إبادةٌ جماعيةٌ في السودان أم إحـلال سـكّاني؟

 


 

 

يسافرون من الصّباحِ السُّندسيّ إلى غُبارٍ في الظهيْرة/ حاملينَ نعوشَهُم مَلأى بأشياءِ الغيابْ/: بِطاقةٌ شخصيةٌ وَرسالةٌ لحبيبةٍ مجهولةِ العنوان/: "لا تتذكّري من بعدنا إلا الحياة"/. ويرحلون من البيوتِ إلى الشّوارعِ/ راسِمين علامة النصر الجَريحة/ قائلين لِمَن يراهُم/: "لم نزَل نحيا فلا تتذكّرونا"... محمود درويش: "لا تتذكّروا من بعدنا إلّا الحياة"

(1)

فيما كنتُ أطالع، كعادتي منذ رحيل الشاعر الراحل محمود درويش، بعض أشعاره عن المأساة الفلسطينية، وقفتُ عند قصيدته "لا تتذكّروا من بعدنا إلّا الحياة"، فخلتُ أنّي قد عشتُ تلك اللحظات التي جاءت في قصيدته، ساعة نزوحي إلى مصر بعد الحرب في السّودان. لو تمعّنّا في الصورة التي رسمها درويش عن خروج الفلسطيني، بل إخراجه من أرضه، إلى متاهات اللجوء، لما ابتعدت تلك الصورة عن خروج السّودانيين من ديارهم وإخلائهم بيوتهم في العاصمة الخرطوم، إذ هو خروجٌ في صورته القاتمة، أشبه بذلك الخروج المأساوي الذي عاشه درويش، وعاشه معه كلُّ فلسطينيّ حمل مفاتيح بيته في جيبه ورحل عن أرضه.

(2)

وقفَ المتابعون على عدة تقارير سياسية وإعلامية عن الحرب التي يخوضها السودانيون في ما بينهم منذ منتصف إبريل/ نيسان الماضي، وبات أكثرهم على يقينٍ، وإنْ غالبهُ شيءٌ من الشكِّ، أنها ليستْ حرباً صرفة بين سودانيين، بل وراءها شُبهاتُ تحريضٍ من أصابعٍ خفيّةٍ من وراء الحدود، تحرّكها مطامع وأجندات. كان الخلاف الظاهر للعيان أنها حربٌ بين جنراليْن على السيطرة على حكم السودان، غير أن تطورات وقائع تلك الحرب تكشفت عن أجندات وأهداف لم تكن واضحة في أيام الحرب الأولى.

لقد أعلنتْ رئاسة الإتحاد الأوروبي أنَّ الهجمات أخيرا في ولاية غرب دارفور، وعاصمتها الجنينة، تكاد أن تصنّفَ إبادة جماعية وعمليات تطهير عرقي للعناصر غير العربية، تشنها قوات الدعم السريع التي يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). لم يتردّد الاتحاد الأوروبي في اتهام تلك القوات بأنها هي قوات الجنجويد نفسها التي نشطت في عام 2003 وارتكبت الفظائع، وأدارتْ المذابح، مستهدفة العناصر غير العربية في دارفور، وأهمّ مجموعة منها كانوا سكان سلطنة المساليت، وهم أهل زراعة، في الغالب، مقيمون في أراضيهم. ما ارتكبته مليشيات الجنجويد في تلك السنوات هي جريمة الإبادة الجماعية التي حمّلت المحكمة الجنائية مسؤوليتها لرئيس النظام البائد عمر البشير.

(3)

"قوات الدّعم السريع" هي امتداد لفرسان الجنجويد الأشرار الذين ساموا أهل دارفور ذوي الأصول الأفريقية الويل والعذاب، بعدما منحهم نظام البشير شرعية غير مستحقة. تحت ذلك الاسم يقودهم حميدتي، الذي أنعم عليه البشير برتبة جنرال، وهو رجلٌ شِبه أمّي لا علاقة له بالقوات المسلحة السودانية، لكنه انقلب على البشير إثر اندلاع الانتفاضة التي أسقطت النظام، فوقف حميدتي مع من وقفوا من قيادات القوات المسلحة مع الانتفاضة، وأجبر البشير على التنحّي.

