قضايا مترجمة: قضية القاضي/ مايكل قطران ضد مجلس بلدية الخرطوم .. عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

محكمة الاستئناف (العليا)1

مجلس بلدية الخرطوم ....... مستأنف
ضد
مايكل قطران ...... مستأنف ضده

موجز وقائع الدعوى:
رفع المدعي (مايكل قطران) وهو قاضي بالمحكمة الجزئية بالخرطوم الدعوى ضد مجلس بلدية الخرطوم مطالباً الحكم له بالتعويض عما أصابه من ضرر بدني من جراء سقوطه بمصرف لمياه الأمطار بشارع 47 (العمارات).
وكان مجلس بلدية الخرطوم (المدعى عليه) قد حفر بموجب صلاحياته تحت قانون الحكم المحلي لسنة 1951 مصرفا أو قناة لتصريف المياه الأمطار على جانب الطريق العام الواقع في منطقة سكنية بالخرطوم. لم يكن المصرف مغطى وليس به إنارة أو حراسة ولكن في ليلة الحادث موضوع النزاع كان هناك نور خافت منعكس على المصرف من مكان مجاور.
جاء المدعي وهو قاضي جزئي وبعض مرافقيه بسيارة بغرض حضور حفل بالسفارة العراقية التي تقع بجوار المصرف وبسبب الزحام اضطروا إلى ايقاف العربة على بعد 150 مترا من مكان الاحتفال وترجلوا مشيا إلى مبنى السفارة. وتفاديا للزحام المروري عمد المدعي إلى أن يحيد عن الطريق المؤدي مباشرة إلى مكان الاحتفال من أجل اختصار المسافة فوقع في المصرف، نتج عن ذلك إصابته بجروح في قدمه اليسرى وتتطلب ذلك إجراء عملية جراحية له نتج عنها آلام ومعاناة مبرحة. وكشف التقرير الطبي النهائي عن عجز في القدم اليسرى بنسبة 70 %.
وجد قاضي "المحكمة الأعلى"2 the High Court بالخرطوم، مجلس بلدية الخرطوم (المدعى عليه) مسؤولا عن الضرر بسبب الاهمال والتقصير وأصدر حكما بتعويض المدعي تعويضا شاملا بمبلع 7,332.85 جنيهاً منها مبلغ 2,332.85, جنيهاً تعويضاً خاصاً ومبلغ 5,000.000 جنيهاً تعويضا عاماً. استأنف "النائب العام" عن المدعى عليه الحكم نافياً المسؤولية عن الحادث واحتياطيا يطلب مراجعة مبلغ "التعويض العام".
أيّدت محكمة الاستئناف (العليا) مسؤولية مجلس البلدية عن الضرر بسبب الاهمال والتقصير ولكنها وجدت أن المدعي لم يتخذ الاحتياط اللازم لنفسه لتفادي اهمال المجلس وطبقت مبدأ "الإهمال المشترك" وأمرت بتخفيض مبالغ التعويض المحكوم بها بنسبة 50 % هي نسبة خطأ المدعي لعدم الاحتراس.

خلاصة أسباب الحكم:
1- من ينشىء خطراً مجاوراً للطريق العام يقع عليه واجب قانوني بأخذ العناية والحذر لحماية مستخدمي الطريق العام.
2- بحفره المصرف بالقرب من الطريق العام وتركه بلا غطاء وبلا إنارة وبدون علامات دالة على وجوده يكون مجلس بلدية الخرطوم قد أخل بواجبه القانوني في أخذ العناية والحذر المعقول وبالتالي يكون مسؤولا عن الاهمال والتقصير لدى مستخدمي الطريق.
3- على مستخدم الطريق العام أخذ العناية والحذر اللازمين لتفادي اهمال وتقصير السلطات المحلية وإلا يكون قد شارك بفعله في وقوع الضرر.
4- يقدر مبلغ التعوض المستحق عن الإصابة بنسبة مشاركة كل طرف في الاهمال والتقصير الذي أدى إلى وقوع الحادث.
5- على المحاكم السودانية تقدير مبلغ التعويض عن الضرر مع مراعاة ظروف الحياة المحلية والمستوى المعيشي في السودان وليس لها أن تقتدي في ذلك بالأحكام الصادرة عن المحاكم الإنجليزية والمحاكم الأجنبية الأخرى.
6- يجوز للمحكمة الاستئنافية التدخل في مبلغ التعويض المحكوم به متى ما تبين لها أن هناك خطأ في تطبيق القانون أو أن مبلغ التعويض ضئيل إلى الحد غير المعقول أو عال إلى الحد غير المعقول.

المحامون:
السيد/ النائب العام (مهدي شريف)/ عن المستأنف
أحمد متولي العتباني/ عن المستأنف ضده

حكم محكمة الاستئناف (العليا)3
في 3 مارس 1959
القاضي/ محمد يوسف مضوي:
هذا استئناف مقدم من المدعى عليه (المستانف) ضد الحكم الذي أصدره قاضي "المحكمة الأعلى" بالخرطوم (القاضي: سوني Soni) في 28 يوليو 1958 في الدعوى التي أقامها المدعي (المستأنف ضده) وهو القاضي الجزئي بالخرطوم مايكل قطران مطالبا الحكم له بالتعويض عن الإصابات التي لحقت به بسبب وقوعه في مصرف للمياه قام بحفره المدعى عليه (المستانف).
وتتخلص وقائع الدعوى على النحو الذي خلصت إليه المحكمة الأدنى في الآتي:
نظمت السفارة العراقية بالخرطوم حفلاً في الساعة السابعة من مساء يوم الثاني من شهر مايو سنة 1957 وقد دعت السفارة للحفل المدعي واسرته: زوجته وابنته وكل من والدته ووالده توفيق قطران. يقع مبنى السفارة حيث اقيم الحفل على الجانب الشرقي من شارع 47 الممتد شرقا وغربا وهو ليس ببعيد عن نهاية شارع الجزيرة (شارع مدني/ المطار- المترجم) تحتل السفارة المنزل رقم 68 ويعرف بمنزل "كارياكوس" في الجانب الشمالي من شارع 47.
توافق اليوم الثاني من مايو 1957 وهو تاريخ إقامة الحفل، مع اليوم الثاني من شهر شوال بحسب التقويم الهجري وكان الهلال الوليد يرى بعصوبة وعلى وشك الأفول وقد أفل فعلا في الساعة 7.16 وكانت الشمس قد غربت في الساعة 6.09.
لم يكن شارع 47 مضأ وكان في منتصف الشارع على الجهة الشمالية حيث موقع السفارة العراقية، قناة أو مصرف لتصريف مياه الأمطار تبعد حافته من السفارة العراقية ما بين 4 أمتار ونصف إلى 5 أمتار، ويبلغ عرضه ما بين مترين وربع إلى مترين، وعمقه متران.
وكان المصرف مكشوفا تماما وغير مغطى وكل الشارع مسفلت والعرض الكلي للشارع تفاصيله كما يلي: على امتداد الناحية الجنوبية هناك جزء من الشارع عرضه 4 أمتار ثم يأتي جزء من الشارع عرضه ما بين 5 إلى 6 أمتار ثم يأتي جزء مسفلت عرضه 3 أمتار ثم يبدأ المصرف على جانب الشارع.
جاء المدعي وزوجته وبنته والسيد والسيدة توفيق قطران لحضور الحفل بالسفارة كانوا كلهم يركبون عربة يقودها السيد توفيق قطران والد المدعي، ووصلوا إلى تلك المنطقة حوالي الساعة 7.45 مساء.
كان هناك مدخلان إلى السفارة العراقية أحدهما من الناحية الغربية والآخر من الناحية الشرقية وقد دخل المدعي ومن معه من الناحية الشرقية. وقبل أن يقطعا مسافة طويلة في شارع 47 أوقفهم رجل بوليس تنظيم المرور وأخبرهم انه نسبة لتكدس السيارات سوف لن يتمكنوا من توقيف السيارة هناك وطلب منهم توقيفها هنا والسير مشياً إلى مبنى السفارة، ففعلوا ما طلبه منهم وتركوا السيد توفيق مطران خلفهم ليركن السيارة على بعد 150 متر من السفارة وتوجه كل من المدعي والسيدة توفيق قطران سيرا إلى مكان الحفل. ثم لحق بهم السيد توفيق قطران بعد أن ركن السيارة وكانت تسير خلفه بمسافة قريبة سيدتان.
كانوا يسيرون على مكان مسفلت وعلى جانبيه تقف سيارات مركونة تخص ضيوف السفارة. وعندما قعطوا معظم المسافة سيرا واجههم إزدحام مروري في الطريق المقابل للسفارة حيث كانت هناك شاحنتين تسير كل منهما في الاتجاه المضاد وكان هناك رجل بوليس مرور يحاول أن يفك الاختناق المروري.
وتفاديا لهذا الازدحام المروري فكر المدعي والسيدة توفيق قطران اللذان كانا يسيران ويتحدثان، في الولوج عبر المساحة الفاصلة بين سيارتين مركونتين وبعد السير لعدة أمتار قررا أن يختصرا الطريق إلى مدخل السفارة حتى لا يتأخرا أكثر عن موعد الحفل. ولما لم يسبق لهما السير في هذا الطريق ولم يكن لديهما علم بوجود مصرف المياه ظنا أنهما يسيران على أرض صلبة فما كان إلا وقد سقط المدعي فجاءة في مصرف الماء العميق.
حضر الطبيب دكتور بيومي ووجد المدعي قد أُخرج من المصرف وهو يعاني من آلام فظيعة فأخذ دكتور بيومي المدعي في سيارته إلى المستشفي حيث مكث هناك الليل كله. ومنذ صباح اليوم التالي وحتى 25 مايو ظل المدعي مقيما في بيته بالخرطوم مشلول الحركة ويقاسي الآلام الحادة ويعتمد في كل احتياجاته على زوجته ويشرف عليه طبيا دكتور بيومي.
نصح المجلس الطبي لحكومة السودان المدعي بالسفر إلى لندن في صحبة زوجته ليكون في رعاية المستشار الطبي لحكومة السودان دكتور برات. وصل المدعي لندن في 26 مايو ووضعه دكتور برات تحت عناية جراح "تقويم العظام" دكتور يونغ حيث ظل يتلقى العلاج لبعض الوقت. ثم غادر المدعي إلى مدينة ليدز التي كان يدرس فيها ابنه وفي ليدز تلقى العلاج من جراح آخر في تقويم العظام هو دكتور برومهيد.
وكانت صور الأشعة قد أخذت لقدم المدعي المصابة في كل من لندن وليدز والخرطوم وقد أخبره الجراحون بأن قدمه المصابة قد تعرضت لأذى بالغ تسبب في التهاب مفاصل مؤلم ونصحوه بضرورة إجراء عملية جراحية. وفي أثناء وجود في لندن سمع المدعي أن جراحا نمساويا يدعى بروفسيور بوهير فقرر السفر إلى هنالك حيث قابله في فينا في نهاية سبتمبر 1957 فاكد الجراح النمساوي آراء كل من دكتور يونغ ودكتور برومهيد ونصح بإجراء العملية.
وتعرف هذه العملية arthrodesis "تقويم مفاصل العظام" وهي عملية كبرى تتطلب التخلص من بعض عظام القدم وستصبح القدم بعد العملية غير قابلة للتحريك ولكن الوجع الذي تسببه التهاب مفاصل القدم سوف يزول وتظل القدم غير قابلة التحريك بصورة دائمة. ولما كان المدعي قد منح إجازة مرضية لمدة 173 يوما عاد إلى الخرطوم في أكتوبر وقرر الانتظار قبل إجراء العملية.
ذكر المدعي للمحكمة الألم والمعاناة التي يقاسيها وعدم قدرته على الحركة واعتماده في ذلك على زوجته وممرضته وعدم قدرته على المشي وفقدانه للمتعة التي كان يجدها في المشاركة في الأنشطة الاجتماعية وفقدانه الاحساس بالراحة التي كان يجدها في عمله كقاضي.
ويجدر بنا ان نذكر أن المدعي كان قد أفاد في أقواله أنه سقط على بعد 11.60 متراً من باب السفارة العراقية ولكن الرسم التخطيطي قد أوضح أن المسافة بين المصرف ومدخل السفارة تبلغ 9.40 متراً. وقد ثبت من الوقائع أن هذا الشارع أنشيء مؤخرا وان المصرف قد جرى حفره في 1952 كما ثبت أيضاً أن المصرف كان مكشوفا وغير مغطى ولا توجد به إنارة وليس لديه عتبات في حوافه. كما لم تكن هناك حواجز أو أعمدة على جنبات المجرى حيث وقع الحادث. ولكن بعد الحادث أقيمت حواجز على جوانب المجرى طليت باللون الأبيض وأقيمت على مسافات متساوية لحماية الموظفين الدبلوماسيين الذين يعيشون في تلك المنطقة باعداد كبيرة كذلك جرى تغطية المصرف للحماية من الأخطار.
كان هناك فيض من النور يغمر مبنى السفارة إذ كانت هناك لمبتان من لمبات الإضاءة المتحركة: أحدهما في الناحية اليمين إلى جهة الشرق على يسار الداخل إلى مبني السفارة والآخر على جهة اليسار في الجهة الغربية في أقصى طرف المبنى موجهة إلى حديقة النجيلة حيث يقام الحفل.
كان هناك سياج محيط بالسفارة به أضواء ملونة وكانت الناحية الغربية من مبنى السفارة هي التي تستأثر بمعظم الإضاءة على كل بوابة توجد لمبتان من الضوء الأبيض بسعة 15 واط فقط وبالناحية الشرقية من البوابة مصباحين كهربائيين بسعة 200 واط أحدهما على الجانب الشرقي من البوابة على بعد 80 سم والآخر على بعد 80 سم من البوابة موجهتين قصدا فوق المعبر المقام فوق المصرف امام مدخل السفارة وذلك بغرض إنارة المعبر وليس المصرف. لذلك كانت هناك امكانية للرؤية أمام البوابة ولكن من الصعب احتساب المدى الذي تغطيه الإضاءة، فلا أحد يستطيع تحديد ذلك".
