الادارة الأهلية – التسييس والتتييس ثم التبخيس

 


 

 

نظام الادارة الأهلية وظّفه المستعمر لمصلحته خير توظيف، وذلك لما لها من أسس وقوانين عرفية راسخة منذ سنين، ولنأخذ دارفور كنموذج ومثال، فيها لم يحتك المفتش الانجليزي احتكاك مباشر مع المواطن، بخلاف اقاليم اواسط السودان وشماله – الروايات المحكية عن ماكمايكل وغيره، كانت المنظومة الاستعمارية بدارفور توفد مندوبها للناظر والسلطان والملك والشرتاي، الذين بدورهم يقومون بانزال توجيهات الادارة العليا لمستويات الحكم التي تدنوهم، فاذا أخذنا نظام النظارات الذي يوجد بجنوب دارفور، نجد أن هذه المستويات الثلاثة يمثلها الناظر و(المندوب والعمدة) والشيخ ثم الخفير، فكانت الجبايات والاتاوات المفروضة من الحاكم العام الغازي على الشعوب المقهورة، يتم جمعها عبر هذه التدرجات الادارية الرباعية الابعاد، لذلك اعتمد الغزاة على حيلتهم عندما وجدوا هذه المجتمعات المتحضرة، التي تتمتع بنظام إداري أهلي لا تخترق أرضيته المياه - (مايخرش الميّة) - محكم إحكام صارم وممزوج بالحكمة، فباركوه ومشوا في مناكبه وأكلوا من رزقه إلى أن غادروا ارض السودان، والقصص والحكاوي والروايات المأثورة وثقت لعلاقة الخواجة مع رموز هذا الإرث الإداري الثري.
مع فجر الاستقلال لعبت الادارة الأهلية دوراً محورياً، بأن كان لها شرف أن أول من نطق بكلمة الاستقلال من داخل البرلمان، هو دبكة - ناظر عموم قبيلة البني هلبة - جنوب دارفور - فوضع بصمة هذا الإرث الأهلي على صفحات التاريخ الحديث، استمر الحال كما هو عليه حتى جاء جعفر النميري فارتكب الحماقة الكبرى وألغى هذا النظام الاداري الفريد والمفيد، ثم عاد وأعادها من بعد ما فقدت رونقها وبريقها وهيبتها، ثم حلّت بالوطن الكارثة العظمى - الأنقاذ - فحوّلتها مباشرة لقوى مجتمعية مدجّنة تفوّج (المجاهدين) للحرب الدينية غير المشروعة بجنوب البلاد، ثم نُزعت هيبتها وضُربت وحدتها بخلق توتر وتنافس احمق بين قياداتها التقليدية وبين الانتهازيين المنفلتين من بنيها، فعاست الحكومات الاسلاموية فساداً وسلكت إفسادا متعمداً بحق هذه المنظومة الأهلية والمجتعمية الصرفة، فاصبح رموزها معروضين على مزادات الخم والاستهبال السياسي، فذهبت هيبة الملك والسلطان والناظر والشرتاي، وامسكت الانقاذ برقاب القادة الأهليين ودجّنتهم وجعلتهم طوع بنانها لمّا تنازلوا عن دورهم الأهلي، وحينما قبلوا بأن يدخلوا معترك ومعارك البحث عن الكرسي.
العبء الثقيل الموروث من النظام البائد والذي منيت به حكومة الثورة الديسمبرية المجيدة، يتضح في مخرجات هذا الانحراف المنظور في مسلك النظام الأهلي السوداني، واصبحت هذه الانحرافات بمثابة المهدد الأقوي لديمومة واستمرارية الحكومة الانتقالية، بل اصبحت حجر عثرة في طريق استفادة الشعب السوداني من ميناءه الرئيس وشريان حياته الأبهر، ولولا الأنقاذ لما حدث الذي حدث، واذا استمر التراخي المركزي تجاه مسؤولياته الاقليمية علينا أن لا نندهش لو قام عمدة ومندوب أم دافوق بغلق المحطة الجمركية الفاصلة بين السودان وافريقيا الوسطى، يجب ترتيب البيت السوداني - السوداني الداخلي بعيداً عن الاستقطابات الجهوية الحادّة، وذلك بمراجعة الوثيقة الدستورية وسبر اغوار ومجاهيل اتفاق جوبا، والشك في كل المعاهدات والمواثيق الداخلية المنعقدة والمعقودة بعد سقوط الدكتاتور، لأن الوهلة الأولى للسقطة الأولى دائماً يسطوا عليها المهرولون والانتهازيون والقوّالون، فكما استغل الوارثون لعهد الظلام فتات ما تبقى من الرموز الأهلية المنحرفة، على الداعمين لخط سير ومسير الثورة الديسمبرية الممسكين بمقبض وزناد البندقية الثورية، إرجاع الادارة الأهلية لسيرتها الأولى.
لقد مرت الادارة الاهلية بثلاث مراحل - التسييس والتتيس ثم التبخيس، فبعد أن سُيّست تُيّست ثم بُخّست، استغلتها الأحزاب والحكومات واستتبعتها حكومة الاسلامويين، ثم سخرت منها المنظومة القحتاوية، ولكي تعود لسيرتها الأولى عليها أن تترك منصات تأسيس التحالفات السياسية الكيدية، وأن ترجع وتعيد مجدها الأول الذي اعتمد عليه صانعو ديمقراطية (وست منستر)، وعليها أن تعلم أن وجودها وهيبتها يكمنان في الاطار الأهلي، وليس زج نفسها بين براثن ليث الحكومات الانتهازية البراغماتية، فعندما كان البريطانيون يحترمون هؤلاء النظّار: مادبو الجد والسنوسي الأول وعلي الغالي تاج الدين ودبكة المؤسس والسماني الأب، كان المحتفى بهم يركنون الى خدمة مواطنيهم ورعاية مصالحهم الدقيقة التي لا يعلم كنهها الحاكم الأعلى، ولم يكن أحد منهم يطمح في كرسي لأنه يؤمن بأن سلطته متوارثة، وأن سلطة السياسيين وقتية زائفة وزائلة ومهينة، ترفع من لا قدر له - الرويبضة - وتعطي من لا عطاء له الجاه والسلطان دونما ادنى جهد مبذول، فهلّا استحضر الرموز الأهليون دورهم وهيبتهم ووظيفتهم المستقلة؟!!.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
20 ديسمبر 2021

 

آراء