مجموعة فاغنر الروسية .. ومؤسسها يفغيني بريغوزين

 


 

 

25 يونيو 2023م

بدأ يفغيني بريغوزين حياته منذ الصبا نزيلاً في سجن لينينغراد الروسي، في ذات المدينة التي ولد فيها في الأول من يونيو عام 1961م، وأصبح اسمها سان بطرسبرج، حيث حكمت عليه المحكمة بـ 13 سنة سجناً في عام 1980م، لارتكابه جرائم السطو والنهب، وهو دون سن العشرين في ذلك الوقت، بحسب التقارير الصحافية، منها صحيفة "غارديان" البريطانية، وآخرها تقرير ضاف نشرته صحيفة "إكسبريس الهندية" (Indian Express) التي أوردت أن الرجل بعد تلك الخلفية تطور ليصبح طباخاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين! ثم واصل القفز ليكون واحداً من أقوى الرجال في روسيا، بل صار يطمح إلى تشكيل تهديد الرجل الذي التقطه و دعمه وصادقه عبر السنين، وهو بوتين نفسه، من خلال دعوته لتسيير قواته نحو موسكو، فيما أطلق عليه الرئيس بوتين "خيانة" و توعد المشاركين فيها بالعقاب، وهي الدعوة التي تراجع عنها يفغيني بريغوزين بعد تدخل رئيس روسيا البيضاء وحليف موسكو المقرب الرئيس إلكساندر يوكوشينكو، ليتراجع بوتين من توجيه الاتهام و يتراجع رئيس مجموعة فاغنر عن محاولته الانقلابية.

حدث هذا بعد أن قام مرتزقة مجموعة فاغنر بالسيطرة على المنشآت العسكرية في مدينة فورونيج الواقعة على بعد نحو 500 كيلومتر جنوبي موسكو، بالإضافة إلى مدينة روستوف أون دون، الواقعة على بعد حوالي 1,100 كيلومتر جنوب موسكو. ويبدو أن المواجهة كانت في الأصل بين قائد المرتزقة و القيادة العسكرية للجيش الروسي، في تنافس ظاهر على القرارات العسكرية في العمليات التي تشارك فيها مجموعة فاغنر في أوكرانيا بصفة خاصة.

خرج الصبي يفغيني بريغوزين من السجن بعد عشر سنوات في عام 1990م ليصبح خلال فترة قصيرة نسبياً "أحد أغنى الرجال في روسيا وأكثرهم نفوذاً" على حد قول صحيفة "إنديان إكسبريس". فقد بدأ رحلته نحو النفوذ يبيع النقانق (هوت دوغ) في مدينة سان بطرسبرج، لكنه كان يملك عيناً زائدة الطموح، ينظر دائماً لما هو أكبر، بحسب صحيفة "غارديان"، وسرعان ما انتقل إلى المشاركة في مشاريع أكبر، منها محلات السوبر ماركت و مجال العمل في المطاعم.

وفي عام 1995 تمكن من إنشاء سلسلة من المطاعم وشركات تقديم الطعام، منها شركة في سانت بطرسبرغ اسمها شركة "كونكورد" لتقديم الطعام (Concord Catering) مستغلاً البيئة الاقتصادية الليبرالية التي أعقبت إنهيار الاتحاد السوفييتي وازدهار قطاع الخدمات خاصة في مجال تقديم الطعام والصناعات الغذائية وغيرها من الكماليات التي كانت شبه محرمة في النظام السابق لنظام الاتحاد الشيوعي المنهار، فأصبح بذلك سريعاً واحداً من أغنى الأفراد في روسيا.