وفيما يتعلق بحجم الإصابة والألم والمعاناة الناتجة عنها خلصت المحكمة الأدنى إلى القول:
"أثناء وجوده بالسودان وقبل السفر إلى إنجلترا كان المدعي يعاني من آلام مبرحة مما استدعى تعاطيه مسكنات للألم ولحظة سفره لم يتمكن من صعود الطائرة إلا بواسطة رافع هيدوروليك وظلت رجله في الجبس لمدة 24(يوماً) ومنذ وقوع الحادث لم يقوى على الفراش. وقد اثبت التقرير الطبي المفصَّل الذي أعده دكتور يونغ عند فحصه للمدعي في 17 مايو 1957 حول طبيعة الإصابة بأنها كسر مركب في الكعب oscalis ويشمل عظم الكعب subastragaloid ومفاصل الكعب oscalis cuboid joint.
ومضى التقرير المذكور الذي لم يتعرض عليه المجلس المدعى عليه، في وصف إصابة القدم وصفا تفصيلاً بالقول: "تظهر القدم اليسرى تورماً حول مفصل الكاحل وامتد هذا التورم إلى أعلى الرجل حتى وصل أسفل الركبة. يوجد تشوه في القدم وقد زاد عرض الكعب وأصبحت القدم كلها أكثر تسطحاً من الوضع الطبييعي ولم يعد مفصل الكعب يتحرك إلا في حدود نصف الحركة الطبيعية وأن مفصل عظم الكعب subastragaloid ليس به سوى حركة ضئيلة ولكنها مؤلمة. مفصل الكاحل الأوسط تقلص كثيراً". انتهى.
في تقديري أن السيد مايكل قطران قد تعرض لكسر خطير تضمن مفصل الكاحل الأوسط ومفصل عظم الكعب subastragaloid وهذا سوف يترتب عليه حتما عجز دائم بدرجة كبيرة مما يحتاجه إلى طرف (صناعي) وسوف لن يستطيع المشي على أرض غير مستوية ومن المحتمل جدا أن يتفاقم التهاب المفاصل فيما بعد وبالتأكيد إن هذا التفاقم قد بدأ سلفاً وذلك في ضوء الحركة المحدودة بهذه المفاصل والتشوه الذي تظهره صور الأشعة. وإن التهاب المفاصل سوف يزيد من آلامه الأمر الذي يجعل من الضروري إجراء عملية على الأرجح خلال العام القادم أو نحوه.
وهذه العملية تهدف إلى "تقويم عظام المفاصل" arthrodesis وهذا سوف يؤدي بالتاكيد إلى تخفيف آلامه ولكن على حساب فقدان هذين المفصلين القدرة الدائمة على الحركة. وقد قدر دكتور يونغ العجز بنسبة 70 – 75 % أو أكثر. ودكتور برومهيد بليدز كتب تقريرا مطابقا تقريبا لكنه قدر العجز بنسبة 65 %.
وأما بروفسور بوهلر من فيينا فقد أكد ما ورد في تقارير كل من دكتور يونغ ودكتور برومهيد وذلك بتقريره المؤرخ 10 أكتوبر 1957 وقدر العجز بنسبة 75 % على أقل تقدير". كذلك أدلى كل من السيد/ الطاهر عبد الرحمن ودكتور بيومي بافاداتهم الطيبة حول طبيعة الإصابة.
استخلصت المحكمة الأدنى من البينات واقعة أن الاصابة سوف تأثر في أداء المدعي لعمله كقاضي الآن وسوف يستمر ذلك بعد أن تجرى العلمية وربما كان التأثير أكبر بعد العملية. وعلى فرض أنه اختيار أن يعمل محاميا فإن أداءه لعمله سوف يتاثر بصورة أكبر من استمراره في العمل قاضياً. وهنا انتقدت المحكمة الإفادة التي أدلى بها دكتور بيومي وهي قوله بعد العملية :"سيكون للمدعي قدم متخشبة صالحة الاستعمال وبلا ألم".
وأضافت المحكمة أن المدعي سيجري العلمية وسيكون في قائمة المرضى المنتظرين لمدة تتراوح ما بين 4 إلى 6 أشهر. وبعد العملية سيمكث المدعي في المستشفى أو التمريض المنزلي لمدة تتراوح ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، لا تتجاوز ثلاثة أسابيع".
ثم أصدرت المحكمة الأعلى حكماً لصالح المدعي وأمرت أن يدفع له مبلغ إجمالي قدره 7,332.85 جنيهاً منها مبلغ 2,332.85, جنيهاً تعويضاً خاصاً special damages ومبلغ 5,000.000 جنيهاً تعويضا عاماً general damages عن الصدمة النفسية جراء الإصابة والآلام الجسمانية لحظة الحادث وما بعده والألم الحاضر والمتوقع عند إجراء العملية ولفقدانه القدرة على نفع نفسه ونفع الآخرين كما كان من قبل الحادث، ولاعتماده على الغير في كثير من الأحيان ولحرمانه من التمتع بمباهج الحياة.
المدعي مولود في سنة 1905 وله من العمر الآن 53 سنة وهذا يعني أنه لا يزال أمامه سنوات عديدة (دعنا نأمل ذلك) يمكنه أن ينجز فيها الكثير. وينتهي عقده مع السلطة القضائية في السودان خلال أقل من سنتين وبعدها عليه أن يبحث له عن مصدر رزق. العجز الكبير الدائم في رجله سوف يعوقه عن القيام بواجباته كمحامي على الوجه الأكمل إذا قرر العمل بالمحاماة. حياته الاجتماعية تأثرت بلا شك إلى حد كبير فهو مثلا لا يمكنه الرقص ولن يستطيع أن يتمشى مع (كلبه المحبوب) كالمعتاد كما ذُكر في إحدى القضايا الإنجليزية، وسوف لن يتمكن من المشاركة في كثير من المناشط الاجتماعية في سهولة ويسر".
لم ينازع المستأنفون في تقدير "التعويض الخاص" الذي حكم به للمدعي ولكنهم ينازعون في في مقدار "التعويض العام" وذلك بمثابة دفع احتياطي في حالة ثبت لمحكمة الاستئناف مسؤوليتهم عن الحادث.
وهكذا سردت المحكمة الأدنى وقائع الدعوى بكل جلاء واتساق ومع الأخذ بالملاحظات التي سيرد ذكرها أدناه فإننا نتفق تماما مع المحكمة في استخلاص ما توصلت إليه من وقائع.
الملاحظة الأولى تتعلق بحجم الإنارة المنبعثة من مبنى السفارة والمنعكسة على مكان وقوع الحادث. هنا نجد أن المحكمة الأدنى لم توضح هذه المسالة بما يكفي ونحن نقدر الصعوبة التي واجهتها في الفصل في هذه النقطة وذلك بسبب البينّات المتضاربة التي أدلى بها عدد من شهود الطرفين. فذاكرة المرء قصيرة ولا يستبعد وقوع أخطاء بريئة في بعض المعلومات والوقائع. ويتضح ذلك من هذا الاقتباس المأخوذ من حكم المحكمة:
"كان هناك فيض من الضوء يغمر مبنى السفارة حيث توجد لمبتين من لمبات الإضاءة المتحركة: أحدهما في الناحية اليمين إلى جهة الشرق على يسار الداخل إلى مبني السفارة والآخر على جهة اليسار في الجهة الغربية في أقصى طرف المبنى ضاربة في حديقة النجيلة حيث يقام الحفل. يوجد سياج محيط بالسفارة به أضواء ملونة وكانت الناحية الغربية من مبنى السفارة هي التي تستأثر بمعظم الإضاءة. يوجد بالبوابة مصباحين بضوء أبيض سعة كل منهما 15 واط فقط. يوجد مصباحان كهربائيان بضوء أبيض سعة 200 واط أحدهما على الجانب الشرقي من البوابة، أحدهما على بعد 80 سم من البوابة والآخر على بعد 80 سم تم توجيهما مباشرة ناحية المعبر/ الجسر الذي فوق المصرف المائي، والغرض منهما إنارة الجسر وليس المصرف".
هذه الفقرة المقتبسة من الحكم المستانف تعطي صورة واضحة للإنارة المتوفرة داخل وخارج مدخل السفارة. هذا العدد من اللمبات الكهربائية البيضاء والملونة إضافة إلى لمبتين متحركتين (دع كونهما بالداخل) ووجود لمبتين سعة 200 واط ولمبتين اخريين بسعة 15 واط كلها موضوعة على بوابة السفارة، قادرة على إنارة مساحة كبيرة من الموقع وخاصة مكان وقوع الحادث الذي يبعد 10 أمتار من اللمبات الكبيرة والجسر/ المعبر الذي ذُكر أن الإضاءة كانت متركزة فيه.
ونحن نرى من باب العلم العام بطبيعة الأشياء أن للضوء خاصية الانتشار بكل سهولة بحيث يضيء مساحات لم يقصد في الأصل ان تكون مضاءة. بعبارة أخرى يمكنا القول بصورة عامة انه لا يمكن حبس الضوء وتركيزه على شيء واحد واستبعاد أشياء بعينها عنه. وفي هذه الدعوى حتى لو قصدت السفارة ان تسلط الضوء على الجسر المؤدي إلى المدخل فقط فإنها لا تسطيع أرادت ذلك أم لم ترد ان اتمنع تسرب الضوء وسقوطه على المساحات القريبة قرب معقول من المكان الذي قصدت ان تسلط عليه الضوء. لذا فمن الواضح لدينا أنه كان هناك ضوء ينير مكان وقوع الحادث بحيث يمكن أن يعطي إشارة على وجود "المضبات" التي تبطيء حركة السير أمام السفارة، وذلك على النحو الذي وصفه محامي المدعي.
الملاحظة الأخرى المتعلقة بالوقائع المستخلصة من قبل المحكمة هي ما إذا كانت الإصابة تأثر على قدرة المدعي للعمل كقاضي أو محامي. تقول المحكمة الأدنى في هذا السياق:
"برغم من أن قدرة المدعي في أداء عمله الآن كقاضي سوف تتأثر وسوف يستمر هذا التأثير فيما بعد بدرجة أكبر بعد العملية. ولكن لو قرر أن يعمل كمحامي فإن التأثير على قدرته لأداء عمله سوف يكون أكبر من استمراره في عمله كقاضي".
هذا ما تقوله المحكمة الأدنى. ولكن من واقع الخبرة العامة ومن فحص التقارير الطبية التي صدرت عن عدد من الأطباء الذين استمعت إليهم المحكمة، يمكنا القول إذا حدث أن تأثر عمل المدعي بسبب الإصابة فان ذلك التاثير سوف يكون ضئيلا ويجوز التغاضي عنه ويجب ألا يثير قلق هذه المحكمة. وذلك لأن إن طبيعة عمل القضاة والمحامين (لا نقول ذلك بأي دافع عاطفي) تعتمد إلى حد كبير على اللسان وعلى الفطنة والحصافة wit فإذا لم تتأثر هذه، فلا يجوز القول إن القاضي أو المحامي قد أصبح معوقا بدرجة كبيرة.
كذلك وجهت المحكمة الأدني انتقادا للشهادة التي أدلى بها دكتور بيومي لقوله إن المدعي بعد العملية ستكون له "قدم متخشبة لا تحس بالألم وصالحة للاستعمال". ونجن نرى ان هذا النقد غير منصف. فالسيد النائب العام قد أوضح لنا دلالة هذه الكلمات بما يكفي. فالقدم قد تصير متخشبة ولكنها تظل صالحة للمشي.
كذلك لم تضع المحكمة الأدنى تقديرا محددا لنسبة العجز بالرغم من أنها استدلت بآراء عدد من الأطباء. ونحن نرى انه يمكن تقدير نسبة العجز بالموازنة بين أراء كل من دكتور يونغ ودكتور برومهيد لنخلص إلى تحديد نسبة العجر بـ 70 %.
والآن بعد أن قمنا بسرد الوقائع وتقويمها، نأتي لمناقشة المسائل القانونية. والنقاط القانونية التي سوف نفصل في هذه الدعوى على ضوئها، هي كما يلي:
هل المدعى عليه مسؤول عن الاهمال والتقصير الذي تسبب في الضرر؟
إذا كان ذلك كذلك، هل ساهم المدعي في الاهمال الذي نتج عنه الضرر؟ وما هو مقدار أو درجة مشاركة المدعي في هذا الاهمال والتقصير؟
نبدأ أولا بالنظر في النقاط الأولية التي أثارها محامي المدعى عليه. أولى هذه النقاط هي محاولة المحامي إثبات أن المصرف المائي ليس جزءا من الشارع ولكي يدلل على هذه المسألة استشهد بسابقتين قضائيتين هما:
Hanscombe v. Bedfordshire County Council (1938) 1 Ch. 944 وقضية:
Cornwell v. Metropolitan Commissioners of Sewers (1855)
10 Exch. 771.
وبالمقابل حاول محامي المدعي أن يثبت العكس فأرود عددا من السوابق القضائية من بينها قضية:
Attorney-General v. Roe (1915) 1 Ch. 235
وقضية: Barnes v. Ward (`850) 9 C. B. 392
وقضية Hadley v. Taylor (1865) L. R. 1 C. P. 53
معظم هذه السوابق القضائية غير منتجة من وجهة نظرنا، ولا تصب في المسالة. والأكثر من ذلك أن هذه النقطة القانونية غير مهمة في الفصل في هذه الدعوى. ذلك أن الإجابة على السؤال عما إذا كان المصرف جزءا من الشارع أم لم يكن، لا يغير في الموقف شيئاً في كل الأحوال. وهنا لا يسعنا إلا التعبير عن استغرابنا للجهد والوقت الذي بُذل من قبل المحكمة ومحاميّ الطرفين في سبيل الإجابة على هذا السؤال.
إن وجود المصرف محاذيا ومجاورا للطريق العام خطر في حد ذاته، ولا يجوز للطرف المنشيء لهذا الخطر أن يبرىء نفسه من المسؤولية بمحاولة إثبات أن المصرف ليس جزءاً من الشارع العام خاصة في هذه الدعوى، ما لم يُدفع بالتعدي.
