نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (4): لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل

 


 

 

(البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(4-7)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com

تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياس ية السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".

3. تجليات استكمال الاستقلال والنقد العملي للإرث الاستعماري

وقفنا في الحلقة الماضية، وهي الثالثة، على طرف من تجليات استكمال الاستقلال والنقد العملي للإرث الاستعماري الذي ظلت تقدمه لجان المقاومة، وقلنا إن السودان ومنذ استقلاله وحتى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، لم يشهد عملاً جماعياً في سبيل نقد الإرث الاستعماري واستكمال الاستقلال، مثلما كان عمل لجان المقاومة. لقد كان عمل لجان المقاومة في كل مراحله وبمختلف وسائله وشعاراته، بمثابة نقد عملي للإرث الاستعماري، ونقد عملي كذلك لمسار السودان السياسي. وجددنا القول بأن لجان المقاومة ليست هيئة أو جسم يسعى لإسقاط النظام السياسي، وإنما هي تعبير وتوق لبعث السودان بتاريخه التليد ومبادراته الحضارية الضخمة، في أفق جديد. ويتجلى ذلك في لجان المقاومة باعتبارها حالة يقظة تعيشها شعوب السودان، وحالة تحرر من المعرفة الاستعمارية، وتجاوز لمبادئ الأحزاب السودانية ورؤاها المنحازة والركيكة، وهي أيضاً في حالة تبرأ من الإرث السياسي للدولة السودانية. وقفنا عند القيم الجديدة والروح الوطنية الجديدة، منها التضحية في سبيل الوطن، باعتبارها فعل يمنع الانتهازية في الممارسة السياسية، وتناولنا طرفاً من محور جاء بعنوان: من صفوية المزاج وعوف البيئات المحلية، الموروث، إلى الشراكة والالتصاق بالواقع ففعل جماعي للجان المقاومة. واليوم إلى الحلقة الرابعة.

أشار البروفسير محمد عمر بشير (1926-1993) في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969، إلى ملاحظة أحد الدارسين الغربيين؛ إذ لاحظ أن المتعلمين السودانيين أتوا إلى مؤسسات التعليم الحديث من مجتمعات بسيطة، ومن بيئات فقيرة وقاحلة، وبعد نيلهم للتعليم الحديث، أصبحوا بعيدين عن مجتمعاتهم، محتقرين لبيئاتهم التي أتوا منها. وقد وصف البروفيسور عبد السلام نورالدين المتعلمين بأنهم كانوا يعافون بيئاتهم التي جاءوا منها. وأيضاً تحدث الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب (1918-1982)، في مقدمة ديوانه: الشرافة والهجرة، (1982)، عن مدى احتفاء الناس بالأفندي واكرامهم له، وكيف كان يقابل الأفندي هذا الاحتفاء والاكرام قائلاً: "وكان لقب الأفندي شيئاً عظيماً، يمر صاحب اللقب فيقف له الناس ويتصايحون: فلان أفندي! مرحبْ.. حبَابَك.. اتْفَضّل، ولا يتفضل الأفندي، فهو ذاهب إلى نادي الموظفين يتذوق مثله العليا.. الطمع الثقافي.. الترقية والكيد وخدمة الطائفية والأنس بالحاكم، وثبت لي أن الفتى المهاجر لم يكن ذا ولاء لزيه الأفرنجي، وعرفتُ في وقت مبكر أنه كان يتنكر ويمر بجواز غير دقيق التزييف".
الشاهد، أن تعالي النخبة عن الواقع، وصفوية مزاجها، واقع ماثل ومسلك ظاهر. أدى التعالي عن الواقع والمزاج الصفوي لدى النخبة، إلى هامشية علاقتها بالواقع، وتجلى ذلك بوضوح في ضعف المساهمات والمعالجات لقضايا السودان ومشكلاته، وقلة الرسوم للمخارج النيرة لأزماته. أيضاً، جردت هامشية العلاقة، الواقع من فرص الاتصال بالقوة الإبداعية القادرة على وضع السيناريوهات للبدائل والخيارات عبر الكشف الحقيقي لأسباب القضايا ومركباتها. فانتهى الاتصال بالواقع إلى سطحية الفهم وضعف التحليل وتبسيط الأمور وردود الأفعال في المواقف والمسارات. أرجع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942- 2004) سطحية معالجة القضايا، وتبسيط الأمور، والضعف في الكشف الحقيقي عن أبعادها، إلى هامشية علاقة المثقفين بالواقع. وكتب في قراءته لمسار الحركة السياسية السودانية ضمن كتابه: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، (جدلية التركيب)، مج 1، (1996)، قائلاً: "بقيت الحركة السياسية السودانية –ضمن كتاباتها- خارج هذا التراث الضخم (تراث السودان الحضاري)، فافتقرت بالتالي إلى معاناة الأصول المعرفية في تركيب الواقع السوداني، تاريخياً وحضارياً واجتماعياً وفكرياً. بقيت على السطح وفي حدود المقالة السياسية الظرفية. أي تبسيط الأمور كما هي بساطة السوداني الريفي ودون نفاذ إلى عناصر تكوين السودان في حقائقها وتفاعلاتها".
اليوم ومع حراك ثورة ديسمبر المجيدة الذي تقوده لجان المقاومة، وعلى مدى أربع سنوات، نشهد النقد العملي لصفوية المزاج هذه، ونعايش لحظات التحرر والانتقال من وضعية صفوية المزاج وعوف البيئات المحلية إلى الشراكة والالتصاق بالواقع. وهنا علينا، أن ندرك بأننا أمام واقع جديد كلية.

