رحلةُ زهْـرِ اللّـوْتَس مَـعَ الدِّبلوْمَاسـيّة الجمَـاعـية: عن كتاب “رحلتي” للدّبلوماسية النابهة نوال مختار

 


 

 

(1)
العلوم السياسية كما هو معلوم، تخصصٌ أكاديميٌّ يتلقّاه الطلاب والدارسون ويتناول جوانب نظرية وفكرية في مجال العلاقات الدولية ، ويكتمل ذلك التدارس النظريّ بالنواحي التطبيقية في معالجة قضايا التعاون الثنائي في مختلف مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة والثقاقة التي تجمع بين دولة وأخرى . ذلك هو مجال الد بلوماسية الثنائية بين البلدان. إلا أن! الحقبة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهدت توافق العالم على ضرورة تنسيق علاقات تعاون جماعي، يتجاوز المعالجات الثنائية بين البلدان، ويرتفع إلى آفاق أرحب لمعالجات جماعية، أكثر فعالية في التشاور، وأصدق جدية في التفاوض، لمعالجة تلك القضايا التي طرأتْ وبرزت أهميتها، واتصال تداعياتها بالسّلم والأمن الدوليين . تلك المعالجات تأطرت في فرعٍ جديد في الدبلوماسية، صار معروفاً بالدبلوماسية الجماعية، متعددة الأطراف. .

(2)
تلك تحدّيات استوجبتْ نظراً جديداً لتعاون بين أطراف المجتمع الدولي ، يجنب العالم ويلات الحرب، ويعزّز مقوّمات الاستقرار في العالم. وهكذا برزتْ قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية ، مثل قضايا التنمية المتوازنة والمستدامة ومخاطر الانفجار السكاني وتناقص الموارد وضرورة احتواء سباق التسلح والالتفات الجاد لتحوّلات البيئة والمناخ، وغيرها من القضايا العالمية ، وقد صارت جميعها من صميم الاهتمام المشترك بين جميع الدول .
كان لزاماً على الدبلوماسية التقليدية التي رسَختْ عبر عقود طويلة، أن تلاحق ذلك الجديد الذي طرأ في مجال العلاقات الدولية، وأن تعمل على تطويع أساليب معالجاتها، وتجديد قدراتها لمقابلة تحدّيات، لا تقف آثارها على حدودٍ في المكان ولا حدودٍ في الزمان. تلك مستجدات إستوجبت ً نظراً مبتكراً لتشابكاتها، وقراءة مُعـمّقـة لواقعٍ عالميّ متغيّر، واستقراءاً موضوعياً ثاقباُ، يُفضي إلى مُخرجاتِ ورؤى تستشرف المتوقع في المستقبل القريب والأبعـد. هي تطورات أفضتْ إلى خروج الدبلوماسية من أثوابها التقليدية، والتوجه لرفع قدراتها وامكانياتها لتشاور دولي في إطار دبلوماسية أوسع حراكاً وأكثر فعالية، وإدارة مداولات جادّة في المحافل الجماعية، الرّسمية منها والشعبية ، إذ التحديات التي عدّدنا بعضها أعلاه، آخذة برقاب الجميع بلا استثناء.

(3)
تلك خلفية لازمة وقفتُ عليها ، وأنا أطالع كتاباً صغير الحجم ، عميق الدلالات، عنوانه : "رحلتي مع الدبلوماسية الجماعية : خواطر من وحي زهر اللوتس"، حدّثت فيه الدبلوماسية السودانية النابهة د. نوال أحمد مختار، أطرافاً من تجربة عملها ضمن الطاقم الدبلوماسيّ لمندوبية السودان الدائمة في الأمم المتحدة، في الفترة من 2017 إلى 2020 . صدر الكتاب عن دار عزّة للنشر والتوزيع بتاريخ 2021 ورقم قيد هو 0889 ، كما مبيّن في الصفحة الأولى ولكن لا يبين رقم التسجيل الدولي (ردمك) واضحاً.
أمّا زهرة اللوتس في العنوان وصورتها على غلاف الكتاب فلها دلالات أشارت إليها المؤلفة لرمزيتها التاريخية المتصلة بحضارة "كوش" أمّ حضارات وادي النيل. هي الزهرة المائية البيضاء التي توحي في دورة انغلاقها ثمّ تفـتح بتلاتها، إلى انبثاق الحياة والنضارة من مياهٍ ميـتة ومستنقع ضحل . زهور اللوتس في رمزية دورة غفوتها وصحوتها ، هي بلدان العالم النامي في تطلّعها المشروع للصحو بعـد غفوات تاريخية، يُحاسَب عليها "الكولونياليون". هيَ ذلك النهوض المُرتجى لمن فاتهم قطار التقدم الصناعي والتنمية والازدهار، من البلدان التي عانت من غدر الظالمين وقسوة المظلوميات الاستعمارية. جاءتْ منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها وصناديقها ووكالاتها ولجانها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، لتفسح مساحات للحوار والتصدّي لتحدياتٍ فرضتْ نفسها على الجميع بلا استثناء. لتفضي معالجاتها لاجتراح عالمٍ ينعم بالسلم والأمن والاستقرار. ذلك هو جوهر الدبلوماسية الجماعية مُتعددة الأطراف ، وتلك زُبدة بذل من عملوا على انجاحها، بتفاعل قدراتهم وتلاقح أفكارهم ، في إطار دبلوماسية متعدّدة الأطراف، تنشط في محافل المجتمع الدولي لتحقيق عيشٍ كريم وحياةٍ آمنة وتنميةٍ مستدامة ، تتقاسم ثمراتها البشرية في شراكة حقيقية عادلة وصادقة. .

