عصف ذهني: تأسيس الشعر الأوربي في بداياته على الشعر العربي بنيةً وأسلوباً(1)   

 


 

 

ظلت حقيقة تأثير الشعر العربي على نشأة الشعر الأوربي الحديث لدى الباحثين الغربيين "قروناً عديدة مسألة لا تقبل الجدل"(1) هكذا يقول المستشرق البريطاني المعروف هميلتون جِبّ Gibb (1895-1971) أستاذ الأدب بجامعة لندن (معهد الدراسات الشرقية).

ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، حدث انقلاب في موقف البحاثة الأوربيين من الاعتراف بحقيقة المؤثرات العربية على الآداب الأوربية وعزا جِبّ هذا الانقلاب بما اسماه "الشعور الوطني الملتهب، الذي كان يسيطر على كل أمة من الأمم الغربية آنذاك"(2).

وهنا نلحظ أن الحمية القومية قد جعلت جِبّ رغم موقفه المنصف، أن ينحو إلى تغليف السبب الحقيقي لهذا الانقلاب بمقولة "الشعور الوطني الملتهب للأمم الغربية".

ونحن نعلم أن الاستعمار الأوربي التوسعي قد بلغ قمته في القرن التاسع عشر وأخضع العالم العربي لسيطرته وكان لا بد أن يتبع التفوق في القوة العسكرية، تفوق في الاحساس بالاستعلاء الثقافي والأدبي، وأن يخضع المغلوب لثقافة الغالب وأن يسعى الغالب للمحافظة على هذه الوضعية بكل ما يملك من قوة وبشتى السبل.

ومن الأمثلة التي يسوقها جِبّ على هذا الانقلاب المضاد في مواقف بعض المستشرقين من حقيقة المؤثرات العربية، موقف المستشرق الهولندي من أصل فرنسي Dozy دوزي (1820-1883) الذي حرّض المستشرقين على التوقف عن الاعتراف بالمؤثرات العريبة على الشعر الأوربي بالقول: "نحن نرى هذه المسألة ضرباً من العبث، ولا نريد منذ الآن أن نراها موضع نقاش، وذلك على رغم أننا مقتنعون أن النقاش في شأنها سوف يدوم أمداً طويلاً، ولكلٍ سيفَه في المناضلة"(3). وظلت كلمة دوزي تفعل فعلها منذ ذلك الوقت "ولم تزل سائدة حتى اليوم" على حد تعبير جِبّ.

ولكن برغم ذلك لم ينقطع حبل الدراسات والبحوث العلمية عن أثر الشعر العربي في نشأة الشعر الأوربي الحديث ومن بينها هذا البحث للمستشرق جِبّ الذي اختار له عنوان (الأدب) وساهم به في تأليف كتاب: The Legacy of Islam (تراث الاسلام) والذي ضم مجموعة أبحاث لكبار المستشرقين من بينهم المستشرق المعروف ألفريد جيوم الذي حرر الكتاب وكتب مقدمته وشارك فيه ببحث عن الفلسفة العربية بعنوان (الفلسفة والإلهيات).

وقد صدر الكتاب بالإنجليزية سنة 1931 عن جامعة أكسفورد ونُقل إلى العربية في الطبعة الأولى سنة 1936 عن اللجنة الجامعية للتأليف والترجمة والنشر بالقاهرة. وقد أعاد المركز القومي للترجمة بالقاهرة طباعته سنة 2007.

وعنوان الكتاب (ثراث الاسلام) لا يدل على مضمونه، فهو ليس عن الإسلام كدين، وإنما عن تأثير أو مساهمة العرب المسلمين في النهضة الأوربية. فقد شملت بحوث الكتاب مختلف ضروب العلوم والمعارف من أدب وفلسفة وطب وعمارة وموسيقى وزخرفة ورسم وغيرها.

وقد كرّس جِبّ بحثه في دراسة تأثير الأدب العربي، الرسمي والشعبي، على آداب أوربا الرسمية والشعبية ليخلص إلى القول "إن خير ما أسدته الآداب الإسلامية لآداب أوربا أنها أثرت بثقافتها العربية وفكرها العربي في شعر القرون الوسطى ونثرها"(4).

وتبدأ العصور الوسطىmedieval  بانهيار الإمبراطورية الرومانية وتمتد من القرن الخامس وحتى بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر للميلاد. ويقسم الأوربيون تاريخهم إلى ثلاثة مراحل رئيسة هي: العصر الكلاسيكي (تمثله حضارة الإغريق والرومان) ثم العصور الوسطى، وأخيرا العصر الحديث، ويبدأ من عصر النهضة ويمتد ليشمل عصر التنوير والثورة الصناعية والثورة الفرنسية وحتى الآن.

وبينما كانت أوربا تعيش في العصور الوسطي، كانت الحضارة العربية في الأندلس وصقلية في أوج ازدهارها وكانت قرطبة وطليطلة وغرناطة مراكز اشعاع وقبلة الأوربيين لدراسة العلوم والفلسفة والأدب. وقد امتد حكم العرب الأندلس (أسبانيا والبرتغال) من سنة 711 إلى سنة 1492 ميلادية.

ونحن نعلم أن الفنون جميعها وعلى رأسها الموسيقى والغناء وشعر الموشحات والزجل قد شهدت ازهادراً غير مسبوق بالأندلس وقد ألقى كل ذلك بظلاله على الآداب الأوربية حتى قال في ذلك المؤرخ والشاعر والناقد البريطاني توماس ورتون Warton في كتابه (تاريخ الشعر الإنجليزي)  History of English Poetry  الصادر سنة 1770 إن "رومانتيكية العصور الوسطى هي بلا ريب نتاج عربي خالص"(5).

وهو يقصد بذلك تأثير الشعر العربي في نشأة الشعر الأوربي الحديث وتأثير قصص الفروسية والمغامرات والخرافة في الأدب العربي الشعبي على نشوء أدب وقصص ال Romance في أوربا القرون الوسطى مما أدى فيما بعد إلى ظهور القصة الواقعية والحركة الرومانتيكية الأوربية في أواخر القرن الثامن عشر.


