في السودان فينيق إسلاموي يطمع أن يقوم من رماده 

 


 

 

(1)

       بعد سقوط النظام الإسـلاموي في السّودان، الذي بادر بإنشائه الدكتور الرّاحل حسن الترابي عبر انقلاب عسكري جعل من الجنرال البشـير  قائداً له في يونيو 1989م . كان الترابي  وقتذاك  زعيما للجبهة الإسلامية  في السودان وعرّابا أصيلا لذلك الانقلاب  ، غير أنه  سرعان ما اختلف معه  بعض تلاميذه حول تسيير أمور الدولة .  منهم من صانع الجنرال البشير  فانفضوا من حول الترابي عام 1999م،  لتنشقّ الحركة الإسلاموية التي حكمت السودان إلى حزبين،  أحدهما في السلطة  التي تسيّدها الجنرال عمر البشير ، والآخر  وقف مُناصراً للترابي في  تكوين  حزب جديد إسمه  المؤتمر الشعبي، معارضاً لنظام  الجنرال البشير. كان الدكتور الترابي - وهوالعقل الذي دبّر الإنقلاب - يصف البشير بأنه  طاغية مستبد.  الخلاف بين الرّجلين أفضى بهما إلى مفاصلة بين  الإسـلامويين أنفسهم الذين  أجهضوا نظام الديمقراطية  التعدّدية  في 1989م ، وأنشأوا نظام "الإنقـاذ" على أنقاضه   والذي استمر ثلاثين عاماً  إلى أن أسـقطه الثوّار السّـودانيون في عام 2018م. .


(2)

      ذلك نظام  ترك السّـودان  معزولاً في محيطه الإقليمي، كما في محيطه الدولي لسنواتٍ طوال.  إنّ الفشل الذّريع  للنظام الاستبدادي  في إدارة  الدولة السودانية  ، ترك السّودان، الذي  كان يوماً  المنارة السّامقة في قلب القارة  السّمراء ، إذ أسّـس مع رفاقه منظمة الوحدة الأفريقية  التي أنشأتها  زعامات القارة  في عام 1963م .  ومثلما  ظلّ السودان  مساندا قوياً لحركات التحرّر الأفريقي في سنوات النَّصف الثاني من القرن العشرين، بحكم انتمائه الأفريقي،  فقد كان لاعباً  له وزنه  في نطاق انتمائه العربي.  انتهى السّودان  في سنوات الطاغية البشير فصار  بلداً منهكاً  وكياناً  أجربا ،  يتآمر  بخبثٍ على جيرانه  ويسعى لاغتيال  رؤساء دول، ويهدد استقرار آخرين  فكسب درجة رفيعة  ومتقدمة  في قائمة الدول الرّاعية للإرهاب،   يتحاشا التعامل معه عقلاء  المجتمع الدولي .   أما على المستوى الداخلي فقد أهلكت الخلافات والانشقاقات السياسية  والإقصاء المتعمّد وتجاهل واقع التنوّع في البلاد، فضعفت مع  كلّ  ذلك  ممسكات  وحدة السّـودان وفتتْ من عضده الصراعات. ومن أكثر  تبعات حقبة الثلاثين عاماً الإسلاموية، أنْ  تردّتْ  القـدرات السياسية  والإدارية لدى  القيادات التي يفترض أن تقود البلاد وتدير أحواله  وترعى مصالحه.  لكأنَّ الإسلامويين  كانوا على قتاعات كذوبة أنهم امتلكوا السودان ملكاً  عضوضاً خالصا لهم  إلى نهايات التاريخ .