(4)
يأخذنا كتاب "رحـلـتي" للدبلوماسية النابهة نوال أحمد مختار، بيسر سلس وتدرّجٍ ذكيّ، للتعرّف على مسيرة تجربتها التي وصفتها بالرحلة ، والرحلة بمدلولها اللغوي تعني الانتقال من مكانٍ لآخر، كما تعني التغـيّر من حالٍ إلى حال. في هذين البعدين : المكاني والزماني، تتناول الكاتبة محطات رحلتها فتحدّث عن رهق الإلمام بتفاصيل مهام الدبلوماسي النشط في ردهات المنظمة الأممية، يتنقل بين أمكنتها ومكاتبها وقاعاتها وزياراتها القريبة والبعيدة . ذلك بعد مكاني لازم لضبط فعالية الحراك الدبلوماسي النشط في ساحات التفاوض وجلسات االتداول حول مختلف القضايا والملفات التي تعالجها المنظمة الأممية، عبر لجانها وبعثاتها وتكليفاتها .
لكن لمثل تلك الجولات المكانية بعدها الزّماني. إذ من ضرورات المتابعة أن يلمّ الدبلوماسي بخلفية ما يحمل من ملفات، وما يعالج من قضايا ، لا تبدأ لحظة مشاركته في اجتماع لإحدى لجان المنظمة، بل يتطلّب التداول فيها عودة لزيارة تاريخ تلك الملفات، وزيارة مراجعها السّابقات. للملفات تلك حلقاتٌ ودوائر، تمسك ببعضها البعض ، تبدأ في العقود الزمانبة التي تلتْ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، ثمّ توالتْ في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين الميلادي. تلك سنواتٌ شهدتْ رسوخ مقوّمات التعاون الدولي ، وما تفرّع في ساحاته من منظمات واتحادات، وروابط وأحلاف شتّى . .

(5)
تظلّ ملفات الدبلوماسية الجماعية، وفي أطرافها المتعدّدة، متداخلة تداخلاً يعكس تشابك السياسي مع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. تتشابك تلك الملفات وتراوح في معالجاتها بين الأفقي والرأسي. لعلك ترى على المستوى الأفقي ما تراكم عبر سنين طوال، من حقائق ووقائع تاريخية خافبة في الأضابير، أو موغلة في قصص التاريخ . غير أن هنالك حقائق ووقائع في الحاضر الماثل، تتطلب نظراً رأسياً، ليرتفع مستشرفاً حُجُب المستقبل وما بعده، فتقف مرئياته على أرضٍ ثايتة.
تلك تحدّيات تبرز أهمية أنْ يمتلك دبلوماسيّو العالم الثالث فنيّات التفاوض وإجادة المُحاججة والإبانة والإقناع في محافل التحاور والنقاش الدولي . يكتسب الدبلوماسيّ خبرات واسعة في التجريب العملي والميداني، والاحتكاك المباشر مع رصفائه من دبلوماسيي الدول الأخرى الموفدين من بلدانهم للعمل في المنظمة الأممية. لذا قد لا تكفي ساعات اليوم ولا أيام الأسبوع، لينجز الدبلوماسيّ في معمعة الحراك المتعدّد الأطراف، جلّ ما يكلف به من مهام لا يعرف الكثيرون أيّ رهق وأيّ عناءٍ يكابده الدبلوماسي العامل في ممثلية بلاده في مبنى الأمم المتحدة الفخيم ، وهو يراوح- بل أحياناً يهرول- بين المكاتب والقاعات والرّدهات ومقاهي ومطاعم جلسات العمل من جهة، فيما المطلوب منه من جهة أخرى ، مطالعة الأضابير ومراجعة الوثائق الكثيفة التعقيد والمقيّدة بزمانٍ ومكانٍ محدّدين . .