شعر التروبادور وفن الموشح:

 في تاريخ الآداب الأوربية هناك ضرب من الشعر يطلق عليه شعر (التروبادور) وهو شعر عماده الفروسية والحب العذري، ويعد هذا الشعر بداية وأساس نهضة الشعر الأوربي الغنائي الحديث عبر مراحله وتشكلاته المختلفة.

يقول معجم (بنجوين) للنظرية الأدبية تحت مادة troubadour :"التروبادور هم شعراء ازدهرت أشعارهم في جنوب فرنسا في الفترة ما بين 1100 الى 1350 ميلادية وكانوا موزعين على عدد من قصور الملوك وعرفوا بظاهرة الحب العذريcourtly love  فمعظم أشعارهم عبارة عن قصائد غنائية في الحب والغرام وقد ترك هؤلاء الشعراء أثرهم العميق على دانتي وبترارك، لا بل على سائر مراحل وتطورات الشعر الغنائي في أوربا"(6).

كانت بدايات هذا الشعر في القرن الثاني عشر الميلادي في أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا وإيطاليا وصقليه ثم انتشر في شمال فرنسا وألمانيا ووصل حتى بريطانيا. ولكن اشتهر هذا الشعر بنسبته إلى إقليم بروفانس الكائن بالركن الجنوبي الشرقي لفرنسا. وقد انتهى كثير من كبار المؤرخين والأدباء والنقاد والمستشرقين الأوربيين إلى أن شعر التروبادور نشأ نتيجة تأثر مباشر بشعر الموشحات والزجل العربي بالأندلس.

وفي ذلك يقول الفيلسوف والمؤرخ واللغوي الألماني Herder هردر (1744-1803): "ولما اكتسح العرب وعلى مدى قرون عديدة بعض أجزاء من أوربا وسكنوها، كان لابد أن يتركوا آثاراً من فنونهم الشعرية وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولعل تأثير فنونهم لم يكن أقل من تأثير علومهم، التي كنا قد أخذناها بكاملها تقريباً من أيديهم"(7).

وفي إشارة مباشرة إلى تأثير الشعر العربي على نشوء شعر الفروسية والغزل العذري لدى الشعراء التروبادور يقول هردر: "وهكذا بدأ في الأفق الأوربي ذوق جديد يستشرف كل ما هو جديد ويشيد بالمغامرة، سواء ما اتصل منها بالأفعال أو الشرف أو الحب، ذوق أخذ يزحف بالتدريج من الجنوب إلى الشمال دون أن يلاحظ من قِبل أحد، وراح يختلط بالمسيحية وذوق الشعوب الشمالية. وغدت روح الفروسية الأوربية روحاً شرقية، فظهرت أناشيد بطولية وقصص تروي المغامرات والعجائب، وأثر ذلك كله تأثراً مذهلاً في أوربا"(8).

وهذا ما يؤكده في سياق منفصل الأستاذ هميلتون جِبّ بقوله: "في نهاية القرن الحادي عشر ظهر في جنوبي فرنسا على حين غرة ضرب من الشعر جديد، صناعته جديدة، وله موضوع جديد ونفسية جديدة. وهل هناك أقرب على العقل والبديهة من أن هؤلاء الشعراء الأقدمين في إقليم بروفانس كانوا متاثرين بالنماذج العربية؟"(9).

وذلك لأن جدة شعر التروبادور، كما يراها جِبّ، ليست في موضوعه بل في الطريقة المستحدثة التي صيغ بها هذا الموضوع وهو "ذلك العشق الخفاق الذي كان يمثل مذهباً عاطفياً" لا نظير  له في "تقاليد آداب الشعوب اللاتينية". وقد "اقترن هذا الحب بنظرية اجتماعية وأخلاقية للحب، هي أظهر ما يميز الأدب العربي"(10).

ولكن السؤال، كما يقول جِبّ، كيف انتقل شعر الزجل إلى الشعراء التربادور الأقدمين وهم لا يعرفون العربية؟ ويجيب جب على السؤال بأن "مسلمي الأندلس لم يكونوا عارفين بالاسبانية فقط، بل ثبت أيضاً أنهم من كبيرهم لصغيرهم كانوا يفهمون اللغة الجليقية Galician وهي لهجة متولدة عن اللاتينية، وكانوا يتكلمون بها في بيوتهم ومعاملاتهم"(11).

وبالمقابل "أصبح المسيحيون في الأندلس مستعربين، كما هو ظاهر من الاسم الذي عرفوا به وهو Mozarabes "موزاربس" وكانوا مطلعين على الأدب العربي. وهؤلاء المسيحيون نقلوا كثيراً من بذور الثقافة الإسلامية في الأندلس إلى الممالك الشمالية، ولا ريب أن تبادلاً على هذا النحو شكل أساساً لظواهر كثيرة في تاريخ الشعر الأندلسي والاسباني"(12).

وهكذا أخذ هؤلاء السكان (الموزاربس) المسيحيون "الأوزان الشعرية العربية من أغاني الموشحات، وأدخلوها على أغانيهم الشعبية التي استخدمت فيها العامية العربية والجليقية، وعرفت إذ ذاك باسم الزجل. ثم من هذا الزجل نفذت تلك التحسينات الفنية كلها أخيراً إلى الشعر الذي قيل باللغة الجليقية وأخواتها. ولا نكاد نشك في أن الأغاني الشعبية التي يطلق عليها اسم الشعر القروي أو الفلانثيكو هي بعينها الزجل"(13).

من كل ذلك يخلص جِبّ إلى أن "وساطة النقل هي الزجل الشعبي، والشعر القروي الفلانثيكو الذي هو نظير الزجل في الأدب الجليقي". ولحسن الحظ بقيت من شعر الزجل الشعبي الأندلسي "مجموعة من مائة وخمسين قطعة كتبت باللهجة العامية المخلوطة، كتبها شاعر أندلسي هو ابن قزمان، وهو وإن كان معاصراً للأوائل من شعراء التروبادور، فانه كما صرح هو بذلك، كان يسلك طريقة ثابتة ومألوفة في الأندلس. أما شعره من حيث هو فن، فقد كان عربياً في صنعته وقوافيه"(14).

