“روز فضـلي” و”غاشـتي إرشــاد”: في الغـتـاتـة الدّبلوماسـيّة

 


 

 

أقرب إلى القلب :
(1)

جاء في لسان العرب : غتّ الضحكة يعني إخفاءها بالكف أو الثوب. ذلك يعني إفسادها ، فيكون الإسم من ذاك الفعل هو الغَتيْتُ، وتحوّر في لهجتنا السودانية إلى "الغـتاتة"، وتعني اختصاراً : إفسـاد الشيء خفـية ، وإسم الفعل الأفصح هو"الغتيْتُ" ، ولكنّا بسودانيتنا جعلناه إسما لفاعل . . فما أصل حكاية الغتاتة الدبلوماسية ، موضوع حديثي هنا؟

(2)
كنّا في أوائل سنوات التسعينات في تهران. .
لرئيس البعثة السودانية في تهران، سكرتيرة إيرانية حسناء جميلة ، تدير مكتبه وتقوم بتنظيم برامج لقاءاته ودعواته الدبلوماسية ، والتنسيق مع وزارة الخارجية الإيرانية. تقوم الآنسة "روز"- وذلك هو إسمها- بمهام مكتبها بهمّة عالية ، خاصّة وأنها تجيد اللغتين، الإنجليزية ولسان أمّها الفارسي. مع وزارة الخارجية في تهران، هي لسـاننا الذي يترجم عـنهم وعـنّا ، كلّ المراسلات الخطية وكلّ المخاطبات الشفاهية. لا تصنّف سـفارة السودان في تهران من بين سفارات السودان الكبيرة، بل هي من ضمن البعثات متوسطة الوزن والتي لا يزيد عدد الدبلوماسيين فيها عن خمسة أو ستة أفراد، بما فيهم السّـفير رئيس البعثة .
في أوائل التسعينات كسبتْ السفارة في تهران، أهمية سياسية مضاعفة ، بسبب التوجّهات الإسلاموية للنظام القائم في الخرطوم ، ممّا تحمّسـت معه الجمهورية الإسلامية في إيران لتوثيق علاقاتها مع الخرطوم. في تلكم السنوات زار الرئيس رفسنجاني ، بقُصّة شعره الشهيرة عاصمتنا الخرطوم، ولتلك "القُصّة" صلة بمقالنا هنا. بسبب في تلك الحماس الزائد العلاقة، كان أصدقاؤنا في السفارات العربية والأفريقية، يظنون أنّ سـفارة السودان من سـفارات الحظوة المقرّبة للقيادة الإيرانية، وفي الظنون مبالغات لو تعلمون.

(3)
في بحر عام 1992م، غادر السّـفير رئيس البعثة إلى الخرطوم في مهمة شبه رسمية ، فتوليتُ رئاسة السفارة بالنيابة، خلال غياب رئيسها. لم يمضِ سوى يومٍ أو يومين ، حتى عرضتْ لي مشكلة تتصل بالآنسـة "روز" السكرتيرة بالسـفارة ، إذ نقل إليّ الموظف المحلي الذي يشرف على حراسـةِ السّـفارة ، أن الآنسـة "روز فضلي"، وبعد أن أوقفـتْ سيارتها الصغيرة المخصصة لها أمام السّـفارة ، اقتادها رجل شرطة آداب إيراني في لباس رسمي، ولم يتسنَ لأحـد أن يعرف لسـبب. . استدعيتُ على الفور ذلك الموظف وأدريت تحقيقاً سريعاً ، أسرّ لي فيه أنه رصد رجلا من شرطة الآداب المعروفة بإسم "غاشتي إرشـاد"، كلف فيما يبدو بالمراقبة في الحي الذي تقع فيه سـفارة السودان، ظلّ يراقب الآنسة "روز" منذ مدّة ، وأنه لاحظ مضايقته لها مرارا ، ولكنه لا يعرف سبباً وراء ذلك، ولا هي أفصحتْ. .

(4)
كنـتُ أعرف أن لشرطة الآداب تلك، وبالفارسية إسمها "غاشتي إرشـاد"، تحتلّ مكتباً في شارع "الإسـلامبولي"، ليسَ بعيداً عن مبنى السفارة. بعثتُ برسولٍ من السّـفارة لذلك المكتب، ليخطر المسئول الأول فيه أنّ القائم بالأعمال بصدد زيارته لأمرٍ بسيط لكنّـهُ هام وعاجل للغاية ، وقد لا يتطلب الرجوع لاستئذان إدارة المراسم بوزارة الخارجية الإيرانية.
وصلتُ إلى ذلك المكتب لأجد أعداداً من الفتيات ونساء في متوسط العمر محتشدات في عدد من المكاتب المتلاصقة التي تعجّ بأصوات متقاطعة وضجيج عال. لكن عند وصولي ، رافقني شرطي مُهذّب عند مدخل إدارتهم وقادني إلى مكتب مدير القسم . هبّ الرّجل من مكتبه مرحّباً بي بلغةٍ انجليزية ضعيفة. أجلسني على الأريكة وطلب لي قهوة ، فاعتذرتُ بلباقة ، ملمّحاً أنني على عجل وأتوقع ضيوفاً على مكتبي خلال الساعة القادمة. وقبل أن أفاتحه بالموضوع ، قال لي :
- نأسف لازعاجك وتكبدك بالخضور إلى مكتبنا . لقد وصلني تقرير عن موظفة تعمل معكم، لاحظ مناديبنا أنها خالفت اللباس المحتشم وتغطية الشعر. .
قاطعته بهدوءٍ ودون انفعال :
- كلا يا عزيزي ، تلك ليست موظفة عادية ، بل هي مديرة مكتب السـفير رئيس البعثة، وهي تدير وترتب كلّ اتصالاتنا مع الوزارات والمؤسسات الإيرانية، أي هي المترجم الرسمي تقريبا وليس من موظفينا سواها من يترجم.
- نحترم السفارة والعاملين فيها، ولكن بعض بناتنا لا يلتزمن كثيراً باللباس المحتشم ، خاصّة تغطية الشعر بالكامل. .

