سلام سيء أفضل من حرب

 


 

عمر العمر
2 July, 2023

 

أسوأ اتفاق لإطفاء نار هذه الحرب المقيتة أفضل كثيرا من التوغل فيها. لينين قبل كل شروط ألمانيا المذلة قبيل نهاية العام ١٩١٧من أجل ترسيخ سلطة البلاشفة بعيدا عن لهب الحرب. هو فعل ذلك رغم اعترافه بأن اتفاقية برست لتوفسك(كرّست الذل و العار والمهانة في وقت واحد) لكن هذا الاتفاق أمسى أحد أبرز الاتفاقيات الاستراتيجية عبر التاريخ. في العام ١٩١٩ وقع الموفدون الألمان وقوفًا داخل قاعة المرايا في قصر فرساي اتفاقا أكثر إذلالاً و أشد قسوة ً مما فرضته برلين على موسكو. غالبية الألمان رأوا في الاتفاق انتزاعاً للكرامة الوطنية لكن البرلمان أقر الاتفاق متبنياً تقرير رئيس الأركان بألا حول لالمانيا على مواجهة جيوش الحلفاء.
*****
في العام ١٩٨٨ سلّم الزعيم الإيراني بقبول اتفاق إنهاء الحرب مع العراق وهو يقول(ويْل لي لأني مازلت على قيد المياة لأتجرع كأس السم ) ذلك قول يفصح عن مدى مرارة الشعور من قبل رجل ممتلىء بغرور خلع واحدًا من أكثر الأنظمة استبداداً في زمانه. لكن خسائر الإيرانيين في الأرواح والممتلكات كانت فادحة بحيث لم يعد في وسع زعيم الثورة التمادي في تطويل أمد حرب السنوات الثماني إذ كلّفت طرفي الاقتتال مليونًا من القتلى. رغم ذلك أنهت تلك الجرعة المسمومة أطول نزاع مسلح في القرن العشرين بلا منتصر! ذلك ماحمل الخميني على القول. (كم اشعر بالخجل).لكن أوجاع الشعب الإيراني ومعاناته كانت أقسى من خجل الامام.
*****
صحيح تلك الحروب بين دول لكن تباين المقابلة مع حربنا البغيضة بين (فريقين) لا يمنع المقاربة. بل على النقيض ففي الكساء الوطني حال الاقتتال بين دول ما يغطي الأخطاء أو يستر العورات. لعل ذلك ما حمل الرئيس الاميركي توماس ولسون على وصف اتفاق إطفاء الحرب العالمية الاولى بأنه (سلام بلا نصر ) هو قول يطابق الاتفاق العراقي الإيراني كذلك . لكن جميع الأطراف الموقعة على تلك الاتفاقات انتفعت بها اذ بدا لها جليا ان أسوأ أشكال السلام أفضل من التوغل في الإقتتال. كلها كانت حروب مدمرة كما حربنا البغيضة للبشر ، الشجر والحجر.
*****
حربنا هذه كذلك لا نصر فيها بل خزي وهزا ئم فاضحة .هي حرب لا فا ئز فيها ولا غالب و لا منتصر بل فيها خاسرون مهزومون تطاردهم اللعنات والتاريخ. هي حرب لايهم الشعب فيها من أطلق رصاصتها الأولى ومن هو المتربص .كلهم آثمون متورطون في المؤامرة ، غارقون في استنزاف الشعب و وتدمير الوطن. كلهم ضد صناعة الستقبل وضد التقدم. لهذا فأسوأ أشكال السلام بغية إنهائها أفضل من التوغل في الجريمة. أي اتفاق سيء من شأنه إنقاذ الخرطوم من كتلة الأوباش أهل الردة من الدولة إلى القبيلة المتناحرين في مدينة وادعة كأنها بلا سلف سابق أو خلف لاحق. الخرطوم ظلت عاصمة مفتوحة أمام الهجرة من كل فجاج السودان. لكن المهاجرين إليها أقبلوا عليها سعياً للكسب ،لم يقتحمونها من أجل المغنم. فمن شأن أسوأ اتفاق للسلام إعادة تبيان البون الشاسع بين الهجرة والغزو.