ومن واقع المقارنة بين قصائد ابن قزمان هذه، وقصائد أقدم شعراء التروبادور من إقليم بروفانس، يصل جِبّ إلى نتيجة مفادها أن "أشعار وليم دي براتييه كانت تصاغ في نفس الأوزان التي صيغت فيها أشعار ابن قزمان، وأحياناً أخرى تصاغ في أوزان تختلف عنها اختلافاً بسيطاً، مصدره الرغبة في جعل تلك الأوزان ملائمة للغناء الفردي بعد أن كانت معدة لغناء الجوقة أو الجماعة"(15).

وأجمل جِبّ خلاصة رأيه في هذه المسألة بالقول إن "الدعوى القائلة بأن الشعر العربي قد ساهم إلى حد ما في نهضة الشعر الحديث في أوربا،  دعوى يمكن إثباتها، وذلك على رغم أننا لانستطيع أن نغلو في القول فنذهب إلى ما يؤكده الأستاذ ماكيل Prof. Mekail بالقول: فكما أن أوربا مدينة بديانتها لليهود، فكذلك هي مدينة للعرب بالروح الرومانتيكية"(16).

وقد جاءت أراء جِبّ في أعقاب نتائج الأبحاث التي قام بها المستشرق الأسباني الكبير دان خليان ربيرا (1858-1934) أستاذ كرسي الأدب العربي بجامعة مدريد. ولم يشارك ربيرا في تأليف كتاب (تراث الاسلام) ولكنه طرح نتائج أبحاثه في عدد من البحوث والكتب لم نطلع عليه واطلعنا على أفكاره من كتاب تلميذه المستشرق آنخيل جنثالث بالنثيا (تاريخ الأدب الأندلسي) والذي صدر سنة 1927 ونقله عن الاسبانية حسين مؤنس الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة تحت عنوان (تاريخ الفكر الأندلسي) وصدرت ترجمته سنة 1955 بالقاهرة.

وكان ربيرا قد خلص في أبحاثه بعد المقارنات التي أجراها بين أشعار التروبادور وديوان ابن قزمان ودراسة الموسيقى والأنغام التي كانت تؤدي به هذه الأشعار، إلى أن فن الموشح في صيغته المسماة (الزجل) هو:

"المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكوين القوالب التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر أثناء العصر الوسيط". وقد تجلت الدراسات التي "قام بها ريبيرا  حول موسيقى الكنتجات Las cantigas أي الأغاني ودواووين التروبادور Troubadour اي المغنيين الجوالين والتروفير Troveros (فريق آخر من المغنيين المتجولين)  والمينيسنجر die Minnisaenger منشدو المِنِّ Minne (وهي مقطوعات الأغاني الصغيرة) عن اثبات انتقال بحور الشعر الأندلسي إلى جانب الموسيقى العربية إلى أوربا"(17).

فقد أضاءت دراسة ريبيرا "لديوان ابن قزمان، جوانب مشكلة كبرى في أصول الشعر الأوربي. وكان الناس يحسبون أن طراز الشعر البرفنسي قديم جداً.. لكن الطراز الشعري الأندلسي (يقصد الزجل) أٌقدم من الشعر البروفنسي بزمن طويل. والواقع أن أوائل التروبادور البرفنسيين استخدموا أقدم القوالب الزجلية الأندلسية وتغنوا بغرامياتهم الجارحة للحشمة بنفس الحرية وعدم التحرج اللذين نراهما عند ابن قزمان"(18).

بل أن ربيرا يذهب في نتائج أبحاثه إلى أن الزجل الأندلسي كان شائعا حتى في انجلترا "إذ يبدو أنه القالب الشعري الذي صبت فيه بعض الأغاني الشعبية القديمة التي كانت تقال في العذراء وبعض أناشيد أعياد الميلاد. كتلك التي نجدها في شعر دوميريل Du Meril ، وهي أزجال أغصانها في اللغة الانجليزية الدارجة والبيت الرابع من كل غصن باللاتينية. بل لا زالت قوالب الأزجال باقية إلى الآن في الأغاني الشعبية الآيرلندية والأسكتلندية (وخاصة في هذه الأخيرة) حيث تجد رباعيات من الطراز الذي كان يصوغه مسلمو الأندلس، ونظامها: أ أ أ ب  a a a b "(19).

وقد ثبت نتيجة للأبحاث التي قام بها الاستاذ خوليان ربيرا، أن أهل الأندلس الاسلامي كانوا يستعملون العربية الفصيحة كلغة رسمية يتعلمها الناس في المدارس، ويكتبون بها الوثائق وما إليها، أما شؤونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم فكانوا يستعملون لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية (20).

وأدى هذا الإزدواج في اللغة إلى نشوء طراز شعري مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية وشرقية. وقد أزدرى أهل الأدب الفصيح بأمر هذا الطراز الجديد، بينما مضى الناس يتناقلون مقطوعاته سراً وذاع أمره داخل البيوت ووسط العوام. وما زال أمره يعظم والاقبال عليه يشتد، حتى أصبح في يوم من الأيام من الأدب. وقد أخذ هذا الطراز الجديد لونيين من الأدب الشعبي صورتين أحدهما (الزجل) والثانية (الموشحة)(21).

وبالإجمال يؤيد آنخيل بالنثيا نتائج أبحاث ربيرا ويخلص في كتابه (تاريخ الأدب الأندلسي) إلى أن "كل الأشعار الغنائية، التي نجدها في اللغات الرومانية (اللغات المتفرعة عن اللاتينية) في العصور الوسطى، صيغت في أوزان وبحور مشتقة فن الزجل والموشحة الذي انتقل مع الموسيقى الأندلسية ذات الأصل الشرقي إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا. وطال بقاؤه في أسبانيا بعد انقضاء عصور المسلمين حتى لتجد نماذج منه في القرن السابع عشر"(22).

