لا للحرب أو الكارثة

 


 

 

دعونا يا سادتي نفكر ملياً، ونتأمل في الوقائع التي أمامنا، ودعونا نجابه الحقائق كما هي، بلا زيف، لنستخلص النتائج التي على ضوئها نستطيع أن نتلمَّس طريقنا، وأن نُميِّز موقف الحق عن مواقف الباطل، ولست أزعم أن هذا المقال قادر على الوفاء بهذا الغرض، لكنه مجرد محاولة متواضعة، أو قل دعوة لوضع معطيات الحرب على طاولة البحث والتشريح، للتركيز فيها كما هي، بعيداً عن أي متاجرة أو تَكَسُّب، ولنرى بعد ذلك ما ستسفر عنه النتائج.. هل ستدعونا هذه النتائج لدعم الحرب والاصطفاف في صفوفها، أم ستدعونا لرفع شعار لا للحرب؟

يا سادتي كما هو معلوم، أن هذه الحرب الدائرة الآن، هي حرب يدور رحاها بين جيشين.. الجيش الأول، اسمه قوات الشعب المسلحة، لكن برغم هذا الاسم، فإن هذا الجيش تقوده قيادات لها توجهات وأطماع سياسية واضحة وضوح الشمس، ولا يخفى على أحد تحالفها مع التنظيم الشيطاني، الذي سبق له أن حكم البلاد، ويطمح الآن ويطمع لاستعادة أمجاده الغابرة.. ولا أحد يستطيع انكار أن هذه القيادات العسكرية ظلت تمارس السياسة منذ قيام الثورة.. هم سياسيون، رغم ظهورهم في اللباس العسكري، ورغم سيطرتهم على المؤسسة العسكرية، لدرجة أن البعض من أهل الصحافة قد أطلق على قوات الشعب المسلحة وهي تحت قيادتهم، حزب الجيش أو حزب القوات المسلحة، في إشارة إلى أن قادتها قد جعلوا منها حزباً سياسياً، مثلها مثل سائر الأحزاب السياسية الأخرى.. وهذه حقيقة لا يُماري فيها إلا مكابر.

وحقيقة أخرى أن التنظيم الشيطاني يقوم بمهام الجناح السياسي المدني للقادة العسكريين المهيمنين على قيادة قوات الشعب المسلحة.. وهذا الجناح السياسي يعمل ليل نهار على تأجيج نار الحرب وتسعيرها، لأنه يرى أنه لا سبيل له، ولا طريق يوصله إلى السلطة، وإلى الهيمنة على ثروات السودان، إلا بإزالة وتحطيم العقبة الكبرى الكأدء التي تقف أمامه، وتحول بينه وبين تحقيق أهدافه، وهي هذا الجيش الآخر المسمى بقوات الدعم السريع.

وهذا التنظيم السياسي الشيطاني يعمل الآن بكل ما وسعه الجهد، وبرغم ظروف هذه الحرب، على تخوين كل خصومه السياسيين، وكل واجهات ومؤسسات ورموز الثورة التي أطاحت بسلطانهم، لكي يسهل عليه في المستقبل تصفيتهم حقيقةً لا مجازاً، ليخلو له الجو إذا قُدِّر له الانتصار لحكم البلاد منفرداً إلى أبد الآباد.. ولذلك يُروِّجُون أن أحزاب قوى الحرية والتغيير خائنة وعميلة، ولجان المقاومة بالأحياء يعملون كمرشدين لقوات الدعم السريع، ويساعدون مقاتليه للوصول إلى بيوت ضباط الجيش، وضباط الأجهزة الأمنية الأخرى.. وبالتالي كل هؤلاء عملاء، دمهم حلال، ونسفهم من الوجود حلال.

وفي المقابل فإن قوات الدعم السريع تخضع لقيادة حميدتي، وأسرة آل دقلو، وهذه أيضاً حقيقة لا يمكن انكارها، وكذلك لا يمكن انكار أن حميدتي رجل له طموح سياسي كبير، فهو أيضاً قائد عسكري أو بمعنى أدق مالك لجيش وسياسي في الآن نفسه.. الجيش جيشه، والعتاد عتاده، وكلما تضخم وازداد قوة ومنعة، كلما تضخم طموحه السياسي وازداد توهجاً وسُعاراً.. فلا يخفى حتى على المعاتيه والمجاذيب في السودان أنه يريد استغلال منصبه كقائد لقوات الدعم السريع، أو استغلال امتلاكه لهذه القوات، للاستحواذ على السلطة والثروة في كامل البلاد.

فلقد كان واضحاً جداً أنه شارك في فض اعتصام القيادة العامة لكي يهيمن هو وباقي عصابة العسكر على السودان، وشارك كذلك في انقلاب 25 أكتوبر 2021 لنفس السبب، ولذلك لا مجال البتة لتصديقه الآن، أنه بخوضه هذه الحرب، يريد أن يُؤسس لحكم مدني ديمقراطي.

ولكل ما سبق فإن تشجيع حالة الحرب ودعم استمرارها، سيضعنا لا محالة أمام ثلاثة احتمالات لا رابع لها، فإما أن تحدث الطامة ويتمكن الدعم السريع من كسر الجيش والتغلب عليه فتشرق علينا الشمس ونجد حميدتي ملكاً متوجاً على البلاد، وآل دقلو أمراءها، ووقتها لن تغيب النجوم عن سمائنا لا ليلاً ولا نهاراً، وإما أن ينتصر الجيش ويهيمن التنظيم الشيطاني مجدداً على السودان، وسنشهد بعودته إذا عاد دكتاتورية دموية متوحشة، تخضب حياتنا بالأحمر القاني وتقلب نهارنا ليل.. والاحتمال الثالث أن تستمر الحرب كَرَّاً وفَرَّاً، لا غالب ولا مغلوب إلى ما شاء الله.

