نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (3): لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل 

 


 

 

نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة:

لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل

(البحث عن النسب الفكري والسياسي)

(3-7)

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

خبير سياسي وباحث أكاديمي

abdallaelbashir@gmail.com

 

  1. تجليات استكمال الاستقلال والنقد العملي للإرث الاستعماري


 

منذ استقلاله وحتى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، لم يشهد السودان عملاً جماعياً في سبيل نقد الإرث الاستعماري واستكمال الاستقلال، مثلما كان عمل لجان المقاومة. لقد كان عمل لجان المقاومة في كل مراحله وبمختلف وسائله وشعاراته، بمثابة نقد عملي للإرث الاستعماري، ونقد عملي كذلك لمسار السودان السياسي. ولهذا نجدد القول بأن لجان المقاومة ليست هيئة أو جسم يسعى لإسقاط النظام السياسي، وإنما هي تعبير وتوق لبعث السودان بتاريخه التليد ومبادراته الحضارية الضخمة، في أفق جديد. ويتجلى ذلك في لجان المقاومة باعتبارها حالة يقظة تعيشها شعوب السودان، وهي في تحرر من المعرفة الاستعمارية، وتجاوز لمبادئ الأحزاب السودانية ورؤاها المنحازة والركيكة، وهي أيضاً في حالة تبرأ من الإرث السياسي للدولة السودانية.

لقد ظهرت كل تلك المعاني عند لجان المقاومة في قيم جديدة، ومفاهيم جديدة، وروح وطنية جديدة، وأساليب جديدة في التعاطي مع الوطن. وكل هذه المعاني كان الاستعمار قد زيفها وأفسدها في الجرعات التعليمية التي تناولها طلائع المتعلمين الذين قادوا الدولة السودانية بعد الاستقلال. تحدث الأستاذ محمود محمد طه في أكتوبر 1958 في مقال له بعنوان: "نظرات في السياسة الداخلية والخارجية"، وتحت محور بعنوان: "نحن شعب بلا سياسة"، قائلاً: إن ساسة الشعب السوداني منه "وهم بذلك يشاركونه أصالته، إلا أن سادتهم [الإنجليز]، قد زيفوهم وأوسعوهم تزييفاً.. علموهم فأفسدوا تعليمهم وربوهم فأساءوا تربيتهم ولم تكن روح الخدمة العامة ولا روح التضحية ولا روح الوطنية الحقة عنصراً من عناصر تعليمنا ولا عاملاً من عوامل تربيتنا على يد مستعمرينا.. وما يمكن لها أن تكون ثم أن حركتنا الوطنية لم تمتحن بما يعمق هذه المعاني عندنا ويعيد تعليمنا على هداها". لقد ساهم الاستعمار في تعطيل الطاقات وتجميد حركة التغيير كما أشار لذلك عبد الرحمن عبد الله، فقد كتب في كتابه: السودان: الوحدة أم التمزق، ترجمة الفاتح التجاني (2002)، قائلاً: "وفي حقيقة الأمر فإن الميراث البريطاني الإداري لم يشفع للسودانيين لمواصلة الحكم بفاعلية، وكما حدث في الهند فلقد أرسوا دعائم حكم القانون، ولكن، ورغم المظهر الخارجي، كما قال نهرو (جمدوا حركة التغيير)".

لقد خرج الاستعمار في الأول من يناير 1956 بينما ظل الإرث الاستعماري ماثلاً في واقع السودان السياسي والثقافي والاجتماعي، بل يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، ونقول بأن المعرفة الاستعمارية لا تزال تسيطر على العقول، وبالتالي فهي لا تزال تتحكم في مسار السودان. كان الأستاذ محمود محمد طه قد تحدث عن هذا المعنى في كتابه: الدعوة الإسلامية الجديدة (1974)، قائلاً: "نحن حتى الآن مستقلون سياسياً، مستعمرون فكرياً"، وليس لدينا سوى الثقافة الغربية، وهي الثقافة التي تستعمرنا، فقد "أخرجنا مستعمرينا من أرضنا، وهي لا تزال تستعمر عقولنا" . يتجلى الإرث الاستعماري في العديد من المجالات في السودان، ولا يزال حاضراً وبقوة. كان عبد الرحمن عبد الله في كتابه، آنف الذكر، آثار الاستعمار وتمكنها من الحياة السودانية، فتحدث مشيراً لحديث بازل ديفيدسون(1910-2014)، الذي لمع اسمه منذ عام 1951 كمؤرخ بريطاني، وكان قد عمل إدارياً في المستعمرات البريطانية، ونشر العديد من الكتب عن أفريقيا. منها:  Africa under new lights أفريقيا تحت أضواء جديدة (1958)، الذي عكف على ترجمته الدبلوماسي السوداني جمال محمد أحمد (1915-1986)، قال ديفيدسون: إنه في أغلب الحالات في المستعمرات "فإن التعليم كان من أجل تثبيت الأمر الواقع، والأمر الواقع الاستعماري على وجه التحديد" وأن نفوذ من احتلوا المواقع استمر "لأن المكاتب التي جلسوا عليها، هي نفسها المكاتب القديمة، وكذلك الملفات التي يعملون عليها، فقد تغيّر الحكام ولم تتغير مؤسسات الحكومة الكولونيالية". وتحدث محمد عمر بشير (1926-1993) في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900- 1969) عن مخلفات التعليم الاستعماري، قائلاً: "والتعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ اتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية". وهذا ما عبَّر عنه جيمس روبرتسون، كما أورد عبد الرحمن عبد الله، حين كتب روبرتسون، قائلاً: "إن النظرة للسودانيين المتعلمين كانت ملأى بالشك، ولم يكن يسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم، كما لم يهيئوا لمهام مستقبلية". وهذا ما أكده عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي (1930- 2011) عندما تحدث عن آثار التعليم الاستعماري وخطورة الجرعات المعرفية التي تشربها مثقفو الدول المستعمَرة، ولم يستثن بني جيله، حيث قال إنهم تشربوا معرفة "علمتهم الجدل ومنعتهم العمل". ولعل الشغف بالجدل وقلة العمل عند المثقفين السودانيين أمر واضح، ولا يزال حاضراً، وقد توارثته الأجيال منذ جيل طلائع المتعلمين الذي تعلم وتربى في مدارس الاستعمار.