هذه العلاقة بين الموشح والزجل تحدث عنها ابن خلدون في (المقدمة) بالقول: "ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستخدموا فناً سموه الزجل والتزم النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق"(23).


أصل كلمة تروبادور:

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما أصل كلمة تروبادور التي اطلقت على الشعراء "المغنيين الجوالين" الأوربيين الذين ورثوا فن الموشح والزجل العربيين؟

يذهب المستشرق الأسباني الكبير خوليان ربيرا إلى أن trobar مشتقة من كلمة (طَرَب) العربية. وهذا الرأى ينقله عنه جِبّ في هامش بحثه بكتاب (تراث الإسلام) إذ يقول جب: "وقد بيّن ربيرا، Disertaciones 133-49 ان عدداً من الكلمات قد اشتق من العربية ومن هذه الكلمات trobar التي يذهب إلى أنها مشتقة من كلمة طرب.., ومن الطريف أن نعرف أن كلمة وجد في اللغة العربية قد تدل على الوجدان والهيام أو الشعور بالآم الحب أو الحزن"(24). انتهى.

ويستشف من ربط جِبّ في هذا السياق بين "الطرب" و"الوجْد" أن واضعي المعاجم الأوربية أو من نقلوا عنهم، قد خلطوا بين الوجْد بمعنى الطرب والهيام، وبين الفعل وجد مصدر إيجاد ووجود فتوهموا أن مصدرهما واحد هو الفعل العربي "وَجَدَ" لذاك ذهبوا في معاجمهم إلى أن "تروبادور" أصلها بمعنى واجِد finder . فتأمل!

فإذا أنت نظرت في المعاجم الأوربية في أصل ومعنى كلمة troubadour تروبادور التي جاءت من الجنوب الفرنسي وكلمة تروفار trouver التي تطلق في شمال فرنسا، ستجدها تقول إن أصل معنى الكلمتين بالإنجليزية finder أي واجد أو موجِد. وهذا محض توهم. (انظر: معجم إكسفورد اللغة الإنجليزية).

وما يعزز أن كلمة "تروبار" مشتقة من طرب العربية هو الدلالة العامة لكلمة تروبادور وهي "المغنون الجوالون" أي المطربون الجوالون. فالغناء من مترادفات الطرب، ومطرب ومغنى بمعنى واحد ولا تزال كذلك في اللغة العربية المعاصرة.

وقد وجدنا أن موسوعة "ويكيبيديا" الإنجليزية تذكر في مادة Troubadour أن الكلمة في العربية هي: "طروبي دور:Arabic"(25). وتكتب الموسوعة المذكورة العبارة "طروبي دور" هكذا بالحروف العربية بين ثنايا النص الإنجليزي. ولكن الموسوعة لم تصل إلى هذه النتيجة إلا بعد أن تغرق القارىء بتفاصيل كثيرة قليلة القيمة، وتصرف نظره باستعراض طويل لأراء ضعيفة ومصادر بعيدة كل البعد عن أصل الكلمة ودلالتها. كما لم تشر الموسوعة مطلقا إلى "ربيرا" أو إلى ارائه وأبحاثه حول الموضوع.

ولكن المهم ما ذكرته الموسوعة يدل على أن تروبادور تحريف لعبارة "دور طرب" في العامية، أو "دور من الطرب" في الفصحى. والتقديم والتأخير سببه اختلاف النظام المورفولوجي للهجات اللاتينية بالأندلس عن نظام التصريف والتركيب في اللغة العربية.

و"دور" من مصطلحات فن الموشح ويسمى أيضاً القفل والمركز والسمْط، ويمثل المرتكز واللازمة اللحنية للموشح. فالموشح يتألف من وحدتين من الأشطار الشعرية، تتناوب فيما بينها لعدد من المرات، الأولى تسمى: أقفال أو (أدوار) والثانية: تسمى أبيات أو (أغصان). وقولهم: "طروبي دور" أي "دور طرب" للموشح أو الزجل المغنى، فيه إطلاق للجزء على الكل وذلك على سبيل المجاز المرسل. و"دور طرب" بعبارة اليوم فاصل أو وصلة من الغناء.

وهنا لا بد من التنويه إلى أن أراء وأبحاث "ربيرا" حول الأصول العربية الأندلسية للشعر الأوربي قد جرى التعتيم عليها وضرب حولها جدار من الصمت والتجاهل حتى يندر أن تجد إحالة أو إشارة إلى ربيرا أو أبحاثه في الدراسات ذات الصلة. ولم يكتفوا بتهميشه بل حاولوا النيل من مكانته العلمية وهو عالم اللغة العربية وأستاذ كرسي الأدب العربي بجامعة مدريد العريقة حتى تاريخ تقاعده، وقد تخرج علي يديه علماء أفذاذ من (المستعربين) الأسبان في اللغة العربية من بينهم المستشرق الكبير "ميجيل آسين" الذي خلفه على نفس الكرسي والذي كشف عن المصادر الإسلامية والعربية لشاعر أوربا الأكبر "دانتي" وذلك في مؤلفه (علم الآخرة الإسلامي في الكوميديا الإلهية) وهو القس الكاثوليكي!


جذور الموشح في الشعر العربي القديم:

 والموشح الذي انبثق عنه شعر الزجل الذي قلده التروبادور وشكّل قاعدةً لتأسيس الشعر الأوربي الحديث، أسلوب عربي له جذور في الشعر العربي قديم. ويجمع مؤرخو الأدب العربي على أن الموشح كفن مستقل ظهر في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلاي) ولكنهم يختلفون حول أول من نظمه هل هو ابن المعتز البغدادي أم مقدم بن معافي الأندلسي؟

ولكن إذا علمنا أنهم يتفقون أن كل من ابن المعتز ومقدم بن معافي عاشا في حقبة واحدة بالقرن الثالث الهجري، نستنتج من ذلك أن الموشح ظهر في كل من المشرق والمغرب في فترة زمنية واحدة وسياق تاريخي واحد، وبالتالي ليس مهما أيهما كان الأسبق.