وطالما كل احتمال أسوأ من أخيه، وطالما هذه هي احتمالات الحرب التي ليس هناك غيرها وليس من بينها ما هو جميل فلماذا ندعم استمرار الحرب؟ ولماذا ندعم استمرار الحرب إذا علمنا أن استمرار الحرب سينتج لنا حتماً في النهاية دكتاتورية بشعة متوحشة، إما أن تكون دكتاتورية كيزان، أو دكتاتورية آل دقلو؟ واذن لماذا نقف ونشجع الحرب؟ ما الذي يغرينا لهذا الفعل؟ ما هي مصلحتنا نحن كمواطنين فيما يحدث، مع كامل علمنا وتمام يقيننا أن ما يحدث هو بكل الأحوال خسارة لا توازيها خسارة للسودان، وجريمة كبرى تُرتكب في حق الشعب السوداني؟

لماذا يا سادتي ندعم الحرب، ولماذا نشجعها أصلاً، ولماذا نُحرِّض عليها، وهي في كل احتمالاتها ضرر وأذية وخراب للوطن والمواطن؟ إذا انتصر الدعم السريع سيملكنا آل دقلو.. وإذا انتصر الجيش سيملكنا الكيزان.. وإذا لم ينتصر أحد ستستمر الحرب وستستمر معاناتنا وسنعيش أياماً سوداء حالكة وستتوزع بلادنا وتتمزق إلى مناطق نفوذ.. لا اقتصاد ولا خدمات ولا أمن ولا أمان.. فما المغري اذن في دعمنا وتشجيعنا وتحريضنا للحرب؟ هل هذا تصرف عاقل؟ هل هذا موقف عقلاء؟

وفوق ذلك، نحن الآن نرى أن هذه الحرب في خلال أيام معدودات قد تسببت في دمار وخراب هائل للبلد، ما كان في مقدور أكثر المتشائمين أن يتنبأ به ويتوقعه، كما وقد تسببت في تشريد كبير للأهالي، وسفك لدمائهم، وضياع لأعراض وممتلكات وهدم لبيوت ونهب لمحلات ومصانع ومتاجر، ناهيك أن هناك احتمال راجح إن استمرت هذه الحرب أن تنحدر إلى حرب أهلية، ووارد جداً وقتها إن وقعت أن نُودِّع السودان وإلى الأبد.. فيا أيها العقلاء ما المغري اذن في دعم وتشجيع هذه الحرب والتحريض عليها؟

واذن الوقوف ضد هذه الحرب ومناهضتها الآن قبل غدٍ هو واجب وطني كبير، وتصرف عاقل لا ريب فيه، كما أنه واجب ديني وأخلاقي.. ولقد وضح لنا وبالتجربة أن هذه الحرب لن تنتهي بانتصار ساحق لطرف على طرف.. هي فقط ستزيد من معاناتنا، وستسفك مزيداً من دمائنا، وستشرد أهالينا، وسَتُضَيِّعُ بلادنا.. مع الأخذ في الاعتبار أنها حرب قابلة للتَمَدُّدِ والاستدامة، وعوامل ذلك فيها قوية وراجحة.

وحتماً في النهاية، وبعد مرور وقت قليلٍ أو كثير، سيصل كل طرف على حدة، إلى قناعة مفادها أن أطماعه وطموحاته لن تتحقق، ومستحيل أن تتحقق، وسيتأكد السودانيون وسيدركون تماماً وقتها، بعد أن تنقشع غشاوة الدجل الذي يَتَفَشَّى الآن، أنه لا أحد من هذين الطرفين يحمل مشروعاً وطنياً خالصاً لأجل السودان، ولصالح كل السودانيين، وبالتالي سيتقلص وينكمش ويتناقص معسكر الحرب لصالح مشروع الدولة المدنية الديمقراطية.

وهذا ليس حلماً، وإنما هذا هو المخرج الوحيد من الحرب، لأن مشاريع الهيمنة والتسلط على السودان التي تحملها لنا هذه الحرب، لا توجد لها فرص للنجاح.. لا يمكن للتنظيم الشيطاني أن يهيمن ويتسلط مجدداً على السودان.. وكذلك لا يمكن لآل دقلو أن يهيمنوا ويتسلطوا على البلاد.

واذن فنحن موعودون أن تخرج لنا من غياهب هذا الحال البئيس المتردي دولة ديمقراطية، يتوافق عليها كل السودانيون، فيضعون أسلحتهم من أجلها، لتشق طريقها وتنبثق من بين الركام وآثار الدمار، ولابد من الديمقراطية وإن طال الطريق وادلهم، ووقتها بحق سيكون السودان لكل السودانيين، وليس سوداناً حكراً للتنظيم الشيطاني، ولا مملكة لآل دقلو.

بحق لا حل لنا في السودان غير التوافق على نظام مدني ديمقراطي.. وخلافاتنا لا مجال لحلها إلا عبر الوسائل الديمقراطية، لا الوسائل العسكرية.. ولتتحول بعد ذلك معاركنا من معارك مسلحة في ميادين القتال، إلى معارك لسانية في ميادين التنافس السياسي الحر وفي البرلمان.. وبدلاً من أن نحتكم إلى البندقية نحتكم لرأي الشعب.. فيكون أكثرنا قوة ليس الذي يملك سلاحاً كثيراً، ولا عتاداً عسكرياً كثيراً، وإنما أكثرنا قوة هو ذلك الذي يملك منطقاً مقنعاً، وحجة بالغة، وشعبية طاغية، والذي يستطيع أن يستأثر بمحبة الشعب، ويملك أفئدة الناس.

almoaz2004@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء