أبي احمد من النهر الي البحر.. حقائق الجغرافيا وأحلام الساسة

 


 

 

لم يقدم أي مسؤول حكومي خطاباً يُغالط حقائق الجغرافيا السياسية مثل ما فعل رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد. ففي خطاب مطول له أمام البرلمانيين والمسؤولين الإثيوبيين من حزبه في 13 أكتوبر 2023م أثار قضية غاية في الحساسية السياسية والإستغراب. فقد أكد على حاجة بلاده الملحة في أن "تمتلك" ميناء على البحر الأحمر كضرورة وجودية لإقتصاد شعبه.
ومنشأ الغرابة في الأمر أنه قد عرض لمسألة المياه بشكل عمومي.. و أكد أنه دولته من أغنى الدول بالمياه، ومع ذلك فهي فقيرة فيها.. كما أنها تتعامل بسخاء في المسألة و أن كل دول جواره تنعم بما تغدق عليهم من مياه حتى جيبوتي عن طريق الأنابيب... لذلك توجب على تلك الدول حسب قوله أن تمنحهم ميناء على الأحمر الأحمر.
يبدو جلياً أن هذا الطرح المُعتل من منظور الجغرافيا السياسية له بواعث خفية في نفسية رئيس الوزراء الإثيوبي، وهي في المجمل أحلام تصب في محاولة استعادة أمجاد إمبراطورية... وقد يبدو أن مبعث تلك الأمجاد ما حققته دولته من مكاسب فيما يمكن تسميته(كسب الجولة في التحكم في النيل الأزرق) بعد أن شارفت بلاده على الانتهاء من مشروع السد الكبير المعروف لديهم بسد النهضة العظيم GERD. وقد لا يخفى على المتابع أن إثيوبيا قد احرزت انتصارات دبلوماسية مهمة في قضية السد أمنت لها وبنجاح باهر إمكانية التحكم في مياه النهر بعد أن وصلت للملء الرابع دون أن تجد نفسها ملزمة سياسياً أو قانونياً بمبدأ عدم الأضرار بالغير.. فبعد هذا النجاح عاد ليتطلع لأخذ منفذ بحري على البحر الأحمر.. فبرغم أنه أكد غير مرة أنه لا ينوي أخذ أي ميناء عنوة، إلا أنه أشار لضرورة السماح لبلده "بتملك" ميناء عبر الحوار أو الكونفدرالية أو أي صيغة استثمارية - في السد أو الخطوط الإثيوبية أو الإتصالات الإثيوبية حتى لا تنشب النزاعات والحروب بين الأجيال في المستقبل. وقد ذهب مذهباً معاتباً للمجتمع السياسي بأنهم يخشون من مجرد طرح فكرة الإستحواذ على ميناء بحري. وأكد بأن ذلك أمر لا حياء فيه وأنه ليس محرم Taboo.. ولفت بذات طريقة المغالطة أن أمته سيبلغ تعدادها 150 ميلون نسمة بحلول 2050م دون أن يكون لها منفذ على البحر ورفض بعناد هذه الحقيقة المقررة بحكم الجغرافيا السياسية.
تشير هذه الأخيرة أي الجغرافيا السياسية بوصفها الملعب الذي تجري فيه العلاقات الدولية بحقيقة أن إثيوبيا دولة حبيسة landlocked state، وأن حدودها الراهنة بحسب موقعها الجغرافي لا تسمح لها بالاطلال على البحر الأحمر، فهي في ذلك سواء مع دول مثل أفغانستان أو يوغندا، وليس لتعداد الدولة أو درجة نموها الاقتصادي او معدلاته ما يؤهلها أو يسمح لها بتجاوز هذه الحقيقة. فالحدود الجغرافية لإثيوبيا هي التي حددت بأن تكون دولة حبيسة، وقد يصعب تجاوز هذه الحالة إلا في حالتين أن تكون هنالك تخوماً مهملة بينها وبين أي دولة جارة فتتوسع في تلك التخوم وتحيلها لمناطق قابلة للسكن كالغابات والصحاري التي ليس لها أساس قانوني أو معاهدة توضح إطارها المكاني بدقة وهذه غير