والموشح كفن شعري ما هو إلا شكل من أشكال التشطير والتسميط (تنوع القوافي) في الشعر العربي. ونحن نعلم أن البيت في الشعر العربي يتألف من شطرين: صدر وعجز، وينتهي العجز بقافية موحدة في جميع أبيات القصيدة، وهذا هو النظام الغالب في الشعر العربي.

ولكن في بعض البحور القصار والخفاف وعلى رأسها الرجز تنفصم أحياناً وحدة البيت ويصير كل شطر بيتاً مقفياً. "والغالب على الرجز أن تُلتزم القافية في كل شطر منه، ويسمى حينئذ مشطوراً، ورأى العلماء أن يعدوا كل شطر من الرجز في هذه الحال بيتاً"(26). ونضرب على ذلك مثالاً قول الشاعر الجاهلي الحطيئة:


الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سـلَّمُه

إذا ارتقى فيــه الذي لا يعلــمُه

زلَّتْ به إلى الحضيضِ قدمُــه

يــــريـــدُ أنْ يُعــرِبــــــهُ فـيُـعجـِــــــمُـــــه


وقد أتاح اعتبار الشطر بيتاً مقفياً الفرصة للشاعر أن ينوع في القافية فيأتي مثلاً بكل شطرين من قافية واحدة أو أن ينفرد الشطر بقافية لوحده. ومثال ذلك القول المنسوب إلى امرئ القيس:


توهمتُ مــــن هنـــــدٍ معالمَ أطلالِ/ عفاهنَّ طول الدهر في الزمن الخالي

مرابعَ من هندٍ خلتْ ومصايفَ/  يصــــــــيحُ بمغناها صـــــدى وعــــــــــوازفِ

وغيّرها هوجُ الــرياح العواصــــفِ/ وكـــــلُّ مُســـــــــفّ ثــــــمَّ آخــــــــــــــــــــــــــر رادفِ

                  بأسحمَ مِنْ نوءِ السّماكين هطّـــالِ


وهذا الأسلوب في تنويع القافية يسمى "التسميط". والتسميط أبرز سمات الموشح بل السمط من أسماء الموشح. والسَمْط هو القلادة أو العقد المرصع بالجواهر مختلفة الألوان والأحجام. لذلك سمي الموشح سمطاً لتنوع قوافيه وتباين طول أجزائه.

ومن هذه الأراجيز المنسوبة لامرئ القيس والحطيئة نخلص إلى أن التسميط قديم في الشعر العربي. يقول عبد الله الطيب: "وقد نشأ في العهود الجاهلية، لأنه لا بد أن يكون قد سبق القافية الموحدة، بحسب ما تقتضيه قوانين التطور والتدرج. ويبدو أنه كان في الغالب نوعاً شعبياً، لا يرقى إلى مرتبة المقصدات والقطع، التي كانت تنشد في المحافل والأسواق والأندية. كما يبدو أنه كان مقصوراً على أنواع قليلة من الأوزان الخفاف كالرجز ومنهوك المنسرح مثل القول (هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان):


ويهاً بني عبد الدارْ/ ويهاً حُماة الأدبارْ

           ضرباً بكل بتارْ

إنْ تُقبلــــوا نعانـــقْ/ ونفـــــرش النمارقْ

أو تــدبــروا نفارقْ/ فـــراق غير وامقْ


يقول عبد الله الطيب: "ثم انتقل التسميط إلى سائر البحور القصار، واستعمله الأندلسيون في الرمَل من البحور الطوال، ثم شاع استعماله حتى عمّ كل البحور، فظهرت أنواع التخميس والتسبيع والتثمين، وكثرت الموشحات وتعقدت أنواعها..، وإذا تتبعت تاريخ الموشحات وجدتها بدأت بطراز سهل من بحر الرمَل، وبنوع من التسميط رشيق، كما في منظومة ابن الخطيب (جادك الغيث) ومنظومة ابن المعتز (أيها الساقي)، ثم جعلت أنواع الموشحات تكثر، وزخارفها تزيد، حتى تعدت مجرد الزخرفة اللفظية إلى الزخرفة الخطية، أعني بالزخرفة الخطية أن يكون رسم الموشحة على الورق ذا أشكال هندسية منتظمة"(27).انتهى.

هذا، وقطع الرجز لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب السير والأخبار، حتى إذا جاء الإسلام فجعلوا يسلكون به مسلك التطويل. والذين ثبت لهم السبق في الرجز من الإسلاميين الأوائل أبو النجم العجلي وذو الرمة ورؤبة. وقد استفحل أمر الرجز عندما استقر العهد الأموي. وظهرت طبقة من الشعراء باسم الرُّجّاز. كما شاعت الأراجيز في العصر العباسي لأنه عصر ازدهر فيه الغناء.

وقد تعاطي بعض الشعراء المحدثين يقول عبد الله الطيب "الرجز وأطالوا فيه ومن هؤلاء بشار بن برد. وأبو نواس أبرع في الرجز من بشار. وكذلك فعل أبو تمام في أراجيزه المطرية. ومطريات أبي تمام تدخلنا في باب الرجز استحسن أن أطلق عليه اسم "رجز الطبيعة" وهو نوع من الشعر الخفيف لا يعدو وصف الأزهار والمواسم كالصيف والخريف. وقد أكثر منه المحدثون ولا سيما في أخريات القرن الثالث"(28).

كذلك شاع في العصر العباسي الرجز "المزدوج" وهو أن يجعل الراجز شطري كل بيت من قافية واحدة تختلف عن قافية ما يعقبه من أشطار، ومنه مطولة أبي العتاهية (ذات الأمثال) والتي مما جاء فيها:


حَســـبُك ممّا تبتغيـــه القـــوتُ/ مــــــا أكثــــــرَ القـــوتَ لمــنْ يمــوتُ

هي المقاديرُ فلمنِي أو فـذرْ/  إنْ كنتُ أخطأتُ فما أخطا القدرْ

إنَّ الشـــبابَ والفراغَ والجِــــدةْ /  مفســـــــــــــدةٌ للمــــــرء أي مفســـــــــــــدةْ

إنَّ الشــــــباب حجة التصابي/  روائـــح الجـــــنة فــــــــــــي الشـــــــــــبابِ


وقد احتاجوا إلى هذا الأسلوب "وأكثروا منه في نظم القصص الطويلة والحكم والأمثال ومسائل العلوم مما لا يراد به إلا مجرد الضبط لسهولة الحفظ. وأول من نظم فيه بشار وأبو العتاهية ثم تتابع عليه الشعراء"(29). ومنه منظومة ابن مالك في النحو وغيرها.


