في الذكرى 67 لاستقلال السودان – الثَّورة وفُرُوض التَّغْيير (6)

 


 

بلّة البكري
21 January, 2023

 

(التعليم) وضرورة العودة للمربع الأوّل

بَلّة البَكري (*)
21 يناير 2023م
"الفَرنسية غَنيمة حَرْب لكن الإنجليزية هي لُغة العالم.."
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

الارتجال الضار في أمر التعليم
الصراع بين (اليمين)، بأنصاره من السلفيين والطائفيين وزعماء الإسلام السياسي، وبين كل (قوى التقدم الحداثوي) في السودان صراع قديم؛ ظهر في الأربعينات من القرن الماضي أو قبلها بقليل عندما بدأت طلائع المثقفين تهرع إلى مظلة الطائفة الدينية، تنضوي تحتها وتحتمي بها. ثُمّ تحوّل الأمر الى حراك سياسي ينادي ب(الدستور الإسلامي) عقب الاستقلال مباشرة في منتصف الخمسينات. تلخّص ذلك الحراك في جدل حامي الوطيس بين النُخب الشمالية والجنوبية للسودان الموحد حول مقترح بتسمية السودان "جمهورية إسلامية" وقد سقط المقترح. من تلك الفترة، فيما نرى، انشغلت النخب السياسية بموضوع (الدستور الإسلامي) والانحياز للنادي العروبي متمثلا في جامعة الدول العربية وهذا؛ من ضمن أمور أخرى، ما صرفهم عن (البناء المؤسسي) لدولة حديثة. قاد هذا التوجه إلى عدة أحداث في فترة الستينات والتي بان فيها الصراع السياسي عقب ثورة أكتوبر، منها "التعريب" في المرحلة الثانوية في عام 1967م. فقد كانت كل مواد المرحلة الثانوية تُدَرّس باللغة الإنجليزية قبل ذلك التاريخ. انقضت فترة الستينات بانقلاب جعفر نميري في مايو 1969م. وجاء بعد ذلك مباشرة ما عرف ب ( السلم التعليمي) تحت إدارة وزير التعليم وقتها الدكتور محي الدين صابر؛ والذي غيّر النظام المدرسي من أربع سنوات في كل مرحلة (أساس ومتوسط وثانوي) الى 6-3-3 سنوات في حوالي عام 1970م على نهج النظام المصري. وعليه وفي أقلّ من عقدين من الزمان من خروج المستعمر تمّ تعريب التعليم المدرسي كله وتحويله الى تعليم باللغة العربية وظلت الجامعة على ما هي عليه في التدريس باللغة الإنجليزية. وقد خلق هذا الوضع مشكلة للدارسين في الجامعة، وخاصة طلاب الأقسام العلمية، والذين يأتي بعضهم إليها من مدرسته الثانوية المعرّبة بمستوى ضعيف، نسبياً، في اللغة الإنجليزية وعليهم الدراسة والاستيعاب بها.

في عام 1989م جاء الإنقاذيون بعد انقلابهم على النظام الديمقراطي بمشروعهم الهلامي الموسوم بالمشروع الحضاري وما هو من الحضارة في شئ؛ بل هو التخلف يمشي على قدمين. وهنا تمّ الاعتداء على النظام التعليمي المدرسي، مرة أخرى، وحَوّلوه الى نظام 8-3 سنوات، تبخر معها عام دراسي كامل، هكذا دون مبرر يُعقل، وطُمست المرحلة المتوسطة. هذا وقد جرى تعريب التعليم الجامعي على أيدي الإنقاذيين في الفترة التي أسندت فيها إدارة جامعة الخرطوم لأحد منسوبيهم، أستاذ في الطب البشري معروف، والذي قام بتعريب الجامعة ثم ذهب عقب ذلك وأنشأ جامعةخاصة، باسمه، يتم التدريس فيها باللغة الانجليزية! بتعريب التعليم الجامعي في عهدهم يكتمل مسلسل الانهيار التام للتعليم بكل مراحله. أصبح ناتج هذا التعليم، بعد كل هذا التخريب، ضعيفٌ، غاية الضعف، لا يواكب متطلبات العصر وحاجته. هذه نبذة مختصرة عن ما حاق بنظام التعليم في السودان منذ الاستقلال من تخريب؛ ولا نشك في أن المختصين في هذا المجال يمكنهم أن يضيفوا الكثير لأسباب الإنهيار، مثل القرارات المرتجلة التي لا تستند على دراسات علمية داعمة وضعف ميزانية التعليم المركزية والولائية وتدني أجور المعلمين وضعف التدريب التأهيلي للمعلم وإهمال البيئة المدرسية والمناهج المرتجلة الخ.