غير أن تطوّر الأحداث أفضى، في نهاية الأمر، بمليشيات الدّعم السريع إلى إنشاء معسكرات ضخمة في العاصمة الخرطوم، مُسلحة إلى أسنانها بسيّارات ومدافع وذخيرة لا تنضب تأتيها كلها من أصابع خارجية، وكأنها كانت تتوقع ما قد يثيره وجودها في الخرطوم من مخاطر ومن حساسيات مع القوات المسلحة الرسمية للسودان.

(4)

اندلعت، في منتصف إبريل/ نيسان، مواجهات بين القوات الرّسمية للدولة وقوات مليشيا الدّعم السريع ، فيما عرف بحرب الجنرالين اختصاراً. وضمّتْ قوات الجنرال حميدتي مجموعات من قبائل بدوية رعوية مستعربة من تشاد ومن بعض بلدان غرب أفريقيا، تمَّ تجنيدهم ضمن مليشيات مستعربي دارفور. لقد اتبعتْ إجراءات في تجنيدهم، وفق ما رصدتْ تقارير إعلامية، سياسة إغراء خفية وماكرة، غابتْ عنها عيونُ الدولة السودانية التي شغلتْ نفسها بالمحاولات المحمومة لاحتواء مظاهرات الشباب السّوداني، المنادين بحكومة انتقالية مدنية، فلم تتنبّه للأجندات الخفيّة التي استهدفتْ، ضمن خطط قيادات قوات الدّعم السريع، تمكين مجنديهم ومليشياتهم من الإقامة الدائمة في بعض مدن دارفور، بل وفي العاصمة الخرطوم.

(5)

دفعتْ القوات المسلحة الرسمية للدولة ثمناً باهظاً لغفلتها، بعد تصاعد الخلاف بين الجنرالين حميدتي والقائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان الذي بعد انقلابه في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، صار رئيساً للدولة كأمرٍ واقع. وفي أتون الحرب بين الجنرالين، وفشل جهود إيقافها خلال الأشهر الستة الماضية، استولتْ مليشيات الدّعم السريع على مساكن المواطنين السودانيين التي أخلوها فراراً من نيران الحرب، أما من تخلفوا عن الفرار فقد جرى إجبارهم على إخلاء بيوتهم تحت تهديد السلاح، فاتبعت بكل وضوح تنفيذ ما وُعدوا به من حقّ الإقامة في العاصمة السودانية وفي مدن أخرى وأقاموا فيها مدجّجين بأسلحتهم وبأزيائهم العسكرية المموّهة وعمائم "كدمول" ملفوفة على الرؤوس والوجوه على طريقة قبائل الطوارق في الغرب الأفريقي، مما لا يعتاده السودانيون. مَن لم ترُق له ُ الإقامة في السّودان مِن مليشيا الدَّعم السّريع، مارس نهبَ ما خفَّ وزنُه أو ثقل، بما في ذلك السيّارات، ثمَّ عبروا الحدود إلى بلدانهم التي قدموا منها. وثمّة تقارير صحافية أكّدتْ وصول سياراتٍ بأرقامٍ سودانية تعدّ بالآلاف، وصلتْ إلى تشاد، وعبرت إلى أقاصي النيجر.