ففي قضية: Barnes v. Ward قام مالك أرض متاخمة لممر عام لعبور المشاة بحفر فيها بغرض إنشاء منزلا، وترك الأرض المحفورة من غير سياج، وأثناء عبور أحد المشاة الطريق سقط في الحفرة ولقي حتفه. قضت المحاكم بمسؤولية مالك الأرض.
وفي قضية: Attorney-General v. Roe ذكر القاضي "ساغرانت" في أسباب الحكم الذي أصدره بمسؤولية المالك: "من الواضح أن هناك التزاما تفرضه مبادىء القانون العام على الحائز بتسوير الحُفَر الخطرة التي تقع على جانب الطريق العام سواء كانت حُفِرت قبل أو بعد حيازته للأرض".
وقد لخص البروفسور "دِين وليم" عميد كلية القانون بجامعة كالفورنيا في مؤلفه الكلاسيكي On Tort "في المسؤولية التقصيرية" ص 429:
"لقد جرى توسيع حق مستعمل الطريق العام ليشمل أولئك الذين ينحرفون عن المسار لبضع أقدام عن جادة الطريق بدون تعمد المخاطرة سواء كان ذلك في الحالات الطارئة أو عن قصد بسبب عارض تفرضه ظروف السفر".
وقبل مغادرة هذه النقطة يجدر بنا أن نتوقف عند الفقرة الحصيفة التي وردت بمرافعة محامي المدعي وهي قوله:
"لا يجوز للمدعى عليه أن يكسب هذه النقطة لصالحه في الحالين معا. فإما أن يكون مصرف المياه جزءاً من الطريق العام وفي هذه الحالة يكون قد خسر حجته، أو أنه ليس جزءاً من الطريق العام وبذلك يكون قد أثبت مسؤوليته كون المصرف مقام بجانب الطريق".
ولما كان ذلك، فإننا نرى أنه لا يوجد سبب يستدعي محاولة الإجابة على السؤال: هل المصرف جزءاً من الشارع العام ام ليس جزءا منه، نترك هذا السؤال مفتوحاً.
كذلك دفع المدعى عليهم بالمبدأ الذي أرسته السابقة القضية:
Fisher v. Prowse (1862) 121 E. R. 1258.
في هذه القضية كان المدعى عليه يملك بيتاً مجاوراً للطريق العام إلى "ديبتفورد". وكان بالمنزل قبو تحت الأرض ويفتح مدخل القبو في منطقة عبور المشاة وله باب يفتح بالنهار ويغلق بالليل بلسان أو رفرف يبدو بارزا بعض الشيء على امتداد ممر المشاة. أوجد القبو بحالته قبل أن تبدأ علاقة المدعى عليه بالمنزل وظل الرفرف في حالته الموصوفة منذ فترة طويلة حتى لا يستطيع أحد تذكر تاريخ وجوده لأول مرة.
أثناء عبور المدعي ليلاً بممر المشاة تعثر على رفرف (باب) القبو وأصيب بجروح. قررت المحكمة انه على المحلفين استخلاص أن رفرف القبو قديم قِدم الشارع نفسه وان التنازل عن الممر للجمهور مشروط ضمنياً باستمرار وجود رفرف القبو في مكانه. ولما كان ذلك فإن المدعى عليه غير مسؤول عن الحادث لأن الاحتفاظ برفرف القبو القديم لا يعد عملا غير مشروع.
وكان السادة القضاة في هذه القضية قد صاغوا في جلستهم المشتركة in Banc هذا المبدأ الذي أرسته هذه السابقة القضائية على النحو التالي:
"الأصل في القانون هو إذا أوجد أي شيء بعد تشييد الطريق وقريباً منه بحيث يجعل استعمال الطريق خطرا، فإنه يعد عملا غير مشروع، ويشكل إزعاجا عاما. ولكن السؤال هو إذا وجدت الإنشاءات والحفريات قبل تشييد الطريق ولم تكن وقتها عملا غير مشروع، فهل ستصبح عملا غير مشروع إذا أصبحت الإنشاءات والحفريات تشكل عائقا أمام استخدام الطريق على نحو مريح وآمن، أم أن الصحيح هو منح المالك حق استعمال الطريق للجمهور يجب أن يؤخذ بالحالة التي كانت تسير عليها الأمور واعتبار أن الجمهور قد قبِل استخدام الطريق بهذه الحالة التي من المحتمل أن تتسبب في مخاطر. في رأينا أن وجهة النظر الأخيرة هي التي تمثل صحيح القانون".
"فإذا منح المالك أرضا لتستعمل طريقا لكافة الجمهور وذلك تحت ظروف بعينها وبشروط وتحفظات محددة وقبل الجمهور بهذه الشروط والتحفظات، فإن إلزام الجمهور بهذه الشروط سوف لن يكون مجافيا للعدالة. وسيقع الظلم والمشقة على مالك الأرض لا محالة إذا طُلب منه بعد منحه الطريق للجمهور، أن يغير في الأوضاع التي كانت علي الأرض على نحو يضر بمصلحته ويسبب له الخسارة أو طلب منه أن يقدم المزيد من التنازلات للجمهور بما يتنافي مع قصده الأصلي من منح حق الطريق". انتهى.
ولكي نضع هذا المبدأ القانوني في منظوره الصحيح يجب علينا الإلمام بالخلفية التاريخية لإنشاء الطرق في بريطانيا.
بدأ ظهور الطرق في بريطانيا في الزمان القديم عن طريق المِنح التي يقدمها ملاك الأراضي وذلك بأن يقوم مالك الأرض الإقطاعي أو أي مالك آخر بأن يمنح dedicate جزءاً من أرضه لتستعمل طريقا عاما لكافة الجمهور. وكان المَلِك بصفته المالك الأعظم للأرض يقوم في بعض الأحيان بمنح رعاياه مثل هذه الهبات لكي تستعمل طرقات عامة.
وفي تلك الأيام الخوالي لم يكن هنالك حد فاصل بين ملكية الدولة والملكية الخاصة تحت التاج الملكي فكلها تعد مِلك خاص بالمَلك.
ومثل هذه المنحة تقوم على إيجاب وقبول. بمعنى أن يهب المالك أرضه للجمهور وللجمهور الحرية في قبول أو رفض هذه المنحة. فإذا قبل الجمهور المنحة فيكون حق المرور عبر الأرض مكفولاً لكل رعايا المَلِك، مع مراعاة أي تحفظات أو قيود يضعها المانح.
ومهما يكن من أمر، فإنه بعد زيادة عدد السكان والتوسع في المدن أخذت الدولة مسألة إنشاء الطرق مأخذ جدي فأصدرت التشريعات والقوانين المنظمة لتشييد الطرق والشوارع العامة واعطت هذه القوانين سطات الطرق والسلطات المحلية والحكومية الحق في إنشاء الطرق والمحافظة عليها وتخصيص الأموال العامة من أجل ذلك. هذه خطوط عامة توضح الكيفية التي أوجدت بها الطرق في بريطانيا.
مع أخذ هذه الخلفية التاريخية في الاعتبار نرى أن المبدأ الذي أرسته سابقة قضية: Fisher v. Prowse يجب أن يكون نطاق تطبيقه محدوداً ولا يتعدى الحالات التي يهب فيها الأفراد جزء من أراضيهم لعامة الشعب لكي تستخدم طرق عامة ولهؤلاء الأفراد المانحين كامل الحق في تحديد الطريقة التي يجب أن يستخدم بها الطريق مع الحق في وضع كل القيود والتحفظات التي يرونها مناسبة.
فإذا قَبِل الجمهور هذه المنحة فيجب أن يقبلها بكل حسناتها وسيئاتها. ويجب ان يظل الوضع الراهن الذي منح فيه حق استعمال الطريق كما هو في تاريخ القبول فلا يسمع مثلا من الجمهور فيما بعد الشكوي من أي عائق كان موجودا وقت المنح. ولكن المانح سيكون بالتاكيد مسؤول إذا ما قام في أي وقت لاحق بوضع المزيد من العراقيل على الطريق أدت إلى أن تسوء حالته التي كان عليها قبل المنح. وهكذا لا يوجد إلزام للجمهور بقبول حق استخدام الطريق فلهم كل الحق في رفض المنحة إذا لم تكن تناسب حاجتهم للطريق.
نرى أن هذا المبدأ لو أخذ في سياقه الصحيح يبدو منطقيا وعادلا جدا بالنسبة للشخص الذي يتنازل عن جزء من حقوقه للجمهور بدوافع البر والاحسان أو غيرها. وليس من العدل في شيء أن يقبل الجمهور الطريق بالحالة التي منح بها ثم يكون له في نفس الوقت حق التقاضي إذا اصيب بسبب عيب كان موجوداً بالطريق في تاريخ المنح، وإلا فأن الأمر سيبدو كالذي يريد أكل قطعة الخبز والاحتفاظ بها في نفس الوقت.
علاوة على ذلك كانت المحاكم الانجليزية ملزمة في مثل هذه الحالة بحماية المالك المانح، وإلا فان حركة إنشاء الطرق سوف تتوقف حيث يجد ملاك الأراضي من الأفضل لهم الامتناع عن هذه الممارسة إذا كان من شأنها أن تسبب لهم في النهاية المتاعب وتقودهم إلى ساحات التقاضي.
ولكن ليس من العدل والانصاف السماح للحكومات المحلية، التي يفوضها البرلمان سلطة إنشاء الطرق والمحافظة عليها لمصلحة الجمهور، أن تستخدم المبدأ الذي أرسته سابقة: Fisher v. Prowse كرخصة لإداء واجباتهم التشريعية على بطريقة تنطوي على الاهمال الذي يلحق الأضرار بمستخدمي الطريق العام. هذا لن يكون مقبولاً مطلقا.
هناك فقرة وردت في الحكم الصادر في قضية: Baxter v. Stockton-on-Tees Corporation (1958) 2 All E. R. 675. لفت نظرنا إليها محامي المدعي يمكن أن تلقي مزيدا من الضوء على هذه النقطة القانونية. يقول اللورد جنكينز في الحكم الذي صدر per curiam بالاجماع عن مجلس اللوردات:
"يجب أن يكون واضحاً أنه إذا قامت مصلحة الطرق بموجب السلطة القانونية التي فوضتها فيها الوزارة عملا بنص المادة 10 من قانون (إنشاء وترقية الطرق لسنة 1909) بإنشاء طريق جديد من المال العام وبعد اكتمال الطريق قامت بفتحه لاستعمال الجمهور فلا يسمح مطلقا إثارة مسالة منح dedication الطريق للجمهور من قبل مصلحة الطرق بأي معنى من المعاني. إن مصلحة الطرق عندما تمارس سلطتها المفوضة لها من قبل القانون التشريعي في إنشاء طريق ما، فإن هذا الطريق ليس شيئا سوى أنه منذ البداية وحتى النهاية طريقاً عاماً وأوجد بهذه الكيفية ولهذه الغاية. ولذلك نرى أن الحصانة الممنوحة لمالك الأرض ملكية خاصة والذي يقوم بمنحها لكي تستعمل طريقا عاما لا تسري في حق مصلحة الطرق، بل على العكس من ذلك، فمصلحة الطرق عندما تقوم بإنشاء طريق بموجب صلاحياتها القانونية فهي ملزمة بأخذ الحيطة والحذر إلى أقصى درجة". انتهى.
وفي ضوء ذلك نرفض هذا الدفاع رفضا باتا ونقضي بأنه لا مكان لتطبيق المبدأ الذي أرسته سابقة قضية: Fisher v. Prowse في حق مصلحة الطرق. الحقيقة سنكون قد تجنينا على قواعد المنطق والانصاف والحس المشترك العام إذا قضينا بغير ذلك.
كذلك لفت السيد العالِم/ النائب العام نظرنا إلى قضية:
Morgan v. Leach (1842) 10 M. & W. 558.
وتتعلق هذه القضية بقانون الطرق العامة لسنة 1835 وقضت المحكمة في هذه القضية أنه لا يجوز الحكم بإدانة المهندس المسّاح لفشله في الانصياع لأمر قضائي تحت المادة 73 من القانون بإزالة العذرة ووضع سياج حول إحدى الحفر المجاورة للشارع العام.
ونحن نرى أن هذه القضية غير منتجة not relevant في الدعوى الماثلة كونها قضية جنائية ولأنها تتعلق بالجداول والمصارف ذات النمط العتيق.
أيضا دفع النائب العام بمبدأ de minimis non curat lex أي على فرض ان وجود المصرف بحالته يشكل خطرا فإنه "خطرٌ طفيفٌ لا يعتد به". وعزز وجهة النظر هذه بايراد اقتباس من دفاع النائب العام في قضية: Attorney-General v. Wilcox (1938) 1 Ch. 934 حيث جاء: "هذا خطا فني بسيط ولا يؤثر بشكل ملحوظ على مستخدمي الطريق العام".
هذه الحجة مرفوضة كلية من جانبنا. فنحن لا نستطيع تخيّل كيف يمكن أن يقال عن مصرف غير مضأ وغير مغطى وبعرض مترين ونصف وعمق مترين وملاصق للشارع العام أنه لا يشكل خطراً يُذكر وأنه لا دخل له بالشارع العام وليس جزءا منه. يجب ألا نضيّع الوقت في مثل هذه المناقشة.
والآن نأتي لمناقشة أهم دفاع في الدفوع التي تقدم بها النائب العام وهو قوله إن مجلس البلدية غير مسؤول لأن حفر مصارف المياه يقع في صميم صلاحياته الممنوحة له بالقانون. في رأينا أن القاعدة العامة بالنسبة للسطة الممنوحة بموجب القانون للقيام بفعل وكان هذا الفعل غير مشروع قبل التفويض القانوني، فإن هذا التفويض القانوني للقيام بهذا الفعل يعد دفاعا صحيحا ولا يجوز لأحد المطالبة بالتعويض إذا لحقه أذى أو ضرر نتيجة لتنفيذ الفعل الذي خوّله له القانون .