الدولة العصرية، تتطلب بناءاُ مؤسسياً عصريا على المستوى (السياسي) و(القانوني) و(الإداري). و(البناء المؤسسي) – كالبناء الحسي - يرتكز على أعمدة رئيسية منها التعليم. فتخريب التعليم وإضعافه وجعله غير مواكب للمستوي العصري هو هدم عمود كامل وتكسيره في المبنى الذي يرتكز عليه.


العودة للمربع الأول
البداية الصحيحة للإصلاح في أمر التعليم هي العودة للمربع الأول؛ من الروضة مروراً بالأساس والمتوسط والثانوي مع التركيز على التعليم المهني التقني والتعليم الصناعي على أن تكون جميع المراحل باللغة الإنجليزية. وفي هذا الصدد هناك تجارب دول عدة، في الجوار الأفريقي، يمكن الإقتداء بها والتمثل بنهجها في المناهج التي بنيت على اللغة الإنجليزية؛ وتوجد مؤسسات عالمية رسمية وغير رسمية ستساعد في هذا المنحى. نعلم جيداً أن (التعليم) في أي دولة ليس بالأمر الهيّن الذي يمكن لأي كاتب، مهما بلغ من سعة الأفق المعرفي، أن يتناول شأنه ويوفيه تماماً في مقال قصير في صحيفة سيّارة. فلابد له من هيئة مختصة بعلماء تربويين في مختلف فروع المعارف، مفرغين تماماً، تتدارس أمره بتفصيل وتصمم مناهجه وتنقحها وتشرف على إنزالها لأرض الواقع. وقد استشرتُ في هذا الصدد عالم تربوي مرموق مختص في مجال التربية والتعليم وله خبرات تربوية معتبرة في كل المراحل الدراسية شاملاً المرحلة الجامعية في داخل السودان وخارجه؛ وقد جاء رده على سؤالي عن الطريق للأمام في أمر التعليم وإعادة بناؤه، كالآتي:

"---- إنني مع أن تحتل اللغة التي تتحدث بها الأمّة مكاناً في التعليم الجامعي خاصة في مجال العلوم الإنسانية، إلا أنه من المهم جداً وجود اللغة الإنجليزية في التعليم الجامعي. ولابد أن يكون شرط إجادة اللغة الإنجليزية واحداً من شروط القبول للدخول إلى التعليم الجامعي. ويقتضي هذا العناية باللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية وليس ابتداًء من المرحلة المتوسطة كما كان يجري في السابق. والسبب في جعل إجادة اللغة الإنجليزية شرطاً للدخول إلى التعليم الجامعي هو ان أهم الأدبيات المكتوبة في أي حقل من حقول العلوم الطبيعية أو الإنسانية مكتوبة باللغة الإنجليزية. فالأبحاث الأجَدّ في كل حقل من حقول المعرفة مكتوبة في غالبها في دوريات أكاديمية تنشر باللغة الإنجليزية. يضاف إلى ذلك أن الإنترنت أصبحت أداة بحثية؛ فهي مكتبة مفتوحة على مدار الساعة، والبحث فيها باللغة الأنجليزية يأتي بنتائج لا تقارن من حيث الكثرة والتنوع بالبحث باللغة العربية. فالعلوم الطبيعية، من كمياء وفيزياء وأحياء ورياضيات، وما يتأسس عليها في الطب والهندسة والتقانة وغيرها مما يتفرع منها، ينبغي أن يجري تدريسها باللغة الإنجليزية. أما العلوم الإنسانية من تاريخ واقتصاد وعلوم سياسية وقانون فمن الأفضل تدريسها باللغة العربية على أن يكون الطالب قادراً على قراءة المراجع المكتوبة باللغة الإنجليزية سواء في مكتبة الجامعة أو في المصادر المختلفة في شبكة الانترنت. فالتعريب الكامل وعدم الاهتمام باللغة الإنجليزية يضعف درجة الاطلاع على ما يجري في العالم، فليست كل المراجع المكتوبة باللغة الإنجليزية وهي بالغة الكثرة مترجمة. ولا يمكن لحركة الترجمة أن تغطي كل ما هو منشور باللغة الإنجليزية. كما أن الانصراف عن التعريب تماماً في التعليم الجامعي يضعف اللغة العربية ويحول بينها وبين فرص النمو. فاللغة ليست قالبا ثابتاً وإنما هي جسم ينمو عبر الزمن. والتلاقح مع اللغات الأخرى هو الذي يزيد من سعتها وقدرتها على نقل المعلومات ونقل الأفكار" انتهى.