(3)

       وللمفارقة ، فإنّ أكثر من  ضعفتْ   قدراتهم السياسية والإدارية ، هم عناصر حزب الإسلامويين  الذين سيطروا على أحوال البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة   التي تسلّطوا فيها على البلاد والعباد، حتى فاضت مياه  الثورة على أكوام ملح "الإنقـاذ"، فذاب عن آخره وسقط  الطاغية البشير ونظامه الهـالـك في أبريل 2019م .  سيطر تلاميذ الدكتور الرّاحل حسن الترابي طيلة  تلك الفترة الطويلة، على جميع مفاصل الدولة السودانية،  لكنهم لم يسلموا من  مزالق السلطة  ومغرياتها الدنيوية، فولغتْ معظم عناصرهم القيادية  في فسادٍ  ونهبٍ  وتفريطٍ  في موارد  البلاد،  واكتسبوا خلال  تلك الممارسـات، قدراتٍ  شريرة ومهاراتٍ غير مسبوقة . من بين القياديين   في ذلك النظام،  ثمّـة مَـن أنســاهم كسـبُ  الدنيا  نعـمَ الآخـرة،  تلك  التي ما فتئوا يحضّون الناس  عليها من على منابر المساجد وهم ينافقون .  وخلال هذه السنوات الطويلة  التي أمسكتْ خلالها عناصر الإسلامويون  تلك  بمفاصل السودان، كان التوقّع أنْ  تتعزّز قدراتهم  السياسية  وإمكاناتهم  الفكرية، ولعلّ أهم  توقع هو أن  تفرز تجربة ذلك النظام  قيادات  شبابية  جديدة  تتفاعل بقدراتٍ عالية مع  المستجدّاتٍ التي  طرأتْ في السّاحات الدولية والإقليمية،  مثل قضايا التنمية المستدامة   والبيئة والمناخ والتسلح النووي،  وسواها من قضايا  شغلت بال المجتمغ الدولي،  منذ  أواخر القرن العشرين وسنواته  التي تولّوا فيها بانقلابهم الإسلاموي  قيادة البلاد، وحتى العقود الأولى من الألفية الثالثة .


(4)

      رحل  الدكتور الشّيح حسن الترابي في عام 2013م، تاركاً وراءه جماعات من الإسلامويين السودانيين،  أضاعوا وقتا طويلاً  في  خلافاتٍ وانشقاقاتٍ  ومنافساتٍ ، فيما حوّلوا النظام الذي أداروه إلى ديكتاتورية  خانقة، وانشغالٍ  بالسباق الماراثوني  لجني المكاسب الشخصية  واكتناز ما طاب من موارد البلاد ومن ثرواتها. ما كان  لأزلام ذلك النّظام انشغال بقضايا البلاد ، حتى احترقت هوامشها وأطرافها  من إهمال، وتعالتْ أصواتُ تنادي بالانفصال ، وأقبلتْ البلاد إلى حالٍ  صار التشظّى فيها أقرب من الوحدة ، وأنانية الانتماء القبلي  والطائفي، أبعد من   أريحية الانتماء للوطن الأم.  ذهب جنوب السودان إلى دولة مستقلة، واشتعل الصراع  جحيماً  تجاوز المعقول في دارفور .  لم يسقط نظام الطاغية البشير، إلا  بسبب هذا الفشل الذّريع في إدارة البلاد من جهةٍ أولى، ثمّ الفشل الذّريع من جهةٍ ثانية، في إنشاء  جيل  قيادي  جديد يرتقي بالبلاد إلى مستوى التحدّيات الماثلة ، ضمن ما تواجه  البشرية  من معضلات  شائكة  في السياســة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. تردّى النظام الإسلاموي  في عثرات من صنع أباليسه،  وعندما فاضت مياه الثورة،  لم يكن لفصوص الملح إلا أن تذوب.