ولكن يجب ان يكون واضحا منذ البداية، إن هذا الدفاع مشروط بالمبدأ الذي يفرضه القانون العام وهو أن الشخص الذي فوضه القانون بأداء عمل يجب أن يؤدي هذا العمل بكل العناية والمهارة اللازمين، إلا إذا تبث أن الضرر لا يمكن تفاديه وانه سيقع لا محالة برغم ما بذَّله من عناية معقولة. في هذه الحالة فقط يمكن للسلطة المخولة أن تعفي نفسها من المسؤولية لأن المشرع عندما فوضها في القيام بهذا العمل يفترض ضمناً أنه فوضها أيضا في النتائج التي لا يمكن تفاديها وإلا فان السلطات الممنوحة للقيام بهذا العمل لن تنتج الأثر المطلوب.
وعلى المحاكم في مثل هذه الحالات تفسير القانون او التشريع المعين statute بغرض استخلاص قصد المشرع. على المحكمة أن تستخلص ما إذا كان المشرع قد قصد منح الجهة المخولة حق الحصانة ضد كل أنواع الأضرار والخسائر الناجمة عن الفعل المصرح به، أم قصد أن تكون سلطة القيام بالعمل مشروطة بمراعاة العناية والمهارة المعقولة في تنفيذه.
مع ضرورة أن تأخذ المحكمة في الاعتبار دائما وهي تقوم بذك الفرضية الراسخة أن مباديء القانون العام common law يندر أن يعلى عليها، أو تصادر بمبادىء ثانوية.
ويمكن القول بصورة عامة هناك عدة وسائل لأداء وتنفيذ العمل الذي يفوضه القانون، بشرط أن تتخذ في تنفيذه الوسائل الآمنة فقط. ولكن إذا كانت هناك بحكم الظروف وسيلة واحدة فقط للقيام بهذا العمل وكانت هذه الطريقة تنطوي على خطر لا يمكن تفاديه، ففي هذا الحالة يكون قصد المشرع واضح، ويكون الخطر سواء كان معقولا أو غير معقول عملا مشروعاً.
ويدعم أخذنا بهذه المبادىء عدد من القضايا الإنجليزية تبدأ منذ القرن التاسع عشر وعلى رأس هذه القضايا قضية:
Geddis v. Proprietors of Bann Reservoir (1878) 3 App. Cas. 430. التي صدر فيها الحكم عن مجلس اللوردات في سنة 1878 حيث يقول لورد هارثيلي ص 450:
"فهمي للتفسير الصحيح لكل هذه الصلاحيات الممنوحة للشركات هو: عليك أن تنجز العمل بأقصى مدى ممكن وفي بعض الأحيان يجب عليك أن تنجزه بالمدى الذي يحدده القانون، ولكن لا يجوز لك بأية حال أن تنجزه بطريقة ينتج عنها ضرر غير لازم للغير. يجب عليك أن تتخذ كل الاحتياطات اللازمة ضد وقوع أي ضرر للآخرين، أن تتخذ ذات الاحتياطات التي تتخذها لحماية نفسك عند تنفيذ نفس العمل. وإذا وقع منك ضرر أثناء انجازك للعمل فإن رأي القانون هو أن ممارستك للسلطة المخولة لك يجب أن تكون بهدف منع أي ضرر للغير".
ويدلي لورد "سيلبورن" برأيه في ذات القضية بقوله ص 452:
"من الواضح فيما أرى إذا فوض البرلمان السلطة للمدعى عليهم في نقل المياه من النهر عبر هذه القناة تحديدا مع القيام بكل ما هو ضروري وملائم لنقل المياه وتنظيم توزيعها، فإن هذه السلطة لا تعطيهم الحق في التسبب في غمر أراضي الملاك المجاورة ما لم يكون قد أصبح من المستحيل عليهم تفادي ذلك بالوسائل المعقولة والملائمة التي تخولها لهم السلطة التي منحها لهم القانون. ولا أظن أنني في حاجة إلى الاستشهاد على هذا الرأي بأي مصدر قانوني أو سابقة قضائية ولكن يمكنني القول إن وجهة النظر القانونية هذه تتسق مع كل السوابق القضائية التي اُستدل بها وتستند تماماً إلى الموجبات التي يمليها المنطق والعدالة والقانون".
وأما القاضي لورد "بلاكبيرن" فقد أكد على نفس المبدأ القانوني بقوله ، ص 454:
"بدون حاجة للاستدلال بسوابق قضائية استطيع أن أكد أنه من المقرر قانوناً على نحو راسخ، أنه لا يوجد حق في التقاضي ضد عمل خوّله المشرِّع متى ما اُنجز هذا العمل بدون إهمال وتقصير حتى ولو تسبب عرضاً في ضرر للغير. ولكن بالمقابل كفل المشرِّع حق التقاضي ضد العمل المصرح به إذا جرى تنفيذه بإهمال".
وأما القضية الثانية فهي قضية:
Metropolitan Asylum District v. Hill (1881) 6 App. Cas. 193.
والتي صدر الحكم فيها عن مجلس اللوردات أيضاً في سنة 1881. وتتلخص وقائع هذه القضية في الآتي:
أعطى قانون (فقراء المدن لسنة 1867) الحق في تكوين مناطق إيواء وملاجيء لرعاية وعلاج المرضى والمعوقين وانشاء هيئات لهذا الغرض ومنح مجلس الفقراء السلطة في إصدار توجيهات لهذه الهيئات بشراء الأرض وإنشاء المباني لأغراض القانون. ولكن القانون لم يحدد بنصوص مباشرة وحاسمة النظام الذي على أساسه يتم تنفيذ هذه الأشياء. قامت السلطة المعنية بإنشاء مستشفى بهامستيد لاستقبال الأشخاص الذين يعانون من مرض الجدري وأمراض أخرى معدية.
رفع السير "رولاند هِل" واثنين من الأعيان الذين يقيمون بهامستيد ولهم فيها عقارات رفعوا دعوى أدعوا فيها أن المستشفى قد أقيم بجوار ممتلكاتهم العقارية وهذا يعد إزعاجا. وتضمن دفاع المدعى عليهم، ضمن أشياء أخرى، أنه حتى ولو ثبت أن المستشفى سبّب إزعاجا للمدعين بصفتهم ملاك ومقيمين لعقارات مجاورة فإن المشرِّع قد قرر حرمانهم من الحق في التقاضي ضد هذا الإزعاج.
ولعله من المثير للاهتمام ملاحظة أن الدفاع المثار هنا هو نفسه الدفاع الذي تقدم به النائب العام في الدعوى الماثلة في السودان. غير أن المحكمة في القضية الإنجليزية قد رفضت الدفع وقضت بأنه لا يجوز لمجلس المنطقة للفقراء، الاستناد إلى التشريع البرلماني ولوائح قانون الفقراء الصادرة بموجبه بغرض الحيلولة دون صدور أمر منع للمجلس من الاستمرار في الإزعاج.
يقول القاضي لورد "بلاكبيرن" في الحكم الصادر عن مجلس اللوردات ص 208:
"ولكن السؤال هو كما أراه هل هناك دليل على أن قصد المشرع هو تفويض الجهة المخولة بناء الملاجيء العلاجية حتى في الأماكن التي يمكن أن تسبب فيها إزعاجاً للملاك المجاورين إذا رأى (مجلس الفقراء) أن وجود الملجأ في هذه المنطقة لا يشكل إزعاجا للجيران أو رأى أنه لا يوجد مكان آخر أنسب لإقامة الملجأ دون التسبب في إعاج أكبر. وعبء الإثبات يقع على الطرف الذي يدعي أن نية المشرِّع قد انصرفت إلى سلب الحقوق الخاصة للأفراد، عليه أن يثبت هذه النية إما بعبارات صريحة أو بالتضمين الضروري واللازم. وأرى أن وزن الحجة المقدمة في الإجابة على هذا السؤال ليس في صالح هذا التضمين".
ويشرح القاضي لورد "واتسون" هذا المبدأ القانوني بصورة أكثر جلاءً بقوله ص 212:
"لا أعتقد أنه يجوز أن نحكم بأن المشرِّع قد صادق على وقوع الإزعاج بالمخالفة لمبادىء القانون العام، إلا في الحالة التي يصادق فيها على استعمال مبنى محدد في موقع محدد يتعذر استغلاله للغرض المطلوب بدون وقوع إزعاج، أو أن يكون واضحا منذ البداية أن النص التشريعي جاء في صيغة آمرة imperatively بالإنشاء في منطقة محددة ومن واقع الخطة والموقع أن الإزعاج نتيجة حتمية. في هذه الدعوى على المدعى عليهم إثبات مسألتين: الأولى أن يكون النص التشريعي آمر. والثاني أن يصبح من المستحيل عليهم تنفيذ النص التشريعي الآمر بدون انتهاك الحقوق الخاصة للأفراد. فإذا كان تنفيذ الأوامر التشريعية ممكناً بدون التسبب في إزعاج للغير، فإني أرى أنهم لا يجوز لهم في هذه الحالة الدفع بالحماية القانونية، وأما إذا لم تكن نصوص التشريع آمرة imperative ولكنها جوازية permissive وتركت للأشخاص المفوضين السلطة التقديرية للتقرير في شان المكان المناسب للتنفيذ. ولذلك أخلص إلى أنه من الانصاف القول إن المشرع قصد إلى أن تُمارس السلطة التقديرية الممنوحة مع الالتزام الصارم بحقوق الأفراد وممتلكاتهم، ولم يقصد أن يكون هذا التفويض التشريعي بمثابة رخصة للبناء في أي موقع يختارونه". انتهى.
وفي تقديرنا أن الأحكام الصادرة في هاتين القضيتين قد بسطت المبادىء القانونية الواجب اتباعها بصورة جلية وأكثر وثوقاً وبدون أي غموض. وقد جرى اتباع هذه الأحكام من قبل قضاة بارزين في الأحكام الصادرة في كل من قضية:
McClelland v. Manchester (1912) 1 K.B. 118
وقضية: Morrison v. Sheffield Corporation (1917) 2 K. B. 866
وقضية: Fisher v. Ruislip U.D.C. (1945) 2 All E.R. 458 (انظر الحكم المؤسس تأسيساً متيناً الذي صاغه لورد قرين في هذه القضية).
غير أن السيد النائب العام قد لفت انتباهنا إلى عدد من القضايا التي يرى من وجهة نظره أنها قد قضت على المبدأ الذي أرسته السابقة القضائية المذكور آنفاً:
Geddis v. Proprietors of Bann Reservoir
وأولى هذه القضايا التي استند إليها السيد النائب العام للتدليل على زعمه هي قضية:
Great Centeral Railway Company v. Hewlett (1916) 2 A.C. 511.
هذه القضية في رأينا لا تضيف جديدا إلى القانون. فهي تقرر فقط أنه إذا كانت المخالفة أو الخطأ قد أوجد قبل صدور تشريع من البرلمان، فإن صدور هذا التشريع ينفي عنه صفة الخطأ والمخالفة القانونية. وهذا أمر مفهوم جدا من وجهة نظر القانون.
إن الركائز والبوابة في هذه القضية كانت موضوعة من قبل شركة السكك الحديد على نحو خاطيء في الطريق العام. وفي سنة 1901 صدر حكم قضائي بأنها تشكل عائقا. ولكن شركة السكة الحديد نجحت فيما في الحصول على تشريع من البرلمان يجيز وضع الركائز على البوابة وبالنتيجة أصبح من حق الشركة الاحتفاظ بها كما هي وبنفس الطريقة التي وضعت بها وفي ذات المكان وبدون إضاءة وحراسة. وهذه القضية مثال ساطع على إعطاء البرلمان ترخيص مطلق للشركة.
كذلك أشار النائب العام إلى أن التشريع البرلماني في قضية: Morrison v. Sheffield Corporation قد نص صراحة على ان السلطات الممنوحة يجب أن تمارس مع مراعاة الحقوق الخاصة للأفراد. وما الخطأ في ذلك؟
فهذا لا يعني أكثر من أن المشرع أراد التأكيد على أنه يهدف إلى تضمين قاعدة من قواعد "القانون العام" في القانون التشريعي. أرجو ألا يكون المطلوب منّا الاعتقاد في أنه إذا تضمّن التشريع البرلماني مبدأ من مبادىء القانون العام، فهذا يعني أنه لا يجوز تطبيق هذا المبدأ ما لم يُنص عليه في القانون التشريعي. إذا كان النائب العام يهدف إلى ذلك، فإننا لا نتفق معه البتة.
كذلك استدل "النائب العام" بثلاثة قضايا مثيرة للانتباه وهي قضية: Wodehouse v. Levy (1940) 2 K. B. 561 وقضية: Lyus v. Stepney Borough Council (1941) 1 K. B. وقضية: Newcastle-upon-Tyne Corporation (1941) 2 K. B. 120>
وقد جرى الفصل في هذه القضايا الإنجليزية من قِبل محكمة الاستئناف سنة 1940 وسنة 1941 وقد قضت محكمة الاستئناف في القضايا الثلاث برفض تأييد قضاء المحاكم الأدنى التي أخذت بالمبدأ الذي أرسته سابقة: Geddis case
ولكن يجب ملاحظة أن القضايا الثلاث قد نُظر فيها من قِبل محكمة الاستئناف في السنوات الأولى من الحرب (19140-1941) عندما كانت بريطانيا تعيش أمرّ تجربة حربية في تاريخها وكانت الإظلام الكامل blackout تعني الكثير لتحديد مصير بريطانيا في الوجود، حيث كان سلاح الجو الألماني يوجه ضرباته الجوية للمدن البريطانية على نحو لم تشهده البشرية من قبل. وكل هذه القضايا الثلاث تتعلق بإخلال هذه الشركات بواجبها في إضاءة الطرق العامة في ظل هذه الظروف. وسوف نتناول مناقشة الأحكام الصادرة في هذه القضايا الواحدة تلو الأخرى.
ففي قضية: Wodehouse v. Levy أصيب طفل في ليلة الأول من سبتمبر سنة 1939 بينما كان مسافرا على متن عربة تاكسي يقودها المدعى عليه بيير ومملوكة للمدعى عليه ليفي. اصدمت عربة التاكسي في منتصف الطريق بعمود شدّ بناء لأحد الملاجىء لم تكن به إنارة. وكان الملجأ قد أقيم من قبل مجلس مدينة سانت ميرلبون براو، بموجب السلطة الممنوحة له بقانون إدارة المدن لسنة 1855. وكان واجب إنارة الشارع يقع أصلا على عاتق مجلس المدينة بموجب نص المادة 130 من القانون المذكور.