بنية الموشح:

تتألف البنية الهيكلية للموشح من نمطين أو مجموعتين من الأشطار الشعرية تختلف في القافية وأحياناً الوزن، وتتناوب وتتكرر المجموعتان في الموشح لعدد متعارف عليه من المرات. المجموعة الأولى تسمى القفل والسمط والمركز والدور، والأخرى تسمي البيت ويتكون من أجزاء أو أشطار تسمى الأغصان.

ويجوز أن يبدأ الموشح بأي من النمطين أو المجموعتين. فإذا بدأ بالمجموعة التي تسمى القفل، يطلق عليه في هذه الحالة الموشح الكامل، وأما إذا بدأ بالمجموعة التي تسمى البيت، فيطلق عليه الأقرع(30).

وخير مثال يوضح بينة الموشح على هذا النحو، موشح ابن سهل (هل درى ظبي الحمى أن قد حما). والذي نظم على منواله ابن الخطيب وغيره من المشارقة والمغاربة. وهو يبدأ بالقفل الذي يتكرر فيه ست مرات، بينما تتكرر المجموعة التي تسمى البيت خمس مرات، لتكون جملة وحدات هذا الموشح إحدى عشر وحدة، وهو الطول المثالي للموشح كما حدده ابن سناء الملك في كتابه (دار الطراز في صناعة الموشحات وأنواعها).

والقفل الأخير في الموشح يسمى "الخرْجَة". ويصف ابن سناء الملك خاتمة الموشح أو الخرجة بقوله: "والشرط فيها أن تكون حجاجية، حارة محرقة، حادة منضجة، من ألفاظ العامة ولغات الخاصة"(31).

وتكتب "الخرجة" في الأسبانية في صيغتها العربية هكذا jarcha والحرف j يلفظ في الاسبانية خاءً فاسم Julian ينطق "خوليان"، ولكنها تكتب في الإنجليزية وتنطق في لفظها العربي kharja هكذا أثبتها معجم (بنجوين) للنظرية الأدبية مصطلحا قائما بذاته kharja وشرحها بقوله: "صيغة شعرية تكتب بالعربية أو بلغات العامة اللاتينية في أسبانيا"(32).


الموشح أصل قصيدة "السونيت" الأوربية:

ظل شعر التروبادور في صيغته الزجلية مزدهراً في أقطار أوربا لما يربو على المائتي عام، وفي أوائل القرن الرابع عشر ومع نهايات العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة الأوربية ظهر هذا الشكل الشعري في صيغة أكثر إحكاما وأجود سبكاً وصقلاً اطلق عليها sonnet سونيت وقد انطلقت قصيدة السونيت من إيطاليا وأذاعها بين سائر شعراء أوربا الشاعر الإيطالي بترارك (1304-1374).

ولا تختلف السونيت عن فنون الموشح إلا من حيث الطول. أما من حيث البنية الهيكلية والموضوع فظلت محتفظة بتقاليد الموشح والزجل. فإذا كانت قصيدة الموشح لا تلتزم بطول محدد، فإن السونيت في نموذجها البتراركي (الإيطالي) وكذلك في نموذجها الإنجليزي (الشكسبيري) تتألف من أربعة عشر سطراً أو شطراً.

وإذا كان الموشح يتكون من وحدتين من الأشطار يتكرران بالتناوب، فإن السونيت في نموذجها الإيطالي تتألف أيضا من وحدتين. فالأشطر الثمانية الأولى من السوناتة وتسمى octave تقابل في نظام الموشح القفل أو الدور.

والأسطر الستة الأخيرة من السونيت وتسمي sestet تقابل في الموشح الأبيات أو الأغصان. وذلك مع ضرورة وجود انتقال في المعنى أو الفكرة أو الموضوع يفصل بين قسمي السونبت يسمى "فولتا" volta(33)وهي كلمة إيطالية تقابلها في الإنجليزية: turn or shift أي "نقلة" دلالية يعبر عنها في القصيدة بكلمات مثل: but, then, thus.

وأما السونيت الشكسبيرية، فتتكون الوحدة الأولى فيها من اثني عشر شطرا تمثل ال octave   والوحدة الثانية من couplet كوبليه مكون من آخر سطرين يمثل "الفولتا" أو"الخرجة" في نظام الموشح(34).

وتأتي "الخرجة" في نهاية السونيت الشكسبيرية، قفلة حقاً، فهي قاطعة حاسمة عالية التركيز والتكثيف في شكل حِكمة أو حُكم أو موقف أو خلاصة رؤية أو تجربة الشاعر في  القصيدة والحياة.

ونحن نرى أن الخرجة من "الخروج" وهو انتقال الشاعر في القصيدة من غرض إلى آخر في سلاسة من غير اخلال بنسق القصيدة ووحدتها العضوية. ومن المعلوم أن القصيدة العربية الكلاسيكية تبدأ في الغالب بالنسيب والتغزل قبل أن يدلف الشاعر إلى الغرض الأساس من القصيدة.

وفي ذلك يقول ابن طباطبا: "فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به وممتزجا معه". (35).

ويقول ابن رشيق في باب (المبدأ والخروج والنهاية) بكتابه (العمدة): "وأما الخروج أن تخرج من نسيب إلى مديح أو غيره بلطف تحيُّل ثم تتمادى فيما خرجت إليه.. ومن الناس من يسمي الخروج تخلصاً وتوسلاً." (36).

من هنا جاء مصطلح "الخرجة" في شعر الموشح والزجل وانتقلت إلى السونيت. وأما موضوع السونيت فهو نفسه الموضوع المركزي في شعر التروبادور أي الحب السامي النبيل الذي يتخذ رمزاً للأشواق الروحية والعشق الإلهي.