3-3. من الانقسامات والثنائية الموروثة والثأرات السياسية إلى البناء الجماعي للوطن

رُزئت النخبة السودانية بالعديد من العلل، فإلى جانب المزاج الصفوي، كان الصراع العنيف والعقيم فيما بينها منذ ظهور طلائع المتعلمين في الشارع السوداني وحتى اليوم. خسر السودان كثيراً من هذا الصراع العميق، وأكبر الخسائر وأكثرها فداحة هو غياب ثقافة البناء الجماعي للوطن. وكان الدكتور فرانسيس دينق قد أشار في كتاباته إلى غياب البناء الجماعي للوطن. كتب محمود محمد طه ضمن بيان أصدره عام 1958، وقدم فيه استقراء لطابع الحركة الوطنية، فتناول الانقسامات وآثارها، قائلاً: "كانت الحركة الوطنية بين هؤلاء (دعاة التحالف مع بريطانيا) وهؤلاء (دعاة الاتحاد مع مصر) لا تجد فرصة للدرس والتفكير والنضوج، بل لا تجد فرصة حتى لإشاعة روح الزمالة والثقة المتبادلة والشعور بوحدة المصير".
لقد اتسم تفاعل النخبة مع الواقع وتعاطيها مع مشكلاته، وسُبل تغييره بالصراع العنيف والعقيم فيما بينها. فالنخبة بحكم التعليم، والمعرفة وعمق بعضها، معنية بالإنتاج المعرفي، والمساهمة في مجمل الحركة الاجتماعية، وإحداث التغيير في المجتمع وتحديد مساراته. كان دور النخبة منذ طلائع المتعلمين، قياساً لقضايا السودان ومشكلاته، ضعيفاً. فالتغيير - وهو مطلب القوى الحديثة - الهادف إلى تحقيق التعايش والاستقرار والسلام والتنمية في السودان، لم يتحقق. كانت طبيعة العلاقة بين النخبة، وطبيعة تعاطيها مع مدارسها الفكرية والمعرفية التي ترسمتها في التفاعل مع الواقع، قد اعاقتا قيام النخبة بدورها المنوط بها. لقد شاب العلاقة بين أفراد النخبة، وتنظيماتهم المدنية والحزبية، شوائب كثيرة متداخلة ومركبة، منذ ظهورها مع بداية التعليم الحديث في بداية القرن العشرين. فالجفوة الباكرة والمستمرة فيما بينها، والتنافس المحموم، والدسائس والمؤامرات، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين، وحسد بعضها البعض، والصراع العنيف، كانت من أبرز مظاهر تلك العلاقة. أشار البروفسير محمد عمر بشير (1926-1993) في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، إلى نشأة المشاجرات والنزاعات والخصومات بين طلائع المتعلمين. وأشار إلى اتجاه الحسد كأحد مخلفات نوع التعليم وضعف الملكات النقدية، قائلاً: "والتعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ اتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية". كان التنافس المحموم قد صاحب مرحلة البدايات، بداية علاقة النخبة بالقوى التقليدية المؤثرة في المجتمع، وبداية مساهمات النخبة في الواقع السوداني.