غير أن أمر تقييد الإنارة رقم 1098 لسنة 1939 والذي دخل حيز التنفيذ في الأول من سبتمبر لسنة 1939 قد نص على انه مع مرعاة ما سوف يرد ذكره، لا يجوز لأي شخص ان يستعمل أي مصدر للإضاءة في ساعات الإظلام، ولا يشمل هذا المنع العام لمبات الإضاءة التي توضع على الطرق عند النقاط التي توجد بها عوائق في خط سير الناقلات على أي شارع، بشرط ألا تتجاوز قوة هذه اللمبات1.0 شمعة، ويجب أن تكون هذه اللمبات مغلفة حتى لا تسمح للضوء بالانتشار إلى الأعلى.
قرر كل قضاة محكمة الاستئناف: لورد ماك نيون، ولورد لوكس مور، ولورد قودارد بالاجماع بأن السلطات المحلية غير مسؤولية عن الحادث. ويمكنا أن نلخص أسباب قرار محكمة الاسنئاف في الآتي:
1- للسلطات المحلية الحق في وضع الملجأ في منتصف الطريق العام وإن أي التزام عليها بإضاءة الملجأ يجب أن يستمد من القانون التشريعي وإلا فإنها غير ملزمة.
2- على فرض أن هناك التزام على السلطة المحلية بإضاءة الملجا فإنه في ظروف القضية لا يوجد التزام على السلطة المحلية باتخاذ الحذر المعقول.
يبدو أن السبب الأول ينحو إلى يطرح مبادىء قانونية جديدة تتعارض مع المباديء الراسخة في القانون العام common law وبخاصة تلك التي أرساها مجلس اللوردات في سابقة: Geddis case وسابقة: Metropolitan Asylum District v. Hill. فقد تجاهلت محكمة الاستئناف في هذه القضايا الثلاث تجاهلاً تماما المبدأ الراسخ القائل بأنه يجب على السلطة المفوضة من قبل القانون التشريعي أن تأخذ العناية والحذر في تنفيذ عملها ما لم ينص القانون التشريعي صراحة أو ضمنا على غير ذلك.
غير أن السادة القضاة الكبار عكسوا الآية وقلبوا الوضع الذي كانت السيادة فيه لقواعد القانون العام وافترضوا ألا التزام واجب بأخذ العناية والحذر إلا إذا نص القانون التشريعي على ذلك. كما يبدو أنهم خلطوا بين الواجب العام بأخذ الحيطة والحذر وبين الواجب المحدد في توفير الإنارة. إن واجب الإنارة ما هو إلا إجراء بين تدابير أخرى، وكون أن الإضاءة ليلاً قد حظرت بأوامر فهذا لا يؤثر على واجب أخذ الحذر المعقول.
ولهذا نحن نرفض رفضاً باتاً الاستهداء بهذا الحكم، فهو قد حاول أن ينسف قاعدة راسخة من قواعد القانون العام بحجة ضعيفة. وعلى أية حال نحن لسنا وحدنا في الوقوف ضد هذا الحكم. فاللورد "جرين" لم يجد بُداً من استخدام لغة قاسية للتعبير عن رفضه الامتثال لهذه السابقة القضائية حيث يقول في قضية Fisher v. Ruislip:
"أجد نفسي مضطرا للقول لو كانت وجهات النظر التي جرى التعبير عنها في قضية Wodehouse v. Levy صحيحة ولو أن السلطات المحلية للمدن عملت بها (لحسن الحظ لم تعمل بها) لكانت مدينة لندن قد أصبحت مكدسة بالسيارات المهشمة والجثث. أضف إلى ذلك أن وجهة النظر هذه غير قابلة للتطبيق في المناطق التي لا يوجد بها إنارة إجبارية، فإذا اختارات المجالس المحلية بهذه المناطق ان تمارس سلطتها الجوازية في إنارة الشوارع فهل يحق لها أيضا أن تترك الملاجيء غير مضاءة. إذا كان ذلك كذلك، فهذا قتل بدم بارد".
وفي قضية Lyus case من القضايا الثلاث (التي فصل فيها اثناء الحرب) والتي تتطابق وقعائها مع وقائع القضية الأولى وقد اتبعت فيها محكمة الاستئناف بالاجماع الحكم الذي أصدرته في قضية Wodehouse مكررة ذات الأسباب القانونية والحجج. ونحن نرفض هذا الحكم لذات الأسباب التي رفضنا بها الحكم الصادر في قضية Wodehouse.
القضية الأخرى هي قضية Fox case وتتعلق بذات التشريع البرلماني ووقائعها شبيهة بوقائع القضيتين السابقتين سوى أن البناء هنا أقيم بعد حظر إنارة الشوارع ليلاً. ومن الطبيعي أن يتبع القضاة الذين شاركوا فيها الأحكام التي أصدروها في قضيتي Lyus وقضية Wodehouse .
غير أن القاضي "ديو بارك" والذي لم يشارك في تلك الأحكام قد كتب رأيا مخالفاً dissenting judgment اتبع فيه نهجا وسطا قبل فيه بالحكم في قضية Wodehouse لكنه ميّز distinguishing الحكم الصادر فيها عن الحكم الصادر قضية Fox case وشدد في نفس الوقت على صحة المبدأ الذي أرسته السابقة القضائية Geddis case.
ومهما يكن من أمر، فلا يسع المرء إلا القول إن هذه القضايا الثلاث تم الفصل فيها على نحو غير مرضي. ويبدو أن ظروف الحرب جعلت صوت المدافع والمتفجرات يعلو مؤقتا على صوت مبادىء القانون العام الصائبة، ودفعت قضاة محكمة الاستئناف الأجلاء إلى الأخذ بالأسباب التي بنوا عليها أحكامهم.
ولكن لحسن الحظ استطاع اللورد "جرين" أن يجلي الموقف في قضية Fisher case ويعيد الأمور إلى نصابها حتى يشرئب المبدأ الذي أرسته سابقة Geddis case قوياً صلباً من جديد كما كان في السابق.
والآن بعد أن ناقشنا القانون الواجب التطبيق نتحول لمناقشة طبيعة السلطات الممنوحة للمجلس البلدي. إن مجلس بلدية الخرطوم هو كائن أوجده القانون التشريعي فهو عبارة جسم اعتباري يعتمد في وجوده على قانون الحكم المحلي لسنة 1951 وعلى "الأمر" الصادر بموجب المادة السابعة من ذات القانون والذي يعطي المجلس كل أو بعض الصلاحيات الواردة بالجدول الأول وأي صلاحيات أخرى تحت أي قانون أو لوائح أخرى يقررها الأمر المذكور.
وقد أعطى الأمر مجلس بلدية الخطرم صلاحية، ضمن أشياء أخرى، حفر المصارف بالمناطق التابعة للمجلس. وهذه الصلاحيات مضمنة بالجزء الخامس من الجدول والمادة (1) من قانون الحكم المحلي ويقراءن معا كالآتي: "تكون للمجلس صلاحية حفر المصارف..".
وجدير بالذكر انه لا القانون ولا الأمر قد حدد متى وكيف وأين وبأي صورة تحفر المصارف. لقد ترك كل ذلك للسلطة المجلس البلدي التقديرية ولاختياره المطلق. يقول باشكاتب مجلس المدينة في إفادته بالمحكمة :"المجلس هو الذي يقرر أن يحفر أو لا يحفر مصارف للمياه".
والحال هذه نستطيع القول إنه استنادا إلى هذا التشريع يمكن لمجلس البلدية أن يقرر بكل لامبالاة ولا خوف من محاسبة ألا يمارس الصلاحيات وألا يقوم بحفر أي مصرف في أي جزء من مدينة الخرطوم ويظل مربعا يديه ويتأمل في جمال الخرطوم وهي تغرق في الفيضان! والمحاكم ليس في استطاعتها أن تجبره على العمل لأن نصوص القانون التشريعي لم تعطها هذا الحق. ولكن لو استمرأت البلدية هذا الوضع السالب فان السلطات العليا في الدولة سوف تتحرك بلا شك والمواطنين كذلك لتجريد البلدية من هذه الصلاحيات.
هذا هو في رأينا التفسير الصحيح للسلطات التي منحها القانون التشريعي للبلدية. إنها صلاحيات جوازية وتقديرية.
أضف إلى ذلك إن القانون التشريعي المذكور لم يمس المبدأ الأساس في القانون العام common law الذي يفترض ممارسة االصلاحية الممنوحة مع أخذ الحيطة والحذر اللازمين. وليس هناك ما يدعو إلى القول إن توفير مصارف المياه عمل ينطوي على الخطورة بحيث تنتج عنه أضرار للغير بغض النظر عن أخذ الحذر اللازم.
مع وضع كل ذلك في الاعتبار يحق لنا القول إن قصد المشرع من اعطاء المجلس صلاحية حفر مصارف المياه مشروط بأخذ العناية المعقولة أثناء الحفر وبعد اكتمال الحفر وإن نية المشرِّع لم تنصرف أبداً إلى حرمان المواطنين من حقوقهم القانونية.
والآن نواصل لمناقشة مسؤولية المدعي عليهم عن الاهمال والتسب في قوع الحادث: هل حفر مصرف في الطريق مع الأخذ في الاعتبار كل الظروف المحيطة يرقى إلى أن يشكل فعلا ضاراً بسبب الاهمال؟
التقصير الناشيء عن الاهمال negligence يتطلب بصورة عامة وجود واجب يلزم المدعى عليهم أخذ العناية والحذر وأن ينتج عن الاخلال بهذا الواجب ضرر للمدعي.
ولذلك فإن أول خطوة يتعين على المحكمة القيام بها هي البحث فيما إذا كانت الظروف تستلزم وجود واجب بأخذ العناية والحذر. وهذا أمر ليس سهلاً لأن الظروف والحالات التي تتطلب وجود واجب على المدعى عليهم لصالح لمصلحة المدعي غير محدودة وليست مفصورة على الحالات التي تقررها السوابق القضائية. فمع كل فجر جديد تنشا علاقات وأوضاع جديدة وفي ظل هذه العلاقات المتغيرة يجب على المحاكم فحض وتقييم الحالات التي تطرح أمامها. فكل قضية تعتمد على وقائعها الخاصة وعلى المحكمة الإجابة على السؤال ما إذا كانت هذه الوقائع المحددة تفرض على المدعى عليه أخذ العناية المعقولة تجاه المدعي.
هناك معيار عملي جدا تم صياغته من قبل القضاة الإنجليز منذ بدايات القرن التاسع عشر وظل يخضع للتطوير والتقويم المستمر. وهذا المعيار مبني على التجربة العملية للحياة اليومية العامة مع الأخذ في الحسبان الحكمة والمعرفة الانسانية جنباً إلى جنب الضعف الانساني.
إن هذا المعيار لا يضع المدعى عليه المتسبب في الضرر في خانة واحدة مع الشخص المؤمِن الذي يكون مسؤولاً عن وقوع أي ضرر أو خطأ واقع على المؤمن له. فالمرء لا يطلب منه الاحتراز إلا ضد المخاطر التي يتوقع الانسان الحكيم توقع حدوثها. وهي المخاطر التي يمكن أن تصيب الاشخاص الذين يتعين على المدعى عليه أن يضعهم في حسابه، ومتى ما وجد هذا التوقع المعقول reasonable foreseeability فان واجب العناية يقع على المدعى عليه لكي يأخذ الاحتياطات اللازمة لحماية الأشخاص الذين يقعون في دائرة الخطر.
وهذا المعيار جرى شرحه وتطبيقه على نحو جلي وناجع في عدد من السوابق الإنجليزية وتأتي على رأسها قضية:
Donoghue v. Stevenson (1932) A. C. 562.
التي صدر فيها الحكم عن مجلس اللوردات حيث يقول القاضي لورد "أتكن": "من المفهوم ان هناك علاقات ينشا عنها ويجب ان ينشا عنها إلتزام بأخذ العناية اللازمة ونجد التمثيل لها بحالات معينة في كتب الفقه القانوني. ولا شك أن المسؤولية عن التقصير والاهمال إذا شئت وصفها بذلك او التي توصف في انظمة قانونية أخرى بنوع الأفعال الضارة culpa بنيت على الشعور الأخلاقي العام بأنها أفعال يجب أن يترتب عليها محاسبة الفاعل. ولكن اتيان الفعل الأخلاقي أو الامتناع عن القيام به يعطي الحق لأي شخص لحقه ضرر ان يطالب بالتعويض او جبر هذا الضرر. وهنا يبرز دور القواعد القانونية لتحد من نطاق الدعاوى وتحديد مدى المطالبة بجبر الضرر. إن القاعدة الاخلاقية التي تقول يجب ان تحب جارك، تتحول في القانون إلى: يجب ألا تلحق الضرر بجارك. وسؤال رجل القانون: ومن هو جاري؟ تأتي الاجابة مقيدة وهي أنه يجب أخذ العناية والحذر المعقول لتفادي الاتيان بالأفعال او الامتناع عن الافعال، التي من خلال التوقع المعقول، يمكن أن تسبب ضرراً لجارك. ولكن من هو جارى من وجهة نظر القانون؟ يبدو أن الإجابة هي أن جاري هم الأشخاص القريبون مني والذين يتأثرون مباشرة بما اقوم به من أفعال والذين يجب أن اضعهم في الحسبان عندما ينصرف ذهني للاتيان بهذا الفعل أو الامتناع عنه". انتهى.
وفي قضية أخرى صدر فيها الحكم عن مجلس اللوردات وهي قضية:
Bourhill v. Young (1943) A. C. 92.
حيث يقول لورد ماك ميلان: "إن واجب أخذ العناية والحذر يعني واجب تفادي عمل أو الامتناع عن عمل أي شيء يكون في فعله او الامتناع عن فعله وفق الاحتمال المعقول أن يسبب ضرراً للغير. وهذا الواجب يوجه للذين يتوقع أن يصابوا بضرر لو لم يراع الحذر اللازم".