واليوم تشهد هذه المعرفة الاستعمارية، والإرث السياسي، أكبر عملية نقد عملي في لوحة ثورية مدهشة، تقدمها لجان المقاومة، وهي تقود أوسع عمليات التحرير والتغيير، وتبعث بالمواطن الجديد الأصيل. ويمكن تناول ذلك من خلال العديد من القيم الجديدة، والمفاهيم الجديدة، والروح الوطنية الجديدة، منها:

 

3- 1. حب الوطن عند لجان المقاومة يكتسب معناً وطعماً جديدين

         التضحية في سبيل الوطن تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية

 

لقد تجلى النقد العملي للمعرفة الاستعمارية، والتجسيد للمعاني الجديدة في حب الوطن، في التضحية التي قدمها الشباب السوداني، نساءً ورجالاً، وفي مقدمتهم لجان المقاومة، خلال ثورة ديسمبر المجيدة. كان مستوى التضحية التي قدمها هؤلاء الشباب، من البنات والأولاد، أمراً مدهشاً وجديداً في تاريخ السودان منذ استقلاله. استعداد تام لمواجهة الموت، ليس رغبة في الموت، وإنما إيماناً بعدالة قضيتهم، وبأي سلاح؟ بسلاح السلمية، مع ثبات في سبيل المبادئ والأهداف الثورية، وهم يستقبلون الموت برباطة جأش متناهية. وهذا ما لم يتربى عليه القادة والسياسيين من طلائع المتعلمين ومن جاء بعدهم، كما وردت الإشارة.فخلو الإرث السياسي من التضحيات في سبيل مواجهة الاستعمار، وغياب التضحية في سجل القادة والسياسيين في سبيل الاستقلال، أوجد الانتهازية لدى قادة الحركة الوطنية، كما يرى محمود محمد طه. فغياب التضحية، عنده، يعني تفشي الانتهازية. فقد تحدث في ديسمبر 1968، قائلاً: "إن التضحية تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية". بينما نشهد اليوم تضحية نادرة المثيل لدى لجان المقاومة. وبهذا المستوى من النبل والصدق في التضحية من أجل الوطن، فإننا أمام معنى جديد، وقيم جديدة، وروح وطنية جديدة، ساهمت وبقوة وبجلاء في التحرر من المعرفة الاستعمارية، ولا شك في أنها ستشكل ملامح مستقبل السودان في أفق جديدة.

 

3- 2. من صفوية المزاج وعوف البيئات المحلية إلى الشراكة والالتصاق بالواقع

تفصل بين النخبة السودانية وواقع شعوبها، فواصل وحواجز سميكة وكثيفة، يسهل تتبع مظاهرها وجرد مآلاتهاوآثارها. كانت النخبة السودانية، ولا تزال، ذات مزاج صفوي نتيجة للمعرفة الاستعمارية، ومترفعة عن الواقع السوداني. لقد أشار الدكتور محمد سعيد القدال (1935-2008) إلى المزاج الصفوي لدى النخبة، وإلى عملها الفوقي. وتناول أثرهما في نشأة الحركة الوطنية السودانية في بواكير القرن العشرين، وإلى دورهما في علاقة المثقفين بالجماهير وحركة المجتمع. وقد تحدث عنها في أربع كتب من كتبه، هي: الانتماء والاغتراب، دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث (1992)؛ والإسلام والسياسة في السودان (1651م-1985)، (1992)؛ ومعالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، (1999)؛ وتاريخ السودان الحديث 1820-1955، (2002). كما تحدث البروفسير محمد إبراهيم أبو سليم (1927-2004) في دراسته عن محمد أحمد المحجوب والتي ضمنها كتابه: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان، (1991)، عن ضعف دور وأثر المتعلمين في المجتمع، وعن العوامل التي أدت لذلك الضعف. وقال واصفاً المحجوب: "كان مترفعاً على الناس لاحساسه القوي بتفوقه ومقدراته ومكانته، ولأنه لا يؤمن إلا بالخاصة، وهم المثقفون عموماً والعلماء خاصة...". أيضاً، وسم الدكتور عبد الله علي إبراهيم إحدى مقالاته بوسمٍ تضمن وصفاً لعلاقة النخبة بالواقع، حيث كان: "صفوتنا: ضيوف ثقلاء على الواقع" (12 فبراير 2010). وقال ضمن حوار تلفزيوني بقناة النيل الأزرق الفضائية: هناك الكثير من الشواهد التي تُبين أن هناك فجوة كبيرة بين الصفوة وبين مزاج غمار الناس (13 أبريل 2010). وقال الدكتور منصور خالد (1931- 2020) في شأن النخبة السودانية الكثير والكثير.

نلتقي مع الحلقة الرابعة.

ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk

 

4

 

 

آراء