متوافرة في الحالة الإثيوبية، فضلاً عن أن التخوم قد تم تجاوزها في العصر الحديث بفكرة الحدود المحددة والمقررة بالخرائط.. الثانية الحرب وهي الحالة التي تُمكّن الدولة من إعادة ترسيم الحدود بموجب إنتصارها في معارك على الحدود. وهذه حالة تحتاج لكثير من التأمل والتفكير في عالم اليوم، بيد أنها غير مستحيلة بحكم إرتكاز العلاقات الدولية على مبدأ القوة في جوهرها... والحرب عادة ما تحركها الأطماع وخاصة التوسعية كتلك التي إعترت أبي أحمد أو ربما تنتاب الأجيال القادمة من الإثيوبيين الذين ربما يرثون عنه هذه النزعة. إن رفض الدول المجاورة لإثيوبيا (الصومال، جيبوتي وأرتريا) والمعنية بقضايا الموانئ قد جاء واضحاً وبلا لبس بل وأعادت التأكيد فيه على حقيقة مقررة أنها لن تساوم على سيادتها أو وحدة أراضيها.
مهما يكن من أمر، فإن نجاح إثيوبيا في ملف السد الذي انشأته على النيل الأزرق وتحكمها في مياهه في غفلة تاريخية من دولتي المعبر والمصب وبخرق فاضح للقوانين الدولية التي تحكم الأنهار الدولية، لن يتكرر مع الدول ذات السيادة المطلقة على البحر الأحمر، إلا ضمن شرطين الأول أن تخوض حرباً تغير بها واقع الجغرافيا السياسية للمنطقة وتمحو حدودها الحالية. الثاني أن تُنشأ إتحاداً كونفدرالياً مع أي من تلك الدول أو بينهم جميعا يمكن إثيوبيا من الإطلال على البحر ضمن حفظ سيادة أي دول عضو في هذه الكونفدرالية. غير ذلك فلا مجال لإثيوبيا إلا أن تعترف بحقائق الجغرافيا السياسية مهما أخذتها النشوة بعد تحقيق هدفها في مياه النيل الأزرق.
على عموم الأمر، قد لا يصعب على المتأمل الحصيف في حديث أبي احمد أن يجد أي رابط موضوعي بين إرتفاع الزيادة السكانية، والحاجة لمنفذ بحري، فالزيادة السكانية تحتاج لمزيد من الأراضي الخصبة لإنتاج الغذاء لإطعام الأفواه المتزايدة من السكان، وليس لميناء بحري بأي حال من الأحوال، غير أن تأمين الأراضي الخصبة لإثيوبيا التي تفي باحتياجاتها للغذاء، تبدو أنها قد أصبحت أمر محسوم لدى القيادة الإثيوبية، فعينها لم تغفل مطلقاً عن أراضي السودان الخصبة في منطقة الفشقات.. والتي ضمنت سيطرتها عليها نظرياً على الأقل بعد الإنتهاء من تشييد السد، حيث ستكون المساومة واضحة بين تدفق المياه وانتظامها للسودان مقابل تلك الأراضي وربما المزيد.
بطريقة مَن يعرف كيف يستثير المشاعر ختم أبي أحمد حديثه حول البحر الأحمر بالقول:(قبل ستين أو سبعين عاماً، عندما كان يتحدث هيلاسلاسي حول النيل الأزرق قيل له، له لا تتجرأ على تلك المحاولة. فكان رده .. أنا لا أمتلك القدرة على ذلك الآن، لكن أبنائي من بعدي سيقومون بذلك. الآن أنتم تقولون لي لا تتجرأ بلمس قضية البحر الأحمر، وأقول لكم ليس لدي القدرة لفعل ذلك الآن. لكن أبنائي من بعدي سيقومون بذلك).
هكذا نفخ أبي أحمد الروح في الأحلام الإمبراطورية لتتخلّق في أحشاء أمته... و هكذا هيأ لأبنائه الدوافع أن يغيّروا حقائق ما إستقرت عليه الجغرافيا السياسية بأحلام ربما تصبغ البحر الأحمر بلون أحمر قاني قوامه الخلايا والبلازما.

د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية

 

آراء