(5)
لمستُ في لهجته تراجعاً اعتذارياً عن احتجاز سكرتيرة السفارة، التي ربّما رصد ذلك المراقب أنها تركت خصلة، خارج الوشاح الذي يفترض أن يغطّي كامل شعرها. لقد ظللت منذ قدومي إلى تهران أبدي ملاحظة طريفة ، إذ رأيت الكثير من الملالي يتركون خصلة من شعرهم تتدلى خارج العمامة على جبهاتهم، كما هو ملاحظ عند الرئيس الايراني السابق حجة الإسلام رفسنجاني. كان لافتاً أن ترى شرطة الآداب تلاحق البنات حين يتركن شعرات تتدلى على جبهاتهن فيحتجزن من قبل شرطة الـ"غاشتي إرشـاد" ، فيما لا يلاحق الملالي.. ! طبعاً لم أتبرّع بتعليقي الساخر لمدير ذلك المكتب.
نظر إليّ الرّجل باحترام ، وقال :
- نقدّر زيارتك لنا، وإنْ كنّا لا نرغب في ازعاجكم في السفارة . هو إجراء تنبيهي لتلك الفتاة..
ثم نادى على أحد مساعديه، وهمسَ إليه أن يستدعي سكرتيرة سـفارة السودان . غاب الرّجل لدقائق ، ثم عاد وبصحبته السكرتيرة "روز". جاءت بوجهٍ مُحمرٍّ وعيون دامعة ، وبالكاد تمكنتْ من مخاطبتي. ســألتها:
- هل أنتِ بخير . . ؟
ردتْ بصوتٍ متحشرج وأنفاس مُضطربة :
- نعـم . .
قال مدير مكتب الآداب، مخاطباً السكرتيرة "روز" :
- نرجو أن نذكرك بضرورة الالتزام بتغطية الرأس كاملا والاحتشام في اللبس. ولأن هذه هي المرّة الأولى، فلن نستبقـيـك حبيسة عندنا ، إكراما للسّـفير . .
قلتُ له بلطفٍ:
- نحن في السفارة نلزم موظفاتنا بارتداء زيٍّ محتشـم ، وبارتداء وشـاحٍ يغطّي الشّعر . لعلك تعرف أنّ في السودان نظـام إسـلامي يهتم بالاحتشام في اللبـس. .!

(6)
بعد لحيظات ، أحضر مساعد مدير مكتب شرطة الآداب الـ"غاشتي إرشـاد"، دفتراً ضخماً، وضعه أمام المدير ، وجيء بمحبرة لأخذ بصمة السكرتيرة "روز" وتوقيعها. المسكينة ذلك أمامنا، فيما أصابعها ترتجف وخـدّاها قد احمرّا بالفعل.
بعد العودة إلى مكاتب السفارة، سألتها على انفراد، إنْ كانت قد تعرّضت لأيّ إســاءة في المعاملة. قالت لي بصوت مضطرب:
- أنا ممتنة يا سيدي لإنقاذي وإخراجي من ذلك المحبس المخيـف. لقـد أسمعونا ، ونحن عدد من الفتيات، إسـاءاتٍ وعـنفـاً لفظيّـاً مريراً. ولكن أقول لك يا سيدي أن شرطى الآداب الذي احتجزني كرّر محاولاته ايقافي عدّة مرات من قبل. أنا أعرفه وهو يعرفني أعمل في السفارة فترصّدني ، وقد كاد أن يتحرّش بي ، وأنا أوقـفـته في حدوده. السّلطة معه وأنا بنت مغلوبة على أمرها. .!ّ

(7)
لم تنته القصّة عند "روز" ، بل اكتشفتُ لاحقاً وبوسائلي الخاصّة، أنّ مدير الدائرة التي يعالج ضمنها ملف العلاقات السودانية الايرانية ، هو شيعي مُعمّم ويحمل درجة حجة إسلام، التي تعادل درجة الماجستير في علوم الدّيـن . لا يحمل ذلك الرّجل تقديراً يذكر لشخص السفير السوداني، والمعتمد في تهران، وهو أكاديمي وناشط إسلامي سُـنّي، وأنا نائبه. بان لي أنّ الخارجية الايرانية لا تستسيغ التعامل مع ذلك السّـفير وتصنّفه حسب تقديرهم مسلماً وهّـابيـاً" .
ليس عسيراً أن ندرك من الذي حرّض مسئولي "غاشتي إرشـاد" لمضايقة سـفارة السودان في تهران ذلك الزمان، عبر سكرتيرة السفارة غير المتعاونة. .!
رحم الله الفتاة الشهيدة "أميني"، التي ألهبت غضبة الشارع الإيراني هذه الأيام، ليس على "غاشتي إرشـاد" فحسب، بل على نظام الملالي بكامله. . !

الخرطوم – 9/10/2022

jamalim@yahoo.com

 

آراء