(5)

       رحلَ  الشيخ الترابي ، عـرّاب النظام الإسلاموي  الذي جثم على صدور السودانيين لثلاثين عاماً، غير أنه توفي  وترك  وراءه  فراغاً  تجسّـد  في ولوغ  تلاميذه الذين  خالفوه قي  نهاية عقد نظام "الانقـاذ" الإسلاموي الأول، فلم يسـلموا من مغريات السلطة والتسلّط على العباد.  ظلّ كبارهم   ملتصقين بكراسي  الحكم ، لا يكاد بعضهم  أن يفطن  لانحنـاء ظهره ولا للشيب الذي كسا شعر رأسه،  فقد تجاوز معظم تلاميذ ذلك العـرّاب، الذي علمهم  سحر الاتقلابات العسكرية،  سـنّ السبعيـن أو الثمانيـن.  ظلّ الطاغية البشير،  وقد جلس رئيسا للسودان طيلة ثلاثين عاما ولم يفلح بعض العقلاء  في حزبه السياسي في إقناعه بالعدول عن   ترشيح نفـسه  رئيساً للبلاد  للمرّة الرابعة أو الخامسة ،  وقد شارف عمره على الثمانين عاماً أو كاد.  لعلّ من حسنات ثورة الشباب السوداني  في ديسمبر من عام 2018م، أن أعادتْ الرّجل إلى وعيه بسنوات عمره تلك.  أما  حال أولئك النفر الذين أداروا البلاد  لثلاثة عقود كاملة، والذين تجري محاكمة بعضهم للمفاسـد التي ولغوا فيها ، فإنّ من يدافع عنهم من كبار المحامين السودانيين، ما فتئوا يقدّمون التقرير الطبّي وراء التقرير،  يناشدون قضاتهم أن  الرأفة وإعـفاء بعضهم من البقاء وراء القضبان، والعمل على تحويلهم للمستشفى العسكري للعلاج من أمراض الكبر والعلل المزمنة .  على أنّ النّظام  الذي استمرّ  ثلاثة عقـود كاملة  لم يفرز – ويا للأسـف-  جيلاً جديداً يتولّى إدارة أحوال البلاد ، فيذكّر  كبارهم  أنّ السّـلطة لو دامت لغيرهم لما آلتْ إليهم. إنّ من الغفلة ما يدعو للرثاء، إن لم يكن للشفقة .


(6)

      وما يدهـش حقاً، أن يسمع  السّودانيون ممّـن يُحسب تلميذاً من تلاميذ العرّاب  الرّاحل، حديثاً   ملمّحاً  فيه  عن قرب اسـتعادة "التـيار الإسلامي العريض" لمواقعه  القديمة.  رأيت ذلك القيادي  الذي تبرق  عيناه  على كرسي  العـرّاب الخالي، بشَـعـرٍ أشيبٍ ولحية  أكثر بياضاً ،  يطمع في قيادة الحركة الإسلاموية التي  عركها أهل  السودان ، وذاقوا منها  من ويلات الحكم الاستبدادي ما ذاقوا.  يعلو  صوت ذلك الإسلاموي المتحذلق عبر العديد من القنوات السودانية والإقليمية،  مستوثقا  غاية الوثوق، أن انقلاب الجنرالا ت الحاليين ،  منحهم  الفرصة لاستعادة أنفاسهم التي كتمتها ثورة الشـباب السّودانيين. إنّ أقصى طموحات أولئك الشباب، هو تصوّيبها نحو  استعادة  الديمقراطية والحريات، لا الانتقام من سدنة النظام الإسلاموي البائد.  لو بقيتْ  لرموز السياسيين   الإسلامويين  من كرامة - وقـد اقترب أكثرهم  من مراحل أرذل العمر-  فالأجـدى- ليسَ التنطّع  بالكلام عن مراجعتهم لأدائهم  المخزي خلال العقود  الثلاثة  التي تسـلّطوا  فيها على السّودان- بل أن يجنحوا لمراجعة النفس والتماس العـفـو  بعد الاعتراف بما ارتكبوا من  مخازي، والاعتذار عنها  لشعبهم الذي ظلموه.  أمّا السودانيون فقد فطروا على  التسامح وجبلوا على العفو عند المقدرة .

     لن تحتاج ثورة السودانيين لاستلهام  تجارب في المصالحة والتسامح ، بمثل ما حدث لشعوب  في جنوب أفريقيا وفي رواندا. .



الخرطوم – 2/6/2022.


jamalim@yahoo.com

 

آراء