وإذا كان الشائع أن بترارك هو من ابتكر السونيت فإن الحقيقة هي أنه لم يبتكرها وإنما أشاعها بين شعراء أوربا. وهناك شبه إجماع بين الباحثين في أوربا بأن جزيرة صقلية جنوبي إيطاليا هي الموطن الأصلي الذي انطلق منه شعر السونيت وأول من أشتهر به هو جياكومو دا لينتينو  Giacomo da Lentino زعيم مدرسة صقلية Sicilain School وشاعر بلاط فردريك الثاني، ملك صقلية. بل أن لينتينو نفسه "لم يبتدع هذا الشكل الشعري وربما ابتدعه شاعر آخر بقصر الملك هنري الثاني بصقلية"(37).

وإذا كانت الأندلس هي المركز الأول الذي انطلق منه تأثير الشعر العربي على الشعر الأوربي بحسب جبّ، "فإن المنطقة الثانية التي انتقلت منها التأثيرات العربية إلى أوربا هي مملكة صقلية النورماندية والتي احتفظت بتقاليدها في عهد الأمبراطور فردريك الثاني. والأمر الذي لا شك فيه أن الشعر العربي كان يمارس في بلاط الملوك النورمانديين. وقد نشأت مدرسة صقلية في الشعر في كنف فردريك الثاني". فقد شهد بلاط "الملك فردريك والفنسو الحكيم حركة نشطة لترجمات الكتب العربية والفلسفة الاسلامية، وكانت قصورهم تعج بكثير من الشعراء التروبادور الوطنيين والبروفانس"(38).

والحقيقة التي تكتسب الأهمية القصوى كما يقول جِبّ هي أن "أوزان الشعر الشعبي القديم في إيطاليا كما نجدها في قصائد جاكوبوني دي تودي وفي أغاني الكرنفال ونجدها بصورة أكثر جلاء في أغنية البالاد، كانت متطابقة تماماً مع أوزان الشعر الشعبي في الأندلس"(38).

ومن إيطاليا انتقلت السونيت إلى بريطانيا. والثابت بالمصادر الإنجليزية إن السونيت أدخلها إلى الشعر الإنجليزي السير توماس وايت Wyatt (1503- 1542) وكان وايت يعمل سفيراً لهنري الثامن ملك إنجلترا في كل من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. "والراجح أن زيارته الأولى إلى إيطاليا سنة 1527م هي التي دفعته إلى ترجمة وتقليد قصائد بترارك"(40).

وأشهر شعراء السونيت الإنجليز الأوائل: السير فيليب سدني، وإدموند سبنسرـ، وصمويل دانيال، وجون ميلتون، وجون دون، وشكسبير غيرهم كثير.

والجدير بالذكر أن عددا من هؤلاء الشعراء لم يتقيد بالنظام الذي اتبعه شكسبير في كتابة قصيدة السونيت من حيث الطول والبنية الهيكلية. فقد وجدنا مثلاً أن الشاعر الإنجليزي الكبير Donne جون دون (1572-1631) يكتب أحياناً السونيت بطريقة تكاد تتطابق تماماً مع بنية الموشح، ويظهر ذلك مثلاً في قصيدة A Valediction وقصيدة Song.

وفي عصر الرومانتيكية الحديثة ازدهرت قصيدة السونيت ازدهارا كبيرا وسط الشعراء في مختلف الأقطار الأوربية. ففي بريطانيا اشتهرت سونيتات وردوزورث، وجون كيتس وشيلي، ومن شعراء فرنسا الذين كتبوا سونيتات متميزة، بودلير وفاليري ومالارميه ورامبو. وأما في القرن العشرين فقد زاد الاهتمام بقصيدة السوناتة ومن الذين اشهروا بها روبرت بروك، روبرت فروست، وأودن، وجون كراو رانسوم، وغيرهم كثير(41).

هذا وكان قد صدر للدكتور كمال أبو ديب أستاذ كرسي الأدب العربي بجامعة لندن والناقد العربي المعروف كتيب صغير يوزع مجاناً مع مجلة (دبي الثقافية، يناير 2010) ضم  ترجماته لسونيتات شكسبير. وينتهي أبو ديب في مقدمة هذا الكتيب القيِّم إلى ذات النتيجة التي خلصنا إليها عن علاقة السونيت بالموشح، وإن كان قد أظهر في البداية شيئا من الحذر والتوجس وهو يعلن عن هذا الاكتشاف بقوله:

"وسأترجم سونيت بلفظة توشيحة، لا عبثا، بل لأن بنية السونيت هي في الواقع نوع من التوشيح الذي نراه في الموشح العربي. وثمة رأي يتطلب جرأة أعظم لإعلانه وهو أنني، دون تنفج ومنفخة على الطريقة العربية المألوفة، أظن (مدركاً أن بعض الظن إثم، لكن كل الظن ليس كذلك) أن الموشح العربي في الأندلس قد يكون النموذج الذي اقتبسه الشعراء الأوربيون ضمن عملية استعاراتهم لشعر الحب العربي فيما يسمىcourtly love  حين بدأوا ينظمون شعراً بتركيب معقد وصل في صيغته النهائية إلى الاستقرار في شكل سموه السونيت"(42). ولكنه يخلص بكل ثبات ويقين إلى "أن السونيت ليست إلا مقتطعاً من بنية الموشح"(43).

غير أن الدكتور أبو ديب لم يشر إلى أي من المصادر التي اعتمدنا عليها هنا، فهو لم يذكر "ربيرا" ونتائج أبحاثه، ولم يتوقف عند أصل كلمة تروبادور كما لم يشر إلى كتاب (تراث الإسلام) الذي وردت به أراء المستشرق البريطاني جِبّ استاذ الأدب بجامعة لندن. وأغلب الظن أنه لم يتوفر له الاطلاع على هذه المصادر.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما أصل مصطلح سونيت؟ من أين جاء؟

تقول المراجع الأوربية إنها في البروفانسية sonet وفي الإيطالية sonetto وتعني "الصوت الصغير" أو"الأغنية الصغيرة"(44).