*****
مثل كل مراكز سلطات الدول تعاني الخرطوم اختلالات سسيولوجية في المناصب والإمتيازات . فهي رأس الدولة وجمجمة الشعب .ثمة نضال طويل صبور متعدد المشارب والمسارب من أجل تصحيح تلك المظاهر السلبية .لكن العنف يظل وسيلة مرفوضة لا يزيدها سلبياتها إلا استفحالاً.. حال (المهمَشين) لن ينصلح بطرد (المتنعمين) من مساكنهم إلى فضاء المعاناة. كثير منهم ذوو مثابرات ،كدح وجدٍ عصامي في بلوغ ما يثير أحقاد المتبطلين ! نعم بينهم كذلك من ينطبق عليه قول أبي ذر (معشر الأغنياء و أسوأ الفقراء).حتماً تصبح أسوأ صيغة سلام ممكنة أفضل من تفحش الوسط الاجتماعي مانح الشرعية للنظام البائد و ورثته من(الصحابة والخوارج) ضد مؤسسات المدينة وأهلها أو النفخ في نار الاثنية في جنبات .
*****
من شأ ن ضبط المصطلحات المساهمة في في استيعاب الأحداث ثم حفر المخارج .اغتيال عثمان بن عفان شكّل فاصلا في تاريخ الأمة الإسلامية. ربما كان عملا جماهيريا أكثر من كونه مغامرة فردية. كما ينطوي على صراع بين سلطة الحاكم و سيادة الدولة أكثر مما هو صراع بين الدولة و الدين.هو حدث مأساوي لكن ليس عل نسق اغتيال يوليوس قيصر من حيث التداعيات التاريخية. مع ذلك يؤثر المسلمون على تسميته فقط (فتنة)! بعض منا يحاول جاهداً تلبيس حربنا الوضيعة غلالة من من ثوب عثمان . بغضٌ يتغنى بثورة المهمشين ضد نخب المركز بغية احقاق العدالة!
*****
الحد الأدنى لأسوأ اتفاق سلام لا يعنى بالضرورة بمصير شياطين تراجيديا البرهان وحميدتي أو شكل الدولة الجديدة بل هو يستهدف كبح الفوضى داخل القلب واخماد نار الأطراف ؛ سلام يفتح فرص الرهانات على وقف هدر قيمة المواطن ، استعادة أصحاب البيوت مقار سكناهم، تنقية سماء المدينة من سحب التلوث، سلامٌ ينعش آمال القدرة على رفع الأنقاض تأمين نوم الاطفال ومشاويرهم إلى المدارس ومنها بلا كوابيس. سلام يفتح للجيش استرداد كرامته، يعين الشعب على استعادة الثقة في بناء دولة ذات هيبة. سلام يعيد تصميم منوال يتيح رتق الفتق في النسيج الاجتماعي.
******
لذلك يرجح العقلاء وكل المتأذ ين بالحرب الوضيعة نداء (لا للحرب) دون التركيز على تفاصيل اتفاق وقف النار. .ذلك إجراء لا يتطلب وساطة أو مبادرات إذ يراه كل وطني غيور خيارا حتميا ملحّا. هو نداء الساعة الوطنية. هو نداء من أجل إعادة دولاب الإنتاج المعطّل على صعيد الدولة بأسرها .نداء من أجل أرباب عائلات نضبت مصادر أرزاقهم اليومية وقد جفّت جيوبهم. نداء من أجل اعادة جمع أُسر انفرطت عقودها على عجل و وجل فباتت مبعثرة على مسافات متباعدة اخل الوطن وخارجه.
*****
إعادة بناء الدولة ومحاسبة مجرمي الحرب فضيتان أساسيتان لكنهما لا يتصدران أولويات الساعة .تلكما مسألتان لأيتم إنجازهما في ظل اختلال موازين القوى. بعد إعادة تطبيع الحياة تعرف الجماهير كيفية ترتيب أولوياتها.مالم يسند مقاتل ظهره إلى حائط الجماهير لن يخرج منتصرا ولا غالباً، وقد لن يخرج من بين الأنقاض .لذلك كله فأي سلام سيء أفضل من التوغل في الحرب والرابح من يخرج أولاً.

aloomar@gmail.com

 

آراء