أرجع البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم في كتابه آنف الذكر، إخفاق طلائع المتعلمين في قيادة السودان المستقل إلى: "ضعف أجهزته السياسية، وطغيان الطائفية، والتدخلات الخارجية، وفقدان الاتجاه، وأصبح العمل السياسي محصلة للشللية والطموحات الشخصية وعراك القوى والمناورات". أسس التنافس المحموم الذي تجلى بوضوح في مرحلة تكوين الأحزاب السودانية، إلى الصراع العنيف، وثقافة الثأرات في الممارسة السياسية السودانية. كتب الروائي الطيب صالح في كتابه: مختارات (7)، وطني السودان، قائلاً: "البغضاء وسوء الظن، هو الإرث الذي آل إلى السودانيين في الشمال والجنوب، من الماضي البعيد والقريب، فوقرت في قلوبهم أشياء، بعضها حق وبعضها باطل... الجنوبيون أيديهم ملطخة بدماء الشماليين، وأيضاً بدماء الجنوبيين، والشماليون أيديهم ملطخة بدماء الشماليين كما هي ملطخة بدماء الجنوبيين. كلهم قاتل مقتول. والأمة التي تمعن في جنون كهذا، ولا تدرك أنه جنون، أمة لا تستحق البقاء... كان حرياً بالسودانيين أن يدركوا ذلك من زمن، لما يظنونه في أنفسهم من فضايل الحكمة والعقل والتحضر...".
حكى الصحفي يحيي محمد عبد القادر (1914- 2011) صاحب صحيفة أنباء السودان (1953-1969)، ومؤسس صحيفة المستقبل الأسبوعية، وصحيفة السوداني اليومية خلال الفترة (1949- 1952)، حكى في مذكراته: على هامش الأحداث في السودان، عن المؤامرات التي كان يحيكها المثقفون ضد بعضهم البعض. وكيف أنهم كانوا يصفون حساباتهم بالضرب، وأحياناً بتأجير آخرين "رباطة" لضرب من يختلفون معه، وذكر العديد من أسماء المثقفين الذين تم ضربهم، ولم يستثن نفسه. فقد ذكر بأنه أفلح في الإفلات مرتين من الضرب، عندما أطلق رجليه للريح، وفي مرة أخرى أنقذه عبد الله عبد الرحمن نقد الله في بداية الأربعينات من القرن الماضي. تعود علاقة يحيي بنقد الله، إلى أيام عمله في جريدة النيل، حيث تعمقت العلاقة بعد أن عُين نقد الله مساعداً لرئيس التحرير في بداية أربعينات القرن الماضي.
وزاد عنف الصراع وحدته، مجئ النظريات العالمية والإقليمية (الشيوعية، والإخوان المسلمون، والبعثيون، والناصريون... إلخ) إلى السودان. لقد وجدت النظريات ذلك الإرث من الصراع السياسي، كما وجدت ترحيب النخبة بها، مع حماسها الوافر، والاطمئنان الكامل لأطروحاتها. كانت الانقسامات والثنائية حاضرة في السياسية السودانية، بدأت بين الختمية والأنصار، وتحولت إلى يسار ويمين وتطهير وتمكين، وهكذا. تبع ذلك تفشي الثأرات السياسية في الممارسة السياسية السودانية..
نلتقي مع الحلقة الخامسة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk

/////////////////////////

 

آراء