وهذا الرأي جرى اتباعه حرفيا في عدد من القضايا منها قضية:
Owens v. Liverpool Corporation (1939) 1 K. B. 394.
وقضية Woods v. Duncan (1946) A. C. 401
وقضية Lewis v. Carmarthenshire County Council (1953) 2 All E. R. 1405 وفي قضايا أخرى كثيرة.
مسترشدين بهذا المبدأ القانوني نحاول الآن استخلاص ما إذا كان حفر المدعى عليهم للمصرف يلقي عليهم، بحسب الظروف المتوفرة، واجب أخذ العناية والحذر تجاه مستخدمي الطريق العام، وإذا وجد هذا الواجب فهل اتخذ المدعى عليهم الاحتياطات المعقولة لحماية مستخدمي الطريق.
الثابت أن المصرف يوجد في الطريق العام أو متاخما مباشرةً له، بعرض مترين وربع المتر على الأقل وعمق مترين، ولم تكن به إنارة وهو مكشوف تماما بلا غطاء ويقع في منطقة سكنية. هذه الوقائع في حد ذاتها دليل على أن حالة شارع 47 ليست آمنة وبخاصة في الظلام وحيث لا ضوء للقمر. إن الانسان العادي السوي reasonable man سوف يتوقع لا محالة وجود خطر من هذا الوضع. وهو خطر يمكن توقعه توقعاً معقولاً reasonably foreseen.
أضف إلى ذلك إن شارع 47 يخترق منطقة سكنية يقيم فيها سودانيون وأجانب واناس أغنياء يعمل معهم الكثير من خدم (المنازل) ودبلوماسيون يقيمون الكثير من الحفلات المسائية. هذه الوقائع في مجملها تلقي على المدعى عليهم، في تقديرنا، واجب أخذ الاحتياطات اللازمة لحماية الجمهور ضد هذا الوضع غير الآمن الذي أوجده حفر المصرف في شارع 47.
وأما حجة محامي المدعى عليهم أن شارع 47 لا يعد شارعا مزدحما لن تغير من وجهة نظرنا شيئا، فما دام الشارع يقع في منطقة سكنية فلا يمكن أن يخلو في أي وقت من عدد من المارة والمشاة يكفي لتأمين توفر واجب أخذ العناية لحمايتهم بل وحتى سائقي السيارات لا يجوز تركهم بلا حماية.
كذلك حاجج محامي المدعى عليهم ان تسبيب الضرر للجمهور في الظروف المتوفرة لم يكن متوقع توقعا معقولاً واستدل على حجته بعدد من القضايا التي صدرت أحكامها حديثا وهي:
قصية: Bolton v. Stone (1951) A. C. 850
وقضية: Roe v.Minister of Health (1954) 2 All E. R. 131
وقضية: Rich v. London County Council (1955) 2 All E. R. 376
تتعلق قضية: Bolton v. Stone بلعبة الكريكت حيث استطاع لاعب ذو قوة استثنائية ان يضرب الكرة بقوة ويقذف بها خارج أرض الملعب فأصابت المدعي الذي كان لحظتها يسير في الشارع العام. رفع المدعي دعواه ضد نادي الكركيت ولكنه خسر الدعوى. فقد اقيمت البينة على أنه خلال 28 سنة قذفت الكرة خارج الملعب ست مرات فقط. وان الكريكت ظلت تلعب على هذه الأرض لمدة 90 عاما ولم يحدث أبدا انها ضربت أي شخص بالشارع العام بالقرب من الملعب حتى تاريخ إقامة هذه الدعوى ولم يحدث ان اشتكي أحد للمدعى عليهم من ذلك.
يقول لورد بورتر في حيثيات الحكم: "لا يكفي ان تكون احتمالية وقوع الضرر بعيدة بل السؤال هو هل الانسان العادي السوى يتوقع حدوثه؟"
وأما لورد اواسكي فيرى أن: "معيار الحذر في قضايا المسؤولية التقصيرية هو معيار الانسان العادي الحذِر الهميم. غير أن الانسان العادي السوي الهميم لا ياخذ الحيطة والحذر ضد أي خطر منظور وقوعه".
وأما لورد "رِيد" فيشدد على ذات النقطة ويعزز رأيه بقول لورد "دانيدن" في قضية:
Fardon v. Harcourt-Rivington (1932) 146 L. T. 391
وهو قوله: "الناس مطالبون بالاحتراس ضد الاحتمالات المعقولة ولكن غير ملزمين بالاحتراس ضد الاحتمالات الخيالية fantastic ".
نرى ألا جديد في هذه القضية. فهي لا تضيف شيئا أكثر من تطبيق معيار توقع الخطر المنظور foreseeability test على وقائع الدعوى المطروحة أمام المحكمة. فقد خلصت المحكمة إلى انه ليس في استطاعة الانسان العادي السوي أن يتوقع ضرب كرة الكريكت بهذه القوة بحيث تعبر أرض الملعب لتصيب أحد مستخدمي الطريق العام. هنا يوجد احتمال شاذ وخيالي ولا أحد يمكن أن يحترس ضد وقوعه. المسألة ببساطة في تقديرنا هو أن وقائع الدعوى لم تكفي لتطبيق معيار التوقع المعقول للخطر.
وإذا جاز لنا التعليق فيمكنا القول إنه لو قدر للدعوى أن ترفع مرة أخرى ضد ذات الشخص الذي ضرب الكرة بتلك القوة وثبت أنه كان يعلم أو لديه ما يجعله يعلم بامتلاكه لهذه القوة وبالمسافة بين الملعب والشارع العام، فربما كان مسؤولا بذات المعيار الذي أعفى نادي الكريكيت بموجبه من المسؤولية.
وأما قضيةRoe v. Minister of Health فتتلخص وقائعئها في ان المدعي اجريت له عملية جراحية سنة 1947 بمستشفى شيارفيلد وديربشير وقبل العملية اعطيت له من قبل اختصاصي التخدير حقنة تخدير عن طريق خرق النخاع الشوكي تحتوي على نبيركين معبأ في أمبول زجاجي وكان النوربكين مغمورا قبل الاستعمال في محلول الفينول. بعد العملية أصيب المدعي بشلل في النصف الاسفل من جسمه paraplegia. ثبت للمحكمة بالبينات ان محلول الفينول أدى إلى تلوث النوبركين إما بالتسرب عبر التشقاقات الجزيئية أو تشققات غير مرئية بالأمبولات الزجاجية.
قضت المحكمة بعدم مسؤولية المدعى عليهم والسبب الحاسم الذي تأسس عليه الحكم هو انه في سنة 1947 سنة إجراء العملية لم يكن معروفا في مهنة الطب ان هناك خطر يمكن ان ينتج من تسرب محلول الفينول عبر التشققات الجزيئية للأمبول. ولذا لم يكن الخطر متوقعا توقعا معقولا من المدعى عليهم في ذلك الوقت. وليس لدينا شك لو ان قدر لوقائع هذه القضية ان تكرر مرة اخرى في أي وقت بعد سنة 1947 بحذافيرها، فان المدعي سوف يكسب الدعوى.
وأما قضية:Rich v. London County Council فلم تحد مطلقا عن الأخذ بمعيار التوقع المعقول لاحتمالية وقوع الضرر في تحديد المسؤولية. كل ما هناك أن وقائع الدعوى لم تستوفي شروط تطبيقه. الحقيقة يمكنا القول إن القضايا الثلاث ما هي إلا أمثلة على تطبيق هذا المعيار القانوني. إنها مجرد أمثلة على القضايا التي لم يكن يتوفر فيها وجود احتمال معقول لتوقع حدوث الضرر.
كذلك أثار السيد/ النائب العام حجة أخرى في دفاعه وهي كما جاءت على لسانه: "حفر مصارف المياه أمر ضروري لحياة كل السكان وبدونه سيعاني الناس من الأمراض ويواجهون خطر الموت وستغمر المياه بيوتهم وتتعطل حركة الناس والنقل والمواصلات وتسوء الطرقات تتلوث بالمياه. إن أي مواطن يفكر تفكيرا جيداً حتما سوف يفضل الأخذ بنظام الصرف الصحي مهما كلف بدل التخلي عنه بحجة المخاطر التي يحتمل أن يسببها لأفراد الجمهور". انتهى.
لا شك أن هذه الصورة التي رسمها النائب العام تدعو للفزع. إنها صورة لمحامي استثنائي ذي ذوق أدبي رفيع بقصد أن يضع أمام أعيننا الخراب والآلام والمعاناة التي ستعم حياتنا إذا لم تحفر مجاري الصرف الصحي. ولكن لا أحد قال ان المصارف يجب ألا تحفر وانه يمكن الاستغناء عنها.
ما نراه على العكس من ذلك وهو يجب أن تحفر المصارف ولكن بطريقة آمنة تراعي سلامة الناس. إنه لأمر مؤسف أن تجد االبلدية العزاء في تخويف الناس: إما الإذعان وقبول الاهمال والتقصير في اداء واجباتها وإما أن تغمرهم الفيضانات.
ويمضي السيد النائب العام في هذا السياق إلى القول إنه منذ تاريخ إنشاء المصرف في سنة 1952 لم يتسبب من قبل سوى في حوادث قليلة جدا. ومثل هذا الدفاع تم قبوله قضية Bolton v. Stone لصالح المدعى عليه وذلك لأن هذه القضية كانت تقف "على التخوم" borderline case ووجدت المحكمة انه من الضروري النظر في الحوادث السابقة. وأما في هذه الدعوى التي أمامنا فكل الوقائع تدل على أن مصرف شارع 47 كان يشكل خطراً ابتداءا per se. وحتى لو ثبت انه لم يقع أي حادث في السابق فإن هذه الحجة سوف تثير استغرابنا كونها تصادم المنطق الطبيعي للأشياء لذا لن تنجح في تغيير خط تفكير هذه المحكمة.
والآن بعد أن ثبت وجود واجب على عاتق البلدية لأخذ العناية والحذر لحماية مستخدمي شارع 47 ضد المخاطر حفرهم للمصرف الخطوة التالية التي يتعين علينا القيام بها هي ما إذا كانت البلدية قد قامت بهذا الواجب.
الثابت أن المصرف يقع في شارع 47 وهو شارع ليس به إنارة والمصرف كما ذكر من قبل بعمق مترين وعرض يتراوح ما بين مترين وربع ومترين ونصف ومتاخم للشارع العام وغير مضأ وغير مغطى وقد خلصت المحكمة الأدنى إلى أن المصرف لا توجد به حواف مرتفعة وليست به ركائز لتدل على وجوده وحتى الشهود الذين شهدوا لصالح البلدية بوجود ركائز ذكروا أن هذه الركائز بلون الاسمنت وغير مطلية باللون الأبيض (العاكس).
هذه الوقائع الثابتة تدل دلالة قاطعة أن البلدية لم تفعل شيئا يلفت انتباه عامة الجمهور إلى وجود المصرف وكل ما فعلته هو أنها حفرت هذا المصرف الخطير وقفت ساكنة متربعة اليدين دون استشعار بمسؤوليتها عن سلامة المواطنين. الحقيقة ان البلدية اثبتت انها لم تكن لديها الرغبة أو النية في القيام بواجبها نحو سلامة الجمهور.
في ضوء هذه الوقائع لا نجد بديلا عن أن نقرر أن البلدية لم تتخذ أي خطوات أو احتياطات معقولة لحماية عامة الجمهور ولذا فهي مسؤولة عن الاهمال المفضي إلى الضرر tort of negligence .
لقد توصلنا إلى هذه الخلاصة بعد الأخذ في الحسبان الاعتبارات المتعلقة بالأخذ بنظام الحكم المحلي كنظام من أنظمة الحكم ولم نتجاهل حقيقة أن المجالس المحلية كهيئات للحكم قد أثبتت فعاليتها وفائدتها لخدمة مصالح الناس.
كما لم نتجاهل الصعوبات التي تواجهها المجالس المحلية في أداء واجياتها وعلى رأسها الصعوبات المالية ولم يكن هدفنا فرض أعباء على البلديات تتجاوز قدراتها المالية كذلك لم نهدف إلى أن نفرض عليها أخذ احتياطات تتجاوز الحد المعقول الذي لا يتناسب مع أوضاعها المالية.
ونحن على قناعة بأن الأخذ الأعمى بالمعايير التي تقررها المحاكم الإنجليزية أمر غير عادل وغير واقعي وإذا لم نعِ هذه الحقيقة فسنكون مثل من يضع نفسه خلف ستارة حديدية (لا نقصد المعنى السياسي للعبارة) مغمض العينين واضعاً أصابعه في أذنيه، لا يريد أن يسمع ولا يرى حقيقة الأوضاع المدنية والاقتصادية والاجتماعية للحياة السودانية.
لا نريد أن نضع أنفسنا ولو للحظة واحدة في مثل هذا الموقف. غير أننا نعتقد اعتقادا جازما لو كانت البلدية قد وضعت حواف مرتفعة على جنبات المصرف وأقامت ركائز مثبتة على مسافات متساوية ومطلية باللون الأبيض أو وضعت لمبات إنارة تكفي فقط للتنبيه بوجود المصرف كان ذلك سوف يكفي لاقناع المحكمة بدفاعها.
ونحن هنا لا نصرُّ على التغطية الكاملة ولا الإنارة الكاملة للمصرف، ولكنّ المدعى عليهم تجاهلوا حتى أخذ الاحتياطات اللازمة في حدها الأدني المذكور آنفاً. وهذا موقف مؤذي حقاً. يجب على مجالس الحكم المحلي التي لا تزال في طور النمو أن تتعلم منذ المهد الادراك الكامل لامتيازاتها وحقوقها بذات القدر التي تكون به واعية ومدركة لواجباتها ومسؤولياتها تجاه المواطنين.
يجب ألا تتوقع مجالس البلديات سلطات وحقوق لا تقابلها واجبات ومسؤوليات.إن السلطة بلا مسؤوليات تؤدي دائما إلى التكبر والعجرفة والفساد (الإداري) الذي يؤدي بدوره في النهاية إلى التدهور الأخلاقي والتفكك (الاجتماعي). ونأمل ألا يسمح لمؤسساتنا القانونية الهبوط إلى هذا المستوى.