هذا حديث علميٌ، منطقي ومُسبّب، نتفق معه بصفة عامة؛ وخاصة في مجال العلوم الطبيعية، بكل فروعها والرياضيات وتطبيقاتها في الهندسة والعلوم الطبية وما إلى ذلك. بيد أننا نرى بخلاف ذلك في شأن العلوم الإنسانية؛ فكُل الدراسات الإنسانية يُفضّل، فيما نرى، أن تُدَرّس باللغة الإنجليزية، أيضاً، ومن مناهج عالمية كما هو موجود في أي جامعة في أي دولة متقدمة، مثلها مثل العلوم التطبيقية. فخريج الإقتصاد أو القانون، على سبيل المثال، من أي جامعة سودانية، في المستقبل، ينبغي له المقدرة على منافسة رصفائه من أي دولة، في أفريقيا أو في آسيا، أو غيرها، على قدم المساواة دون أي عوائق؛ وهذا هو الحد الأدنى للمواكبة العصرية. فالتدريس باللغة العربية في الجامعة يحرم الخريج من هذه الصفة ويقعد به عن المنافسة في محيطه الأفريقي والعربي والعالمي كما تقعد الإعاقة الجسدية بمنافس رياضي ينازل أبطالاً أصحاء من مختلف دول العالم لا عائق لهم.

لقد أصبح التعليم باللغة الإنجليزية ضرورة فرضتها ريادة هذه اللغة في كل مجالات الحياة العصرية. ويكفي فقط أن تنظر للإنقاذيين وتنفيذي الدولة وحرصهم على تعليم أنجالهم في مدارس وجامعات خاصة في الداخل والخارج بهذه اللغة. وقد انتبهت كل المنطقة العربية لهذا الأمر مؤخراً وبدأ بعضها في العمل على تداركه. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، نيّته إدراج اللغة الإنجليزية في مناهج التعليم الإبتدائي؛ وذلك لكي تدخل الجزائر في النطاق العالمي، على حد قوله (في لقاء صحفي العام الماضي منشور على يوتيوب: النهار TV). وأردف بالقول أن اللغة الفرنسية هي "غنيمة حرب" بالنسبة للجزائريين، لكن اللغة الدولية هي اللغة الإنجليزية. وقد جاء أن الأديب الجزائري الأشهر، كاتب ياسين، عندما سألوه لماذا تكتب باللغة الفرنسية فقال قولته المشهورة: "اللغة الفرنسية غنيمة حرب". وباعتماد اللغة الإنجليزية في التعليم بدءاً من المرحلة الابتدائية ستصبح اللغة الثالثة بجانب العربية والفرنسية في الجزائر.

وختاماً نرجو أن يفتح هذا المقال الباب مشرعاً لنقاش طويل ومفصل من المختصين في (التعليم)، وأن يأتي بنتائج ملموسة قابلة للتطبيق؛ لأنّ (التعليم) هو حجر الزاوية في (البناء المؤسسي) للدولة العصرية ولابد من إعادة صقله والتأكد من تمام جودته لكي يصبح البناء المرتقب صرحاً مُستداماً. سنتناول ( البناء المؤسسي) للدولة العصرية في حلقة قادمة من هذا المقال.

- ونواصل -


(*) مهندس (CEng FICE) وكاتب في الشأن السوداني
ballah.el.bakry@gmail.com

 

آراء