(6)
نشطتْ الدبلوماسية نوال أحمد مختار في مداولات اللجنة الثالثة للأمم المتحدة، وهي تجاهد لعبور مطبّات اللجنة، وقـد جلست في عام 2019 لترأس اجتماعات اللجنة التنفيذية لليونيسيف، بعد أن تم انتخاب السودان لرئاستها ذلك العام، فكانت تكليفاً أنجزته برضا، وتجربة زادت قدراتها ثراءاً وحنكة . ثمّة مهامٌ مُعقدة تتصل بجوانب في ملفات حقوق الإنسان، ونعالج عادة في مالمقر الأوروبي للأمم المتحدة، لكن يجري التداول حولها بغرض إجازة تقاريرها في اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك. من الملفات المزعجة ما يتصل بالعنف الجنسي في مناطق النزاعات ، وما يتطلبه ذلك من جرأة وثبات في المناقشات. ونعلم معاناة الدبلوماسي الممسك بملف بالغ الحساسية مثل ذلك الملف وبلاده خارجة لتوّها بعد ثورة ديسمبر عام 2018 لتستعيد فعالية في منظومات المجتمع الدولي ، بعد سنوات استطالت على أيام النظام البائد ، ظلّ السودان مغيّباً خلالها في زرائب الغنم القاصية.
كتبت الدبلوماسية نوال احمد مختار : ( وفي خضم متابعاتي لهذا الموضوع، هالني حجم الأذى العميق الذي بصيب ضحايا العنف الجنسي المتصل بالنزاعات، والذين ظلّ مجلس الأمن يستضيفهم في الفترة التي توقفت فيها الاتصالات قبيل سقوط النظام البائد، لتقديم إحاطات، ولسرد قصصهم وما تعرضوا له من أذى جسيم، ضمن الجلسات المفتوحة للمجلس (...) فكان ذلك بمثابة دافعٍ قويٍّ لي لمواصلة السّعي في هذا الملف مع مكتب الممثلة حيث كانت القصص التي رواها الضحايا مروّعة للغاية. .). ثلك أسطر تعكس عمق المعاناة النفسية التي يحسّها الدبلوماسيّ – إنْ كان رجلاً- في التصدّي لمواجهة اتهامات تمسّ ممارسات سالبة، تتعرّض لها نساء بلاده في مناطق النزاعات، أما لو كانت من تمثل بلادها امرأة، فلك أن تتصور حجم تلك المعاناة . أما دبلوماسيتنا نوال، فقد أبلتْ البلاء المحمود في الإمساك بملفاتها إمساكا محكما ، وأثبتت بحضور فاعل، حسن أدائها وقد تزامن مع نجاحات ثورة ديسمبر 2018 ، خاصّة وقد شهد العالم ممثلا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة عام 2019 ، كيف احتفى ذلك المحفل بسودانٍ معافى عاد إلى أحضان المجتمع الدولي بعزّةٍ واعتداد.

(7)
ثمّة إشارات بالغة الأهمية عرضتها الدبلوماسية النابهة نوال أحمد مختار في كتابها، منها ذلك التنازع الذي يستشعره الدبلوماسيّ، وهو في أتون مداولات الدبلوماسية الجماعية في الأمم المتحدة ، ويمارس واجباته الدبلوماسية بمهنية عالية، فيزايله الحرجُ الناجم عن بعض ممارسات تسـبّبها سياسات حكومة بلاده . في حالات نادرة تزداد فيها حدّة التناقض ، يعجز الدبلوماسي عن "امتهان الكذب لصالح حكومته"، وفق ذلك التعريف الساخر لمهنة الدبلوماسي، فيضطر ذلك الدبلوماسي صاغراً إلى مغادرة مهنته، حفاظاً على قناعاته المهنية والأخلاقية. لك أن تنظر في حالات بعض سفراء السودان حين وقع انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، وما حاقت بالبلاد من تعقيدات أربكتْ أداء دواليب الدولة . ذلك ما انعكس على الأداء الدبلوماسي الرّسمي، فما عرف الدبلوماسي الجالس في سفارة بلاده في الخارج، أهو مُمثل بحكم انتمائه لوطنه بالمعنى الأوسع، أم هو مُمثل لحكومة بلاده بالمعنى المهنيّ الأضيق . .ألا يقترب ذلك من السؤال الشيكسبيري : يكون أولا يكون . . ؟