الآن وقد ثبتت مسؤولية البلدية عن الاهمال والتقصير، ننتقل لمناقشة دفاع الاهمال المشترك contributory negligence ويثار دفاع الاهمال والتقصير المشترك عندما يثبت المدعى عليه بأنه على الرغم من تقصيره وإهماله إلا ان الطرف الآخر المدعي كان مقصرا ومهملا هو الآخر وقد ساهم بأفعاله في وقوع الضرر.
وكلمة إهمال negligence في مصطلح "الاهمال والتقصير المشترك" تنطوي على اختلاف طفيف عن معنى الاهمال عندما يكون سبباً تؤسس عليه الدعوى. إذ ليس المطلوب لإثبات الاهمال المشترك توفر واجب أخذ الحذر على عاتق المدعي لصالح المدعى عليه. ويكفي التدليل على أن المدعي لم يتصرف وقف ظروف الحادث على النحو الذي يتصرف به الانسان العاقل النبيه، أي يكفي إثبات أن المدعي لم يحترس من الخطر وساهم بعدم احتراسه ولامبالاته في وقوع الضرر لنفسه.
ومعيار العناية والحذر المطلوب توفره عند المدعي هو نفسه المطلوب توفره لدى المدعى عليه. أي أنه يتوقع من المدعي ان يتصرف على نحو معقول بحسب واقع الحال لكي يحمي نفسه ضد أي اخطار منظورة الوقوع، وأن يفترض دوما في الآخرين الطيش واللامبالاة. وعلى أية حال المسألة تتوقف على الوقائع الخاصة بكل قضية على حدة، فكل قضية تحكمها وقائع الحال الموضوعية. والسوابق القضائية وأراء القضاة غير ملزمة ولكن يجب مراعاتها والنظر إليها بعين التقدير المستحق.
في قضية:
Nance v. British Columbia Eletric Railway (1951) A. C. 601-611 يقول لورد (سايمون) معلقا على الراي الذي كتبته اللجنة القضائية للمجلس الاستشاري: "كل المطلوب تقريره في حالة هذا الدفاع هو اقناع المحلفين ان الخصم المتضرر لم يأخذ الحيطة والحذر المعقول للاحتراس لنفسه من الخطر وبذلك ساهم في وقوع الضرر. وذلك لأن المبدأ القانوني الذي يجب مراعاته عند إثارة دفاع الاهمال المشترك لمناهضة المسؤولية عن كامل مطالبة المدعي، هو إذا كان المرء طرف في التسبب في الضرر الواقع عليه، لا يجوز له مطالبة الخصم بالتعويض الكامل عن الخسارة الناتجة عن الضرر".
هذه هي المبادىء العامة لدفاع الاهمال والتقصير المشترك. وقد أدخلت "لجنة إصلاح القوانين" تغيير جوهري في النتائج المترتبة على هذا الدفاع. فقبل صدور القانون كان المدعى عليه عندما ينجح في إثبات الاهمال المشترك على المدعي فإن مسؤولية المدعي عن المطالبة بالتعويض عن الضرر تسقط بالكامل. ولكن القانون المذكور أدخل مبدا جديد أكثر عدالة وهو أن يتحمل كل طرف حصته التي ساهم بها في قوع الضرر. وذلك على النحو المنصوص عليه بالمادة الفقرة من قانون لجنة إصلاح القوانين (الاهمال المشترك لسنة 1945):
"إذا وقع ضرر على أي شخص بسبب خطأ جزئي من جانبه وخطأ جزئي من جانب شخص أو أشخاص آخرين، فإن خطأ الشخص الذي تعرض للضرر لا يترتب عليه سقوط كامل التعويض المطالب به عن هذا الضرر، ولكن يجب أن يخفض التعويض إلى الحد الذي تراه المحكمة عادلاً ومنصفاً بحسب نصيب مساهمة المدعي في المسؤولية عن الضرر".
والآن نعود إلى وقائع الدعوى لنرى ما إذا كان تصرف المدعي في تلك الظروف يرقى الاهمال المشترك. بمعنى هل فشل المدعي في اتخاذ الاحتياطات اللازمة المعقولة لحماية نفسه والحفاظ على سلامته؟.
الثابت من وقائع الدعوى أنه في مساء اليوم الثاني من شهر مايو الساعة 7.45 جاء المدعي وزوجته وابنته وكل من والدته ووالده توفيق قطران، لحضور الحفل الذي أقامته السفارة العراقية بمحل إقامة السفير بالمنزل الذي تشغله السفارة وهو المنزل رقم 68 (منزل كارياكوس) الكائن في الجانب الشمالي من شارع 47. وقد دخل المدعي ومرافقيه من نهاية الشرقية للشارع، وقبل أن يقطعا مسافة طويلة في شارع 47 أوقفهم رجل بوليس تنظيم المرور وأخبرهم انه نسبة لتكدس السيارات سوف لن يتمكنوا من ركن السيارة في هذا المكان وطلب منهم ركنها هنا والسير مشياً إلى مبنى السفارة، ففعلوا ما طلبه منهم وتركوا السيد توفيق مطران خلفهم ليركن السيارة على بعد 150 متراً من السفارة وتوجه كل من المدعي والسيدة توفيق قطران سيرا إلى مكان الحفل. ثم لحق بهم السيد توفيق قطران بعد أن ركن السيارة وكانت تسير خلفه بمسافة قريبة سيدتان.
كانوا يسيرون على مكان مسفلت وعلى جانبيه تقف سيارات مركونة تخص ضيوف السفارة. وعندما قعطوا معظم المسافة سيرا واجههم إزدحام مروري في الطريق المقابل للسفارة حيث كانت هناك شاحنتان تسير كل منهما في الاتجاه المضاد وكان هناك رجل بوليس مرور يحاول أن يفك الاختناق المروري.
وتفاديا لهذا الازدحام المروري فكر المدعي والسيدة توفيق اللذان كانا يسيران ويتحدثان، في الولوج عبر المساحة الفاصلة بين سيارتين مركونتين وبعد السير لعدة أمتار قررا أن يختصرا الطريق إلى مدخل السفارة حتى لا يتأخرا أكثر عن موعد الحفل. ولما لم يسبق لهما السير في هذا الطريق ولم يكن لديهما علم بوجود مصرف المياه ظنا أنهما يسيران على أرض صلبة فما كان إلا وقد سقط المدعي فجاءة في مصرف الماء.
هذه هي الوقائع المتصلة بدفاع الاهمال المشترك ونضيف إليها أن محامي المدعي أقرّ أن السيارات التي كانت تقف بجانب المصرف كانت مصفوفة خطيا (وراء بعضها البعض) وليس بالتوازي. وذلك بخلاف العادة المتعارف عليها في الخرطوم بين ملاك السيارات والسائقين وهي اصطفاف السيارات في المواقف يكون بالتوازي. كما استنبطت المحكمة من البينات وجود إنارة تمكِّن أي شخص يسير على قدميه بيقظة وانتباه، أن يلحظ وجود المصرف.
والآن دعونا ننظر في الوقائع على الأرض التي تمر بالمدعي بمجرد وصوله النهاية الشرقية لشارع 47 والتي تنتهي في شارع الجزيرة (شارع مدني/ المطار- المترجم). المسافة من شارع الجزيرة إلى السفارة العراقية قدرتها هذه المحكمة بحوالي 300 ياردة. المدعي كان يجلس بالمقعد الأمامي للعربة على يسار السائق السيد توفيق قطران. المصرف يبدأ من شارع الجزيرة من نفس النقطة التي يتنتهي عندها شارع 47 متجها غربا في توازي مع شارع 47 ويفصل بين الشارع والمصرف خمسة أمتار. ونحن نعتقد والحال هذه، كان أمام المدعي وهو بالمعقد الأمامي للعربة والأنوار الأمامية مضاءة، فرصة معقولة في هذه الظروف أن يقوم بمسح جغرافي لشارع 47 لملاحظة وجود المصرف والأسفلت إلخ. لا سيما عند لحظة دخوله الشارع.
سار المدعي مع جماعته في الشارع وهم بالعربة لمسافة 150 متر حينما اوقفهم رجل بوليس المرور. نزل المدعي من السيارة ومشى راجلاً ونعتقد أن رحلته سيرا من المكان الذي توقفت عنده السيارة إلى المكان الذي سقط فيه بالمصرف، يفترض أن توفر للشخص العادي reasonable man الفرصة ملاحظة ما يحيط بشارع 47.
وكما ذكر النائب العام في دفاعه إن واقعة وقوف السيارات بعيدا من سياج السفارة واصطفافها في خط مستقيم وليس بالتوازي كما جرت العادة المتبعة كان يجب ان يقرع جرس الإنذار في ذهن المدعي. إذ كان عليه أن يسال نفسه: "لماذا تقف هذه السيارات بهذه الكيفية غير المالوفة؟" لو كان قد وجه لنفسه هذا السؤال لكان قد تنبه بلا شك إلى أن هناك عائقاً ما، شيء ما يسد جانب الشارع العام. وهذا كاف وحده ليجعل المدعي أكثر انتباهً وحذراً.
ونحن إذ نتفق مع قاضي "المحكمة الأعلى" في قوله إنه لا يوجد واجب او التزام يقع على عاتق المدعي بأن يبحلق على الأرض، نقول كان عليه أن يأخذ نظرة عامة ليكشف ماذا أمامه، لا سيما عند مروقه من بين السيارتين المصطفتين على جانب المصرف. ولو فعل ذلك وهو ما كان يجب عليه فعله، لكان قد تمكن بمساعدة الإنارة الخافتة المنبعثة من السفارة رؤية المصرف ولاستطاع تفاديه.
هذه الوقائع والملابسات تجلعنا نصل إلى قناعة أن المدعي قد شارك في الاهمال والتقصير فهو لم ينتفع من كل هذه الفرص المتوفرة أمامه لتفادي السقوط في المصرف ونتيجة لذلك ساهم في تسبيب الضرر لنفسه.
وتبقى الآن تحديد نسبة الاهمال الذي ساهم به كل طرف من الطرفين في وقوع الحادث. وهذا عمل ليس بالسهل. وكانت "لجنة الإصلاح القانوني" قد وضعت في قانون (الاهمال والتقصير المشترك لسنة 1945) المبادىء العامة التي على ضوئها يجوز للمحكمة تحديد نسبة مساهمة كل طرف عند ثبوت الاهمال والتقصير المشترك وهي تخفيض مقدار التعويض المطالب به إلى الحد الذي تراه المحكمة عادلا ومنصفا بالنظر إلى نسبة مشاركة المدعي في المسؤولية عن وقوع الضرر.
وهناك اختلاف بين القضاة في العوامل التي يجب أخذها في الحسبان عند تقدير هذه النسبة، فبعض القضاة يركز على "الخطأ" fault وبعضهم على السببية causation والبعض الآخر يركز على من يقع اللوم blameworthiness.
ففي قضية:
Davies v. Swan Motor (1949) 2 K. B. 291.
يرى القاضي اللورد (بنكنيل) انه "يجب تحديد نسبة اللوم الملقاة على كل طرف".
ويقول لورد دينينق Denning في ذات القضية: "لا يتطلب الأمر البحث عن العامل الحاسم الذي أدى إلى وقوع الحادث وحسب، بل يجب تحديد الطرف الذي يستحق اللوم أيضا".
وفي قضية:
Stapley v. Gypsum Mines Ltd. (1953) A. C. 663.
يقول اللورد رِيد: "على المحكمة أن تعالج مسألة توزيع نسب الاهمال والتقصير في إطارها الشامل، وما هو عادل ومنصف يعتمد على مقدار اللوم الواقع على كل طرف. وأرى أنه لا يمكن احتساب نسبة مساهمة المدعي في الحادث بدون ربط ذلك بأفعاله التي أدت للتسبب في الضرر".
نلاحظ من هذه الاقتباسات أن المحاكم استعملت بحرية تامة مصطلحات قانونية متعددة: السببية، القاء اللوم، والخطأ، والمسؤولية، وعادل ومنصف، حتى أن بعض هذه المصطلحات تكاد تلامس تخوم الفلسفة. ولكنّا نرى أن الطريقة المثلي هي الأخذ بكل هذه العوامل معاً مسترشدين في ذلك بمبدأ تحقيق العدل والانصاف.
آخذين بهذه المبادىء نواصل تقصي الفرص التي كانت متاحة للمدعي لمعرفة ما يجري في شارع 47. كما ذُكر سابقاً كان يجب على المدعي أن يتعرف على جغرافية المكان بمجرد دخوله الشارع من ناحية الشرق. فقد كان يجلس على المعقد الامامي بالسيارة على يسار السائق، وسار راجلا في الشارع مسافة 150 او 140 ياردة حيث كانت السيارات تصطف مركونة في خط مستقيم بمحاذاة المصرف على بعد 7 امتار من سياج السفارة.
كل هذه الوقائع كانت كافية لتجعل المدعي ينتبه وينظر ماذا هناك أمامه، وخاصة في اللحظة الحاسمة حين دخل بين سيارتين مركونتين وأراد العبور إلى الناحية الأخرى، هنا كان يتحتم عليه ينظر أمامه ولو فعل لذلك لكان قد تنبه إلى وجود المصرف ولا سيما وقد كانت هناك إنارة جزئية منبعثة من مبنى السفارة.
مع أخذ كل هذه الملابسات والظروف المحيطة بالحادث في الحسبان، نرى أن خطأ المدعي ليس بالهيِّن. فبرغم كل هذه المؤشرات والمحاذير إلا أنه قد فشل في إدارك حقيقة الوضع وسقط في المصرف على النحو المؤسف الذي سبق وصفه. ولو أنه قد تصرف بحكمة ويقظة ومعقولية لكان قد أمكنه تفادي نتائج اهمال وتقصير المدعى عليهم.
لكل ذلك نرى أنه من العدل والانصاف أن يخفض مبلغ التعويض بنسبة 50 % فاللوم يجب أن يوزع على المدعي والمدعى عليهم بنسية 50 % لكل طرف.
