مرافعات جنوب أفريقيا.. في لوحٍ محفوظ

 


 

 

كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبدالحميد
الدعوة التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد كيان إسرائيل في محكمة العدل الدولية تمثل محطة مهمة في مسار العلاقات الدولية، فهي خطوة لا تخلو من ذكاء، وأنها فيما يبدو نتيجة متابعة لصيقة لمجريات الأحداث في غزة.. ينبع ذكاء الخطوة في أنها طوقت عنق إسرائيل بالاتفاقية التي وقعت عليها ويبدو أنها نسيتها في غمرة استمتاعها بدلال ما تعرف "بالأسرة الدولية". فقد أمنت إسرائيل العقاب في كل المحافل الدولية لاسيما في مجلس الأمن الدولي وهو المؤسسة الدولية التي دأبت أمريكا فيها بإسقاط اي إدانة لسلوكيات إسرائيل في كل ما يتصل بالحق العربي الفلسطيني. كما أن ذكاء الخطوة يتجلى في كونها نقلت القضية أمام محكمة العدل المختصة بالنظر في القضايا الخاصة باتفاقية الابادة الجماعية لسنة 1948 وبذلك جرّت قدم إسرائيل لساحات لم تعهد نفسها منكشفة من أي غطاء سياسي لا مجال فيه لممارسة الابتزاز المتكأ على النفوذ... فقد ووجهت إسرائيل بسيل من الاتهامات المرصودة بإحترافية عالية ومن خلال تصريحات القادة الإسرائيليين أنفسهم وبحيثيات متقنة ومتسقة مع ما يجري في ميدان الحرب ولا يمكن انكارها. فالحقيقة المدهشة أن هذه الدعوة هي أول حالة في تاريخ العلاقات الدولية - في حدود علم الكاتب - تُعقد فيها محاكمة بتهم الإبادة الجماعية في أثناء سير عملية الابادة قبل أن تُرفع الصحف وتُطمس الحقائق التي يكتبها عادةً الطرف المنتصر. غير أن الأهم بالنسبة لدراسي العلاقات الدولية أن هذه الدعوة قد حطمت خمس أساطير منها المرتبط بحالة إسرائيل ومنها المرتبط بعلم العلاقات الدولية لذلك ستظل هذه المرافعات في لوحٍ محفوظٍ يتغشاها دارسو العلاقات الدولية وعلماؤها في قاعات الدرس وبين دفتي المراجع والكتب والوثائق فيتأملونها في سياقات تلك العلاقات المعقدة ليتستمدوا منها السوابق كنقطة فاصلة نقلت حقل العلاقات بين الأمم لمحطة جديدة قوامها يقظة الضمير العالمي الذي هزته تلك المرافعات والذي ظل متأثراً ولوقت طويل بآلة الدعاية والاعلام المسيطر عليه صهيونياً بتصوير دولة إسرائيل بوصفها الضحية دائماً.
على عموم الأمر يمكن إجمال تلك الأساطير التي تحطمت بفعل تلك المرافعات في خمس نقاط على النحو الآتي :-
أولاً : تجريد إسرائيل من سلاح مقولة العداء للسامية وهو إدعاء دأبت على رفعه في وجه كل من تسول له نفسه الوقوف في وجه إسرائيل بناءاً على كونها ضحية الغرب (اليافثي) نسبة ليافث بن نوح. فهي لن تجرأ على الادعاء بأن جنوب أفريقيا الحامية تكن عداءاً للسامية ذلك أن القضية المطروحة أمام المحكمة هي تجاوز إسرائيل لإتفاقية منع الإبادة الجماعية الموقعة عليها إسرائيل نفسها فالدعوة هنا قانونية وأخلاقية وليست سياسية.
ثانياً: حطمت المرافعات الإدعاء الإسرائيلي القاضي بأن ثمة تحالف بين الديمقراطيات العالمية ضد "الإرهاب" الذي تمارسه حماس، فقد أبرزت مجريات الحرب والمجازر وأفعال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل يومياً منذ ما بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023م أن هذا الفعل مستنكر من أحد أهم الديمقراطيات في العالم وهي دولة جنوب أفريقيا، فضلاً عن مستويات الحرج الذي سببته وتسببه إسرائيل للعديد من الديمقراطيات التي تدعمها كفرنسا على سبيل المثال والتي تنصلت من دعمها اللامحدود لإسرائيل. كما أن إدارة بايدن قد وقعت في حرج بالغ أوصلها لأدنى مستويات الدعم الشعبي لرئيس أمريكي في الخمسة عشر سنة المنصرمة.
ثالثا: خلقت هذه الدعوة طريقاً مغايراً بالاهتمام بحقوق الإنسان بعيدا عن المنظمات الدولية التي تسيطر عليها أمريكا ومن خلفها إسرائيل بحيث يتعذر إدانة إسرائيل في تلك المنظمات والمحافل شبه المحتكرة.
رابعاً: نقلت الدعوة ضد إسرائيل من أروقة مجلس الأمن حيث الفيتو الأمريكي المستعد دوماً لمناصرة إسرائيل، فالمحكمة وعلى الرغم من أنها احد أجسام الأمم المتحدة الأساسية غير أنها تتمتع بإستقلالية كبرى عن النفوذ الأمريكي وتعتمد على سماع المرافعات بصورة حرة اعتماداً على حيثيات قانونية يصدر بشأنها قرار قضائي ولا يتماس مع السياسة إلا في أضيق نطاق.
خامساً: حطمت الدعوة أمام هذا المحفل القضائي الرأي المستقر في العلاقات الدولية بأن منطق القوة يمكن أن يحقق أهداف الدول، واستبدلته بالمقولة التي تقول القوة لا تصنع حقاً Might doesn't make right.
إن ما اقدمت عليه جنوب أفريقيا برفعها الدعوة على إسرائيل واتهامها بإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية حتى ولو تم رفضها قضائياً، فإنها قد نقلت أحد أهم القضايا الإنسانية المسيجة بأساطير إسرائيل والمحمية بقوة "الردع" الأمريكي الامبريالي لقضية أخلاقية تدور أمام أعين العالم وتهز فيه الضمير الأخلاقي هزا عنيفاً بذات درجة العنف الذي تهز به آلة القتل الإسرائيلية أركان قطاع غزة على رؤوس ساكنيه من المدنيين العزل.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

 

آراء