أيهما أفضل، استمرار مركزية دولة ـــ 56 أم التفتيت الفدرالي بالحسني؟

 


 

 

معيار الأفضلية هنا، ما ينفع الناس، من أمن واستقرار، والشعور بالرضا، والإحساس بالعدالة في الحقوق، والمساواة في الواجبات، والمقصود بمركزية دولة ــ 56 "السيستم" أو المنظومة التي ظلت تدار بموجبها دولاب الخدمة المدنية والعسكرية في البلاد منذ تسليم المستعمر البريطاني ــ المصري، مقاليد إدارة الدولة السودانية، إلى الحكومة الوطنية في يناير 1956م، والتي لم تتغير في جوهرها، فقد تعاقبت حكومات، وظلت المنظومة واحدة، تخدم مصالح الطغمة الحاكمة (الدولة العميقة) وحواضنها، كما كانت تخدم المستعمر. والتفتيت المقصود هنا، التقسم على الأسس الفدرالية، التي تمكن من فرز "عيشة" الأقاليم حسب تجانسها، بالتي هي أحسن، تحت مظلة الدولة السودانية الموحدة.
وفقا لكافة الشرائع السماوية، والأعراف الإنسانية، فإن الحفاظ على النفس البشرية، ووقف إراقة الدماء، مقدمة على ما سواها من الأولويات، وبما أنّ منظومة دولةــ56 ظلت تمارس القتل وإراقة الدماء، منذ فجر الاستقلال إلى يوم الناس هذا، وبما أنّ الاتفاق الإطاري، كان آخر سانحة لإصلاح هذه الدولة المعطوبة، وإن استمرار منظومتها في إدارة البلد، يعني استمرار إزهاق أرواح الأبرياء من المواطنين، وإراقة دمائهم، فإن هذا الخيار أصبح عدميا.
ليس دقيقاً، توصيف الحرب الدائرة الآن في البلاد، أنها حرباً بين جنرالين، أو بين قوتين عسكريتين، ومن المبالغة المبكرة، أن نصفها في مجملها بالحرب الأهلية، لكننا نظن أنها حرب جهوية بامتياز، بناءً على مرجعيات غالبية المساندين للمحورين، الجيش والدعم السريع، من القوات المقاتلة، ومن التيارات السياسية والتكتلات الشعبية. وهذا أكبر دليل على أن الدوافع الخفية لإشعال الحرب، عدم الرضاء بالكيفية التي ظلت تدار بها البلاد منذ فجر الاستقلال حتى يوم الحرب 15 أبريل.
الحرب لابد لها أن تتوقف مهما طال أمدها، وبات في حكم المؤكد، أن عودة منظومة دولةــ56 المركزية القابضة مستحيلة، وأن الـخامس عشر من أبريل 2023م نقطة فاصلة في التاريخ السياسي للدولة السودانية، وأن التروس المهترئة التي ظلت تدير آلة الدولة الظالمة، والأيادي الآثمة التي ما برحت تتحكم في دوران تلك التروس، جميعها، يجب أن تستريح من العبث بمقدرات الشعب، لصالح الدولة العميقة، وحواضنها من جنرالات الجيش والبيوتات الطائفية والرأسمالية ومن الانتهازيين العابرين.
بالطبع، التقسيم الفدرالي لتركة دولةــ56 لن يكون سلسلا، إذا استند على الامتلاك والنفوذ بوضع اليد على المناطق حالياً، أو عبر الحقب التاريخية للدولة السودانية، ولابد من وساطة نزيهة ومحايدة، تلتزم بالمعيارية في مثل هذه الحالات، وبما أن الحياد مفقود في معظم دول الجوار الأفريقي والخليجي، يبقى الخيار الأمثل للوساطة في توزيع تركة دولةــ56 هو الأمم المتحدة.
ورغم الصعاب الماثلة، نعتقد أن التفكير العقلاني، هو التأمل الجاد، في ماذا بعد دولةــ56؟ ولا شك أنّ "الجغرافية" تشكل أصعب المواد في هذا التساؤل؟ سيما حينما تتقاطع مع التاريخ السياسي، في ظل اختزال دولةــ56 البلاد في الخرطوم، ورمزيتها الاستعمارية، مقابل أمدرمان كعاصمة وطنية، ورمزيتها المهداوية. وفي ظل دولةـ56 كدولة نيلية على الأقل في محورها الجغرافي والمعنوي، والرعاية التي تتمتع بها من شمال الوادي، مقابل سابقتها الدولة المهدية، كدولة قومية، عمادها أهالي غرب السودان، وهي معادية للخديوية، وقد ظلت هذه العداوة متقدة تحت الرماد، إلى يوم الناس هذا.
ومما زاد الأمر تعقيدا، أن الخرطوم في مركزيتها، فقدت زمام المبادرة، بسبب عنجهيتها وغرورها، وأن فرض الجغرافيا، بمنطق القوة، بكل تأكيد لن يحقق الاستقرار للشعوب السودانية، لكن القوة كمنهج للمدافعة، التي أقرتها الشرائع السماوية، كضرورة لوقف استمرار العدوان على المستضعفين، وضمان استرداد حقوق المكونات الاجتماعية الضعيفة. هذه القوة التي وقفت في وجه الخرطوم، بلا شك خلقت توازنا كان مفقودا، وبلا شك أن هذا التوازن، سيفرض صوت العقل على الجميع، في نهاية المطاف، ويسوق الجميع في اتجاه الاتحاد الفدرالي بالحسني، رغم تعقيدات الجغرافيا، وحساسية التاريخ السياسي للبلد، وهو الخيار الأفضل بلا ريب.
ebraheemsu@gmail.com
//أقلام متحدة ــ العدد ــ 117//

 

آراء