وقبل أن نخوض في بحث مبلغ التعويض المستحق بحسب هذه النسب، نود ان نعرب عن تقديرنا العميق للجهد الكبير الذي بذله محاميا طرفي الدعوى في عرض وجهات نظرهما القانونية التي ألقت الضوء على الجوانب المعتمة في هذه القضية. فقد طرحوا أمامنا عدداً مقدراً من الأحكام والسوابق القضائية وأخضعوها للمناقشة والتحليل الجيد والرصين، فجاءت أراؤهم وحججهم سواء ما تعلق منها بالوقائع أو القانون في مستوى القمة وجعلونا نستمتع حقا بهذا العرض الرفيع من المناقشة والتحليل المقدم من السيد النائب العام ومحامي المدعي.
وعوداً إلى موضوع تقدير مبلغ التعويض المستحق، نبدأ أولاً بمناقشة المبادىء التي تحكم تدخل هذه المحكمة (محكمة الاستئناف العليا- المترجم) في مبلغ التعويض الذي تقضي به المحكمة الأدنى.
المبدأ القانوني في ذلك بسيط جدا وهو أنه لا يجوز للسلطة الاستئنافية التدخل لتعديل المبلغ الذي قضت به المحكمة الأدني لمجرد أنها لا تتفق معها في هذا المبلغ. غير ان السلطة الاستئنافية تصبح ملزمة بالتدخل إذا رأت أن المحكمة الأدنى قد أخطات في تطبيق القانون بأخذها في الحسبان بأمور يجب ألا تؤخذ في تقدير المبلغ، أو أنها أسقط من حسابها أمور يجب أن تؤخذ في احتساب مبلغ التعويض. أو أنها لم تخطىء في تطبيق القانون ولكن المبلغ المحكوم بها عال جداً أو منخفضا جدا بحيث لا يمكن لمحكمة عادلة أن تحكم به.
ففي قضية: Rose v. Willey (1951) C. A. No. 221.
يقول القاضي اللورد بيركيت: "إذا كان المبلغ غير معقول إلى درجة فاحشة فمن واجب السلطة الاستئنافية التدخل".
وفي قضية: McCarthy v. Coldair (1951) 2 T. L. R. 1226
يقول لورد دينينق: "يجوز للمحكمة التدخل في مبلغ التعويض إذا كان المبلغ كبيرا إلى الدرجة التي تجعلها تقول في نفسها: يا إلهي! هذا عال جدا".
وكانت المحكمة الأدنى قد حكمت للمدعي بمبلغ 7,332.850ms جنيهاً منها مبلغ 2,332.850ms جنيهاً تعويضاً خاصاً ومبلغ 5,000.000ms جنيهاً تعويضاً عاماً.
وقد اُعفينا من مهمة النظر في شأن مبلغ "التعويض الخاص"، حيث اعتبره السيد الناب العام عادلاً ولم يطعن فيه بالاستئناف. ولذا فإننا معنيون فقط بالنظر في مبلغ التعويض العام المحكوم به وهو مبلغ 5,000.000ms جنيهاً. وهذا المبلغ حكم به كما جاء في قرار المحكمة الأدني:
"عن الضرر النفسي والمعنوي والآلام الجسدية والمعاناة لحظة الحادث وما بعدها، وعما يستجد من آلام في العملية، ولفقدانه القدرة على خدمة نفسه وغيره لاعتماده على غيره إلى حد ما، ولفقدانه الاستمتاع بمباهج الحياة (عدم القدرة على الرقض أو السير للنزهة في صحبة كلبه المدلل أو المشاركة في المناشط الاجتماعية) كذلك لتأثير الإصابة على قدرته في الحركة إذا قرر مستقبلاً العمل بالمحاماة. وقد ثبت من تقارير الأطباء أن نسبة العجز الطبي 70% ". انتهى.
ومع أن بعض هذه الأضرار يصعب تقديره واحتسابه إلا أننا نرى أن المحكمة الأدني في تقديرها لهذه الأضرار، قد أخذت في الاعتبار بعض الأمور التي ما كان لها أن تأخذ بها. فالقول إن المدعي لاجىء فلسطيني وقد فقد كل ما يملك هناك، يجب ألا يدخل في احتساب مبالغ التعويض. ونحن إذ نشعر بالأسف على ما جرى في فلسطين، ولا يزال يجري هناك، نعتقد أنه ليس من العدل والانصاف أن يضار المدعى عليهم في قضيتهم بسبب ما يفعله اليهود في أرض السلام، ونرى أن هذا الأمر لا علاقة له البتة بهذه الدعوى.
هذا وقد أورد محامي المدعي في مذكراته حشدا من الأحكام الصادرة في قضايا إنجليزية بغرض ان نسترشد بها في تقدير مبلغ التعويض. ونقولها بوضوح منذ البداية أننا نرفض أن نستهدي (أو نُضلل؟) بإي قضية إنجليزية أو أي قضية أجنبية أخرى، في الوصول إلى احتساب القيمة الفعلية للضرر التي يجب أن يحكم بها.
فهذه المسالة تتعلق بالأوضاع والظروف الخاصة لكل بلد من بلدان العالم وتعتمد على مستوى المعيشة في ذلك البلد أو ذاك وعلى ثروة كل أمة من الأمم وعلى واقع اقتصاد كل دولة وفلسفتها الاجتماعية. وسوف نكون كمن يحيا في عالم من الأحلام وجنة متوهمة إذا ما تجاهلنا إدارك وجود اختلاف في ظروف الحياة بين بلدنا والمملكة المتحدة، حيث لا يوجد مجال للمقارنة أبداً.
يجب علينا ونحن نحاول تقدير مبلغ التعويض المستحق أن نحصر أنفسنا في السوابق القضائية التي صدرت عن محاكمنا السودانية آخذين في الاعتبار واقع الحياة في السودان السودانية وتطبيق المعايير السودانية.
وهنا نقر بأن الأحكام السودانية المتوفرة في هذا الشأن شحيحة ولكن هذا لا يحول دون قيام هذه المحكمة بمسؤولياتها للتقرير في هذه المسالة، إذ يجب علينا ان نخطو إلى الأمام ونضع الأسس لذلك. والغرض من السوابق القضائية هو المقارنة والوقوف على الأمثلة والكيفية التي يفكر بها الآخرون في القضايا المماثلة. إن السوابق القضائية ليست نهائية ولا تقيد سلطة هذه المحكمة التقديرية في الوصول إلى مبلغ التعويض الذي تختاره وتراه عادلاً. فلكل قضية ظروفها وملابساتها الخاصة ولا يوجد تطابق بين قضيتين، لسبب بسيط وهو أنه يتعذر جداً أن تجد إصابتين أو ضررين متطاقين في كل شيء بما في ذلك المتضرر نفسه.
وكان النائب العام قد استدل بالحكم الصادر في القضية السودانية:
(بسطاوي سليمان موسى /ضد/ محمد نور خيري HC-CS-76-53)).
المدعي في هذه القضية عامل في كمائن صناعة الطوب ويعمل في رصّ الطوب ويبلغ دخله السنوي من هذا العمل 200 جنيه سوداني. أصيب المدعي في حادث تصادم بين عربتي لوري فقد بسببه يده اليمنى. المدعى عليه كان يقود إحدى العربتين. بلغت نسبة العجز في اليد 80%
وجدت المحكمة ان المدعى عليه مسؤول عن الحادث بنسبة 75% وقسمت التعويض المستحق إلى نوعين. الأول: الخسارة المالية الفعلية وقد قدرتها المحكمة بمبلغ 1,333.000 جنيها عبارة عن فقدان كسبه المادي وفقدان يده اليمين.
والثاني: الخسائر غير المحددة الناشئة عن الألم والمعاناة والصدمة النفسية وقدرتها المحكمة بمبلغ 100 جنيه سوداني.
وما يهمنا في هذه القضية الحكم بمبلغ 100 جنيه تعويضا عاماً عن الألم والمعاناة والصدمة النفسية. ولكن التقرير المنشور في المرجع المشار إليه عن القضية غير مكتمل لذلك لم نستطع التعرف على خط المناقشة القانونية التي قادت المحكمة (القاضي: وستن) إلى الخلوص إلى هذه النتيجة.
ومع ذلك نعتقد أن هذه القضية تعطي المؤشر الصحيح الواجب الاتباع. وهنا يجب ملاحظة ان التعويض العام البالغ 100 جنيه لم يشمل التعويض عن الحرمان من مباهج الحياة مثل الرقص والمشاركة في المناشط الاجتماعية إلخ. ونحن إن كنا لا نعلم الظروف التي وقع فيها الضرر ومقدار الألم والمعاناة التي قاساها المدعي في تلك القضية إلا أننا نعلم جبداً مقدار الآلام القاسية والمعاناة التي كابدها السيد قطران في هذه الدعوى. فقد ظل راقدا في المستشفى وفي البيت تحت الرعاية الطبية لمدة 170 يوماً وسوف يخضع لعملية جراحية أخرى كبرى والله وحده العليم بمقدار ما سوف يعانبه من آلام.
ونحن نقوم بمحاولة تقدير مقدار التعويض العام المستحق للمدعي يجب علينا ألا ننسى أننا نقوم بمحاولة تقريبية لترجمة أمور معنوية تتعلق بالمشاعر والاحساسات الانسانية كالخوف والقلق ونحوها. كما يجب ألا ننسى المبدأ الذي يقول إن المدعي، أي مدعي يجب ألا يتوقع التربح من وراء التعويص عما وقع عليه من ضرر. يجب ألا يتوقع أن يكافأ، يجب ألا يتوقع أكثر من التعويض.
مع الأخذ في الاعتبار كل هذه المبادىء والأراء القانونية والوقائع نرى أن مبلغ التعويض العام الذي قدرته المحكمة الأدني للمدعي عال جدا. الحقيقة قد تفأجات هذه المحكمة بضخامة المبلغ إلى درجة وجدت نفسها تنطق بالعبارة التي ذكرها اللورد دينينق:" يا إلهي! هذا عال جدا". ولذا وجب علينا التدخل لتخفيض هذا المبلغ.
بالنظر إلى ظروف ووقائع الدعوى، نرى أن مبلغ 1,500 جنيها عن "التعويض العام" مبلغا معقولاً منه مبلغ 500 جنيه تعويضا عن الآلام والمعاناة النفسية والمعنوية، ومبلغ 1000 جنيه عن فقدان التمتع بمباهج الحياة ونحوها. وهذا المبلغ يجب ان يخفض بنسبة 50% هي حصة مسؤولية المدعي عن الحادث.
أيضا يجب أن يخفص مبلغ "التعويض الخاص" المحكوم به وهو 2,332.850 جنيهاً بنسبة 50% هي حصة مشاركة المدعي في الحادث، لتكون جملة مبلغ التعويض (خاصا وعاما) المستحق دفعه للمدعي هو مبلغ 1,916.425 جنيهاً.
لذا يقبل الاستئناف في هذه الحدود.

الحكم التقريري:
كانت المحكمة الأدنى قد أصدرت حكما تقريرياً declaration من شقين. ونحن نعدِّل هذا الحكم التقريري بشقيه ليكون كالآتي:
1- يصدر حكما تقريريا أنه إذا طالبت الحكومة أو السلطة القضائية المدعي برد أي مبالغ مالية تكون قد دفعت كنفقات سفر إلى المدعي أو زوجته سواء كان ذلك في سنة 1957 أو بعدها يحين موعد إجراء عملية "تقويم المفاصل"، يدفع مجلس البلدية نصف المبلغ الذي يرده المدعي إلى الحكومة أو القضائية مقابل تكلفة السفر جواً.
2- يصدر حكما تقريرياً بانه إذا دفعت الحكومة أو السلطة القضائية للمدعي أي أجر أو دفعت له أقل من الأجر المستحق عن فترة انتظاره بقائمة المرضى لسنة 1957 أو قرر المجلس الطبي أن المدعي اصبح من ضمن قائمة المرضى المنتظرين لسنة 1957 لإجراء العملية أو لأي فترة أخرى بعد العملية، يدفع مجلس البلدية للمدعي نصف ما فقده من الأجر (المرتب) المستحق في تلك الفترة.
الرسوم المتفق عليها لتدفع للمدعي مبلغ 112 جنيهاً.

القاضي/ محمد أحمد أبو رنّات/ رئيس القضاء:
أوافق.

القاضي/ محمد إبراهيم النور:
أوافق.

هوامش:
(1) ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1958 ص 85، Sudan Law Journal and Reports, 1958 وكانت المحاكم السودانية تصدر الأحكام القضائية بالانجليزية حتى سنة 1970.
(2) "المحكمة الأعلى" The High Court فضلنا "الأعلى"، على "العليا" التي تجدها في المصادر القانونية الأخرى، وذلك حتى لا تلتبس باسم "المحكمة العليا" المعروفة الآن. وتتكون "المحكمة الأعلى" من قاضي فرد ولها سلطة ابتدائية في نظر كل القضايا المدنية. ومن اختصاصها الفصل في الطعون التي ترفع إليها من المحاكم الجزئية وتستأنف أحكامها في كل الحالات إلى محكمة الاستئناف (العليا) ويرفع الاستئناف منها وإليها في شكل طلب مراجعة وهي تقابل "المحكمة العامة" في القوانين اللاحقة.. (المترجم).
(3) محكمة الاستئناف Court of Appeal هي أعلى محكمة في النظام القضائي السوداني آنذاك، لذلك وصفناها هنا بمحكمة الاستئناف (العليا) وهي محكمة واحدة في السودان مقرها الخرطوم. وتفصل محكمة الاستئناف (العليا) في الطعون المرفوعة إليها ضد أحكام وأوامر المحكمة الأعلى ومحكمة قاضي المديرية، وترفع إليها الطعون في شكل طلب مراجعة. ولم تنشأ "المحكمة العليا" بشكلها المعروف الآن إلا بصدور قوانين 1974 التي أعدتها لجنة برئاسة أبورنّات. (المترجم)

عبد المنعم عجب الفَيا – 18 سبتمبر 2022

abusara21@gmail.com

 

آراء