(8)
أودّ في خواتيم مقالي، والذي قصدت أن أعرض فيه بعض ما جاء في كتاب الدبلوماسية النابهة نوال أحمد مختار، بملاحظة عنّتْ لي عن السودان والمنظمة الأممية - وأنا من المهتمين بتاريخ الدبلوماسية السودانية. الذي لاحظته أن دبلوماسية السودان في بداياتها ، حقـّقـتْ للسودان صدارة في مجال الدبلوماسية الجماعية ، وتحديدا في المنظمة الأممية. لقد لفتَ نظري دور السفير الرّاحل والمندوب الدائم عمر عبدالحميد عديل، والذي كان رئيساً للمجموعة الأفريقية في الأمم المتحدة، إذ لعب دوراً رئيساً في أزمة الكونغو عام 1961، والتي استفحلت بتداعيات اغتيال رئيس وزراء تلك البلاد، باتريس لوممبا . لمتابعة تلك الأزمة فكّر الأمين العام آنذاك السويدي داج همرشولد في تعيين عديل ممثلاً له في الكونغو.
بعد زيارة مانديلا للخرطوم وعودته إلى بريتوريا ، تمّ اعتقاله على الفور ليقضي سنوات طويلة في سـجون النظام العنصري البغيض. مندوب السودان الدائم السـفير عمرعبدالحميد عديل، كان أوّل من خاطب الأمم المتحدة بمذكرة ضافية ، مطالباً وبإسم المجموعة الأفريقية، أن تعمل المنظمة الأممية غلى إطلاق سراح نيلسون مانديلا. .

(9)
كانت للسودان إذن إشراقاته في مجال الدبلوماسية الجماعية ، ولكن جرى التفريط فيها على نحوٍ مؤسف إبان سنوات العهد الإسلاموي البائد . ثمّة كتابات بأقلام بعض سفراء ودبلوماسيين ، وثقت لجوانب من تجاربهم في مجال الدبلوماسية الجماعية فخيرا فعلوا . كتاب الدكتورة نوال، يمثل أنموذجا مميزاً لتوثيق تجربة لها الفائدة القصوى لناشئة الدبلوماسيين، كما أن كتابها "رحلتي مع الدبلوماسية الجماعية" يعتبر هدية ذات قيمة عالية في تطبيع القاريء السوداني لعلاقته الملتبسة مع الدبلوماسية السودانية والدبلوماسيين السودانيين. كتاب زهر اللوتس بين غفوة بتلاته وصحوها، يقود القاريء السوداني بيسر للتعرّف على جوانب خافية لا يعرفها الكثيرون عن الدبلوماسية والدبلوماسيين السودانيين . يظلم كثيرون من عامة الناس ، العاملين على تلك الدبلوماسية، إن حسبوهم ينعمون بنعم الحياة وراة البال في الخارج، وتغيب عن أبصار أولئك الناس جوانب معاناة الدبلوماسيّ أثناء تأدية واجباته المهنية، وما فيها من تضحيات جسام ، تتصل بالأسر وتعليم الأبناء، وضرورات التكيّف في مجتمعات غريبة وثقافات مختلفة . ثمّة خسارات أخرى إجتماعية وثقافية لا يستعاض عنها بمال غربة في بلاد أجنبية .

(10)
قدّمتْ الدبلوماسية النابهة الدكتورة نوال أحمد مختار، كتاباً حدّث بلغة رفيعة وبقلم رصين ، عن خروج اللوتس من غفوته، واستشرافه أفقاً مشرقاً، وصحوة دبلوماسية مستدامة. ذلك كتاب في أدب الرّحلات الدبلوماسـية إن شئت دقيق الوصف، ولكنّي وجدت فيه متعة تضاهي مطالعتي للرّوايات والقصص . لم نكسب دبلوماسية كاتبة، بل مشروع روائية حكّاية بارعة في السّـرد المشوّق السّلـس.
لها التهنئة المستحقة وللدّبلوماسيين في وزارة الدبلوماسية، أن يهنأوا بالذي كتبته نوال ويفيدوا منه، ولعامّة القراء أن يجدوا فيه ما قـد يغـيـّر من نظرتهم لدبلوماسيي بلادهم الحاملين همومها في الخارج. .

الخرطوم في 21/4/2022


jamalim@yahoo.com
///////////////////////////

 

آراء