(6)

في نظرٍ أعمقٍ إلى تطوّر الأحداث، بات واضحاً أنّ الحرب هي بالوكالة، وراءها أصابع أجنبية تحرّكها مطامع واحتدام تنافسٍ إقليمي لكسبِ نفوذ غير مُستحق وسيطرة على مواردٍ ليست لها. لمّح تقرير لمحلل في مجلة فورين بوليسي الأميركية إلى أنّ أطرافا خليجية لها أيادٍ والغة في مثل تلك المطامع وتلك المنافسات. قليلون من صدقتْ نواياهم لإيقاف نزيف الدّم في السودان، وبينهم فئةٌ رغبت في صبِّ الزّيت على النيران. وللسّودان موارد مياهٍ، وأراض شاسعة خصبة، ومناجم ذهب في باطن الأرض وفي جبالها، ومُربَّعات حقولِ نفطٍ لم تستثمر بعد، وفوق ذلك كله وبعده، هو في موقع استراتيجي في قلب القارّة الأفريقية، كما له ميناءٌ يتوسَّط المسافة بين قناة السويس وباب المندب، فكيف لا يطمع الطامعون؟

(7)

لمْ يكتفِ حميدتي ولا قواته ومليشياته الذين لا انتماء لهم إلى السّودان، بالسيطرة العسكرية أو السياسية على مناطق شاسعة في ولاية غرب دارفور وسواها من المناطق المجاورة، بل سعتْ تلك القوات بمرتزقتها ومليشياتها للهجوم الممنهج على مجموعات سكانية من ذوي الأصول غير العربية في دارفور، منها استهدف الطامعون أبناء "المساليت" الآمنين في عاصمة سلطنتهم التاريخية، مدينة الجنينة، وعمدوا إلى اطلاق الرّصاص عليهم بدمٍ بارد وإحراق مساكنهم وتدمير قراهم بلا رحمة، ثمَّ إجبارهم على الرحيل المرّ عبر الحدود إلى تشاد. تمَّ رصد أفاعيل هؤلاء القتلة الطامعين عبر مراكز أوروبية وأميركية، وهو ما حدا بالاتحاد الأوروبي إلى رفعِ أصابع الاتهام بأنّ المطلوب هو إخضاع مرتكبي تلك الجرائم للتحقيق ومحاكمتهم عبر المحكمة الجنائية الدولية، وأنَّ على الحرب الدائرة في السودان أن تتوقف على الفور.

(8)

لعلَّ القدر أراد أن يذكِّر بغدرِ الإنسان بأخيه الإنسان، في هذا الزمن البئيس، والذي أخذ الظالمون فيه يستخفّون بالمواثيق الدولية، فيهدرون حقوق الإنسان هَدراً مقيتاً، ويدوسون على كرامته بأحذية حاقدة، ويهضمون حقه في الحياة بإجباره على الموت جوعاً أو خنقاً أو بهدم بيته على رؤوس أطفاله.

الظلم الذي ألحق بالفلسطينيين منذ ما يربو على 70 عاماً بإحلال اليهود الصهاينة في أرضهم هو إغراقٌ للحقِّ والكرامِة في ظلامٍ دامسٍ. أمّا الذي يجري في السودان، فيراد له أن يمثل إحلالا لسُكانٍ مكانَ سُكان، وتغييب هويّات ومسخها بأخرى. يخرج السودانيون من ديارهم في صباحات سندسية حاملين نعوشهم.

يُسافرون مِن الصّباحِ السُّندسيّ إلى غُبارٍ في الظهيْرة/ حاملينَ نعوشَهُم مَلأى بأشياءِ الغيابْ. ... بِطاقةٌ شخصيةٌ وَرسالةٌ لحبيبةٍ مجهوْلةِ العنوان: "لا تتذكّري من بعدنا إلّا الحياة"/ ويرحلون من البيوتِ إلى الشّوارعِ

راسِمين علامة النصر الجَريحة. ... ما أصدق الصورة التي رسمها محمود درويش: عاشها الفلسطينيون ردحاً من السنين، ثم ها هم السّودانيون يعيشون صورة مأساوية شبيهة في هذا الأوان، فالظالمون هم الظالمون والمظلومون هم المظلومون، وإن تغيّرت ألوانهم هُنا أو هناك.
نقلا عن العربي الجديد

 

آراء