الصعود في سلم العلاقات نحو الأبراج العالية
صار يفغيني بريغوزين يتقرب – من خلال أعماله – من الطبقة الحاكمة الروسية، وأصبحت شركته ("كونكورد" لتقديم الطعام) تحظى بشعبية كبيرة لدى العديد من الكيانات الحكومية الروسية، بما في ذلك الجيش الروسي، حيث أبدع الرجل في صناعة العلاقات من رجال السلطة والنفوذ، حيث قال رجل أعمال كان ممن يعرفون يفغيني بريغوزين منذ فترة طويلة لصحيفة الغارديان أن بريغوزين "يمكنه التكيف لإرضاء أي شخص متى ما كان بحاجة إلى شيء ممن يتقرب إليه، وكانت هذه بالتأكيد واحدة من مواهبه". و قد تزامن صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في عام 2001 مع نجاح يفغيني بريغوزين في أن يكون الزبون و المورد الرئيس والمفضل للأطعمة بالنسبة للأثرياء والأقوياء من أصحاب النفوذ السياسي في روسيا.

يظهر زعيم القوات المرتزقة - يفغيني بريغوزين (يسار الصورة) وهو يقدم الطعام للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال عشاء عام 2011 في مطعم بريغوزين خارج موسكو. (الصورة من وكالة أسوشييتد برس، نشرتها جريدة "إنديان إكسبريس").
كان يفغيني بريغوزين هو من يقدم الطعام في مائدة الرئيس فلاديمير بوتين كلما كان ضيوفه من كبار الشخصيات، كما حدث مع ضيفه جورج بوش و الأمير تشارلز، ملك بريطانيا الحالي، بل كان يظهر في خلفية الصور عند اجتماع بوتين مع كبار الشخصيات. كانت له موهبة كبيرة في جذب السياسيين، و في تطوير المعرفة العابرة إلى علاقة و صداقة بدأها مع فلاديمير بوتين ثم أحسن استثمارها لمصلحة الطرفين كما تقول التقارير الصحافية.
ووصل الأمر إلى حصول يفغيني بريغوزين على الأفضلية باستمرار في الفوز بالعقود الحكومية الكبيرة، مثل فوزه في عام 2012 بعقود بلغت قيمتها أكثر من 10.5 مليار روبل (200 مليون جنيه إسترليني) لتوريد الطعام لمدارس موسكو، وفقاً لتقرير صحيفة "غارديان".
لكن الرجل لم يكتف بذلك، فالطموح مع يفغيني بريغوزين لا حدود له، حيث صار ينظر إلى ما وراء الثروات الهائلة التي جلبتها له أعماله في مجال توريد المواد الغذائية، وقادته حكمة التنوع في الاستثمارات إلى الدخول في قطاع جديد ومختلف تماماً، وهو القيام بتنظيم جيش خاص!

القيام بالأعمال المحرجة نيابة عن روسيا
ظهرت مجموعة فاغنر في السنة التي قررت فيها روسيا اجتياح شبه جزيرة القرم عام 2014، حيث تم تنفيذ العمليات العسكرية بالتنسيق التام بين قوات مجموعة فاغنر مع القوات المسلحة الروسية، على الرغم من أنها ظلت تنظيمياً منفصلة عنها وغير مدمجة فيها، تحقيقاً لرغبات قيادات الطرفين. وتقول التقارير أن وجود مجموعة فاغنر حققت للرئيس بوتين تنفيذ بعض العمليات المحرجة والتي يفضل إنكارها .. خاصة خلال غزو 2014 لشبه جزيرة القرم، وعلى الرغم من أن الجيوش الخاصة محظورة رسميا في روسيا إلا أن مجموعة فاغنر كانت تعمل دون عقاب، بل وتنفذ "العمليات المثيرة للجدل" نيابة عن موسكو، مما يحمي القوات النظامية الروسية من التورط في اللوم والاتهامات. وبعد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، تم إرسال مقاولي واغنر العسكريين الخاصين (وهو الاسم المخفف لقوات المرتزقة الروس) إلى منطقة "دونباس" في شرق أوكرانيا، لمساعدة القوات الانفصالية الموالية لروسيا في جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبية خلال عامي 2014 و 2015م، وحالف المجموعة النجاح مما أدى إلى التوسع السريع للمجموعة و أصبحت مجموعة فاغنر تمثل جيشا بالوكالة للرئيس بوتين، بقيادة الجنرال يفغيني، واستمر التعاون إلى سوريا عندما قررت روسيا التدخل هناك، حيث كانت مجموعة فاغنر هي المقاول لتوريد المواد الغذائية والامدادات العسكرية لذلك القطاع، بل قامت المجموعة بخوض أكثر المعارك ضراورة نيابة عن الجيش الروسي، وتلقت الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، الكثير من الفظائع التي نشرتها صحيفة "غارديان" ومنها أنه تم القبض على رجال مرتبطين بفاغنر قاموا بقطع رأس رجل سوري وتقطيع أوصاله. ثم انتشرت مساحات المشاركة في المناطق التي تدخلت فيها روسيا حول العالم، بما في ذلك الحروب الأهلية في السودان وليبيا في إفريقيا وحتى فنزويلا خلال الأزمة الرئاسية لعام 2019. وكانت مجموعة فاغنر تنشط داخل روسيا أيضاً لدعم قدرات الحكومة الروسية من خلال "مزارع الروبوتات" التي أنشأها بغرض تعزيز نقاط المحادثات للكرملين في جميع أنحاء العالم، فضلا عن المشاركة في التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لعام 2016 وفقا لتقرير روبرت مولر أن بريغوزين والشركات المرتبطة به كانت وراء شبكة من الملفات الشخصية المؤيدة لدونالد ترامب على فيسبوك وتويتر، ويبدو أنها كانت جزءً من الجهود الروسية لتعزيز ترشيح دونالد ترامب. والغريب أن يفغيني بريغوزين يتباهى بهذا التدخل بصورة سافرة كما حدث ضمن بيان صدر العام الماضي حيث قال: "أيها السادة، تدخلنا، نحن نتدخل، وسنتدخل. بعناية، بدقة، جراحياً وعلى طريقتنا الخاصة، كما نعرف كيف. خلال عملياتنا الدقيقة، سنقوم بإزالة الكلى والكبد مرة واحدة".

