزيراً للعدل، كانت وزارة العدل بحكم وظيفتها مسئولة عن الصياغة وعن مشروعات القوانين. وقبل تقديم مشروع الدستور للجمعية التأسيسية رأيت أن نعرض ذلك المشروع على العالم الدستوري الأستاذ العلامة السنهوري في مصر، وكونت وفدًا يمثل مختلف وجهات النظر من الأساتذة المختصين، والسياسيين والقضاة، لحمل مشروع الدستور وعرضه على العلامة الأستاذ السنهوري الذي درس المشروع وأبدى عليه ملاحظات قيِّمة. عرض الدستور على الجمعية التأسيسية لدراسته ومناقشته وإقراره وتمت بالفعل القراءة الأولى والثانية وأُجيزتا، وقبل القراءة الثالثة والأخيرة وقع انقلاب 25 مايو سنة 1969".

الشاهد أنه ليس هناك فرصة في مجتمعات التنوع الثقافي كحال السودان سوى اعتماد مبدأ المواطنة، حيث يتساوي جميع المواطنين من حيث هم مواطنون والأخذ في الدستور بالأصول الإنسانية التي يلتقى فيها الناس.


الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنية


وضعت ثورة أكتوبر الأحزاب التقليدية أمام تحد أخلاقي. فالمطلوب حسن التصرف في الحرية في اتجاه مبادئ الثورة حيث حقن الدماء في الجنوب، وتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، حفاظا على وحدة السودان. فخروج الجماهير في ثورتهم بسبب قضية الجنوب، التي وفرت شرارة الانفجار للغضب الشعبي، كان تعبيرا عن الورع الأخلاقي عبر رفض الحسم العسكري للقضية، وبحثا عن سبل تحقيق التسوية الوطنية الشاملة وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة للجنوب، والذي عقد في مناخ ثورة أكتوبر وكان من ثمارها، وهو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، فرصة عظيمة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة. إلا أن فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنى عشر التي خرجت منه، كان تعبيرا قويا عن عجز الأحزاب السودانية في تحقيق التسوية الوطنية، ومن ثم المفارقة لأشواق الجماهير و"تجميد الأوضاع". ففي الحفل الذي أقامته لجنة الاثني عشر في مساء يوم 26 سبتمبر 1966 لتقديم تقريرها رسميا إلى الحكومة، جاء في خطاب التقديم: "لقد أجمعت الأحزاب السودانية في مؤتمر المائدة المستديرة على أن الوضع الحالي للحكم- الحكومة الموحدة الممركزة- لم يعد يخدم المصلحة القومية، إذ ثبت عجزه عن مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الناشئة كبلادنا، التي يسبق فيها الاستقلال السياسي بناء القومية، وحيث تتعدد عناصر الأمة، وتنشأ بالضرورة نوازع الفرقة بينها، نسبة للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية. وعلي جيلنا هذا، إما أن يقابل هذا التحدي، أو أن يخلد إلى اليأس، وتبديد الطاقة في تجميد الأوضاع".  غاب الورع الأخلاقي في التعاطي مع القضايا وحيكت المؤامرات، ففشل قادة الأحزاب التقليدية في تحقيق التسوية الوطنية، وجمدوا الأوضاع وبددوا الطاقات. ويضيف يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: "ولم يقدر لتلك التجربة أن تؤتي ثمارها للأسف. فقد نكست رايات أكتوبر بعد حين، وعادت النظم الاستبدادية –برلمانية وعسكرية- تتناوب على التسلط والقهر".  ما من ثورة جماهيرية غاب عنها مبدأ الأخلاق لدى قادة الجماهير، كما كان حال ثورة أكتوبر، إلا ونكست راياتها. فغياب مبدأ الأخلاق عند خدمة الجماعة يعني بالضرورة غياب القانون وهو قاعدة الأخلاق، ويعني بالضرورة أيضا، خيانة الجماعة وخيانة مبادئ الثورة. فالأخلاق تعطي الناس الفرصة ليكونوا أحرارا وشجعانا في سعيهم لخدمة الجماعة والفكر والثقافة وأنسنة الحياة، فغياب الأخلاق يعني موت المعاني الإنسانية.

تبع فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وهو بمثابة الإعلان عن عجز الساسة في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، أن اتبعت الدولة السودانية، بمختلف أنظمتها السياسية المتعاقبة، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات في أقاليم أخرى، منهج الترقيع والترميم عبر الاتفاقيات الثنائية والجزئية والمؤقتة، في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار والوحدة. فمنذ ثورة أكتوبر، وحتى تاريخ اليوم، لم تتوفر فرصة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، مثل تلك التي توفرت مع مؤتمر المائدة المستديرة. وأصبحت المعالجات جزئية وثنائية ومؤقتة وفوقية. فمنذ توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، تفشت في السودان ثقافة عقد الاتفاقيات، فقد تم توقيع عشرات الاتفاقيات، ولا يزال توقيع الاتفاقيات مستمرا وبكثافة حتى تاريخ اليوم. وبرغم التوقيع المستمر للاتفاقيات ظلت الصراعات تتجدد وتتوسع والانقسامات تتالى وتتمدد. فالاتفاقيات – برغم حقنها المؤقت للدماء وهو أمر مطلوب وواجب وطني وإنساني- لا تمثل سوى حلا جزئيا ومرحليا للصراع مهما قيل عنها وطال سريانها، في حين أن المطلوب هو الحل الكلي والشامل والدائم. كما أن الاتفاقيات الثنائية والحلول الجزئية والمؤقتة، في بلدان التعدد الثقافي، كحال السودان، ما هي إلا ترميم لبناء متهالك، وتعبير فصيح عن العجز والفشل في تحقيق التسوية الوطنية، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال.

إن تفشي ثقافة الاتفاقيات الثنائية والجزئية، هو نتيجة طبيعية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة، وعجز الأحزاب التقليدية عن تحقيق التسوية الوطنية الشاملة. والمفارقة العجيبة أن نفس تلك الأحزاب عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969، عادت إلى مربع النضال من أجل استعادة الديمقراطية، وظلت تناضل حتى عادت بالمصالحة الوطنية عام 1977. وما لبثت أن غطت سماء الخرطوم مرة ثانية بالدعوات للدستور الإسلامي، الأمر الذي تحقق لها في عام 1983. فدخلت البلاد في الحرب الأهلية مرة ثانية، وتحكم مناخ الانفصال والتشظي حتى تاريخ اليوم. ولا مخرج إلا بالثورة الكبرى، ثورة العقول.


خاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول


على الرغم أن ثورة أكتوبر الشعبية السلمية العزلاء، إلا من قوة إجماع الجماهير على إرادة التغيير، استطاعت أن تغير الحكم العسكري، بيد أنها لم تحقق المكاسب المرجوة حيث التغيير الجذري والشامل في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة البلاد، والمنطلق من مكونات السودان وتكويناته المتنوعة وانتمائه الأفريقي، والمتصل بالمشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي. لقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضي الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضي إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي.

وعلى الرغم الخسائر الضخمة الناتجة من اختطاف ثورة أكتوبر، وعدم تحقيقها للمكاسب المرجوة، إلا أن ثورة أكتوبر، لم تكتمل مراحلها بعد. فقد تركت إرثاً ثورياً ضخماً وعميقاً، سيعين في اكتمالها يوم اشتعال الثورة الكبرى من جديد، ثورة في عقول الجماهير، بقيادة المثقفين الأحرار. وعندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية من ثورة أكتوبر.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى، وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة عبر تنوير الجماهير وتحريرهم من التبعية والطائفية والقوى التقليدية والدينية ورجال الدين والأوصياء على العقول.

إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة.


(بالطبع تتضمن الورقة قائمة بالمصادر والمراجع، وهي منشورة ضمن: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014).


عبد الله الفكي البشير

abdallaelbashir@gmail.com

 

آراء