ويرى الدكتور كمال أبو ديب في مقدمة ترجمته لسونيتات شكسبير المشار إليها أعلاه، أنه يرجح أن تكون sonnet تحريف لكلمة "سَمْط" العربية. إذ يقول في شيء من الهزل وهو أسلوب معروف عند أبو ديب عندما يهم بطرح رأي جديد غير مألوف لدى الكتّاب العرب:

"وأريد أن أتكهن قليلاً للمتعة العابرة إن لم يكن لشىء آخر، فأمتع النفس بتوهم أن كلمة sonnet نفسها ذات أصل عربي، فهي غير معروفة في اللاتينية، ويقال إنها من لغة البروفنسال، وأتوهم أنها تحريف للكلمة العربية السمط التي تعني بين ما تعنيه القلادة. وكانت تستخدم في وصف الشعر، وهي مستخدمة في أكثر من موشح رأيته، بل كان السمط أيضاً أحد التشيكلات الشعرية القديمة وله تركيب يميزه"(45).

وهذا صحيح فالتسميط في الشعر العربي معروف وهو (تنويع القافية) شُبّه ذلك بالعقد المرصع بالجواهر مختلفة الألوان، والموشح آخر شكل انتهى إليه التسميط في الشعر العربي، و"السَمْط" وجمعه أسماط، من مصطلحات فن الموشح وهو القفل أو المركز أو الدور الذي يبدأ به الموشح.

وما يرجح تحوير سَمط إلى "سونيت" أن الحرف n غير مكرر في اللفظة الإيطالية sonetto ومن السهل جدا إبدال صوت الميم في العربية إلى الحرف n في اللغات الأوربية سيما وأن حرفي الميم والنون يتبادلان كما هو معروف في علم الأصوات phonetics. والصوت "تو" في آخر الكلمة من السمات المعروفة في اللغة الإيطالية.

على أننا نطرح احتمالاً آخر، ليس بغرض التقليل من تخريج الدكتور أبو ديب، ولكن لأسباب تلح علينا إلحاحاً وتفرض نفسها فرضاً، وهي أن الأستاذ الكبير خوليان ربيرا وغيره من الباحثين ذكروا أن الشعراء التروبادور لم ينقلوا الموشح كشعر فقط بل نقلوا معه أسماء الآلات الموسيقية التي كان يُغنى بها الموشح والزجل في الأندلس، وبعض هذه الآلات احتفظت باسمائها العربية إلى اليوم في اللغات الأوربية.

ومن هذه الآلات الموسيقية كما يقول المستشرق تريند: "العود وهو The lute والقيثارة guitar والرباب rebeck or ribible وبالأسبانية rabel إلى جانب آلات موسيقية أخرى اشتقت اسماؤها من العربية، مثل pandero و pandarata الأسبانيتين المشتقتين من كلمة بِندير العربية "وتسمى الصنوج التي حول حافته sonajas بالأسبانية (من صنوج العربية جمع صنج وبالفارسية صنج)" (46).

ذكر كلمة "صنج" sonajas بالأسبانية بين تلك الآلات الموسيقية التي كان يتغنى بها هؤلاء الشعراء، يوحى بأن أنشودة "السونيت" ربما اشتقت من اسم هذه الآلة. والتروبادور هم "الشعراء المغنون الجوالون". والمعروف أن الشاعر العربي المخضرم الأعشى كان يلقب بـ"صنّاجة العرب" أي قيثارة العرب.


يتبع..،

الجزء الثاني عن أخذ الشعر الأوربي نظام القافية والتشطير (الكوبليه) من الشعر العربي.


الهوامش والمصادر:

1- جِبّ، الأدب ، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، المركز القومي للترجمة، 2007، ص 157

2- المصدر السابق، ص 158

3- المصدر السابق، ص 159

4- المصدر السابق، ص190

5- المصدر السابق، ص203

6- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, 1999, p.949

7- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمه عن الألمانية عدنان عباس، عالم المعرفة، ص32

8- المصدر السابق، 32

9- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، سبق ذكره، ص157

10- المصدر السابق، ص 160

11- المصدر السابق، ص 168

12- المصدر السابق، ص 168،169

13- المصدر السابق، ص 169

14- المصدر السابق، ص 170

15- Gibb, Literature, From: The Legacy of Islam, Oxford University Press, 1931, p. 158.

16- Ibid, p. 173, 174.

17- آنخيل جنثالث، تاريخ الفكر الأندلسي، نقله عن الأسبانية: د. حسين مؤنس، أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، 1955،

18- المصدر السابق ص 615،616

19- المصدر السابق، ص 618

20- المصدر السابق، ص 142

21- المصدر السابق، ص 122

22- المصدر السابق، ص

23- ابن خلدون، المقدمة، نقلاً عن إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، ص 219

24- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، سبق ذكره، ص173

25- انظر: موسوعة ويكبيديا الإنجليزية مادة: troubadour

26- عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء الأول، ص 282

27- المصدر السابق، ص 22-25

28- المصدر السابق، ص 290-294

29- محمود مصطفى، أهدى سبيل إلى علمي الخليل، ص 136

30- إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، سبق ذكره، ص 214

31- المصدر السابق، ص209

32- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, p.443

33- Ibid, p. 812

34- Ibid, p. 813

35- ابن طباطبا، عيار الشعر، ص 12

36- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر ونقده، ص 207

37- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, p. 844

38- Gibb, Literature, From: The Legacy of Islam, p. 191

39- Ibid, p. 192

40- Oxford Companion to The English Literature, 1996, p.647

41- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, p. 846

42- شكسبير، سونيتات، ترجمة وتقديم، كمال أبو ديب، كتاب دبي الثقافية، 2010، ص 17،18

43- المصدر السابق، ص 44،45

44- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, p. 843

45- شكسبير، سونيتات، ترجمة وتقديم، كمال أبو ديب، ص 35،36

46- تريند، أسبانيا والبرتغال، من كتاب: تراث الإسلام، الجزءالأول، سبق ذكره، ص 31،32





abusara21@gmail.com

 

آراء