الغزو الروسي لأوكرانيا 2022
وكانت مشاركة مجموعة فاغنر في "العملية العسكرية الخاصة" للجيش الروسي في أوكرانيا أمراً واضحاً ومكشوفاً، فعندما قرر بوتين غزو أوكرانيا في عام 2022 كان بريغوزين ومجموعته فاغنر في قلب العمليات الروسية، ومع توقف التقدم الروسي أصبحت القوة البشرية لفاغنر ذات أهمية كبيرة ومتزايدة في عمليات الجيش الروسي.
وفي ما بعد أصبح قائد مجموعة فاغنر مجندًا نشطًاً ومتحدثًا باسم المجموعة، حيث ظهر يفغيني بريجوزين في مقطع فيديو واسع الانتشار في عام 2022 داخل سجن، وهو يجند المدانين لخوض الحرب في أوكرانيا، وكان يقول للسجناء من خلال الفيديو إنهم على الأرجح سيموتون في الجبهة، لكن إذا بقوا على قيد الحياة لمدة ستة أشهر، فسيتم إطلاق سراحهم بعفو كامل ودفع أموال سخية لهم!
أما التطورات الأخيرة في العلاقة بين مجموعة فاغنر والسلطة في موسكو والجيش الروسي فقد بدأت بذورها منذ استيلاء مجموعة فاغنر على مدينة باخموت بشرق أوكرانيا بعد عدد من أكثر المعارك ضراوة في الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك عندما أطلق يفغيني بريغوزين إهانات بذيئة لضباط كبار في الجيش الروسي، بالإضافة إلى نشر مقطع فيديو تحدث فيه عن الخيانة المزعومة لكبار ضباط بوتين، وخاصة وزير الدفاع سيرجي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف، متهما هذه القيادة العسكرية بعدم اهتمامها بقواته واستخدامها كوقود للمدافع. في مقطع فيديو واسع الانتشار تم بثه في 5 مايو، أظهر حقلاً من مرتزقة فاغنر القتلى الذين قال يفغيني بريجوزين إنهم لقوا حتفهم بسبب نقص الذخائر نتيجة لقرارات اتخذها كل من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة الروسيان. وكانت هذه الخلفية وراء المحاولة الانقلابية التي سرعان ما تراجع عنها يفغيني بريجوزين كما تقدم بعد التدخل البيلاروسي.

kingobeidah@gmail.com

 

آراء