الارتباك في التعامل مع منظمة إيقاد بين البرهان والبشير (2/4)

 


 

 

د. سلمان محمد أحمد سلمان*

1
ناقشنا في المقال السابق كيف بدأت وساطة الإيقاد لحل مشكلة الحرب في السودان. أشرنا إلى بيانات الإيقاد الداعية لوقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات مباشرة بين الجنرالين اللذين يقودان الحرب في السودان. كما أوضحنا تواصل رفض حكومة البرهان ومجموعتها الإسلامية لكل تلك المبادرات والبيانات.
تعرضنا في ذلك المقال أيضاً إلى الاجتماع 41 الاستثنائي لرؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد والبيان الختامي الذي صدر يوم السبت 9 ديسمبر عام 2023 عن ذلك الاجتماع.
أشار ذلك البيان بوضوحٍ إلى اتفاق الجنرال البرهان والجنرال حميدتي على مقترح الوقف الدائم لإطلاق النار بدون شروطٍ مسبقة، وعلى عقد اجتماعٍ مباشرٍ بينهما، وحلِّ النزاع من خلال الحوار السياسي. كما أكد البيان ضرورة مساعدة السودان في الوصول إلى حكمٍ بقيادة مدنية تقوم بتحديد سبل ووسائل الحكم الرشيد للمجتمع السوداني، وتأخذ بالبلاد إلى الديمقراطية المدنية، وتساعد السودانيين في إجراء حوارٍ سوداني بغرض الوصول إلى إجماعٍ وطني لفترةٍ انتقاليةٍ مدنيةٍ تقود إلى انتخابات نزيهة وشفافة. كما أشار البيان إلى إنشاء إطارٍ للإيقاد يتكون من دبلوماسيين وسياسيين ذوي خبرة يتم تعيينهم بواسطة رؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد للقيام بالوساطة في السودان، وتعيين مبعوث خاص للإيقاد في السودان. وكما ذكرنا من قبل، فهذه هي مطالب وبرنامج القوى الوطنية المناهضة للحرب.

2
أوضحنا أنه قبل أن يجفَّ الحبر الذي كُتِبَ به البيان، أصدرت وزارة الخارجية السودانية التي يسيطر عليها الإسلاميون بالكامل بياناً مطوّلاً متضمّناً ما أسمته عدّة ملاحظات على الاجتماع الاستثنائي والبيان الختامي لمنظمة إيقاد. ذكر بيان وزارة الخارجية أن ملاحظاتها وتحفظاتها على البيان لم يتم تضمينها "وبالتالي فإن السودان لا يعتبر هذا البيان يمثل ما خرجت به القمة "وأنه غير معنيٍ به حتى تقوم رئاسة إيقاد وسكرتاريتها بتصحيح ذلك." واختتمت وزارة الخارجية بيانها بالفقرة الآتية: "بما أن أياً من هذه الملاحظات لم يتم الأخذ بها، فإن البيان يفتقد للتوافق وهو بالتالي لا يعتبر وثيقة قانونية من إيقاد."
3
انبنى رفض وزارة الخارجية لبيان الإيقاد الختامي كما ذكرنا أعلاه على أن السودان أبلغ سكرتارية الإيقاد أن لديه ملاحظات وتحفظات جوهرية على المسودة، ذاكراً "حيث أن هناك فقرات أقحمت في المسودة دون مسوغ، فضلاً عن الصياغة المعيبة لما اتُفق عليه في بعض المسائل المهمة بحيث أنها لم تعكس حقيقة ما تم التوصل إليه."
سوف نناقش في هذا المقال تحفظات وزارة خارجية البرهان على بيان الإيقاد ونكرّر أن ذلك الرفض لبيان الإيقاد يوضح بجلاء حالة الارتباك والتخبط التي ظلت حكومة البرهان تتعامل من خلالها مع منظمة الإيقاد ومقرراتها منذ صدورها في يونيو عام 2023. وكما ذكرنا من قبل فإن الفريق البرهان هو الذي سعى بنفسه لوساطة الإيقاد وزار معظم دولها، بما فيها كينيا التي كان قد كال السباب لها ولرئيسها بصورةٍ تفتقر إلى أبسط قواعد العرف الدبلوماسي، ليدعوها وبإلحاح إلى المساهمة في حل قضية الحرب في السودان.

4
طالب بيان وزارة الخارجية بحذف الإشارة في بيان الإيقاد إلى مشاركة وزير الدولة بوزارة خارجية دولة الأمارات العربية في القمة لأن هذا لم يتم.
كما ذكرنا في مقالنا السابق فإن البيان الختامي للإيقاد أشار إلى أن المناقشات مع دولة الأمارات تمّت على هامش الاجتماع الاستثنائي، مما يعني بوضوح أن دولة الأمارات لم تشارك في الاجتماع. عليه فإن البيان الختامي لم يُشِر إلى مشاركة وزير الدولة بوزارة خارجية دولة الأمارات العربية في الاجتماع حتى يطالب البيان السوداني بحذف تلك الفقرة.

5
طالب بيان وزارة الخارجية بحذف الإشارة إلى "عقد رؤساء إيقاد مشاورات مع مليشيا الدعم السريع المحلولة." وأوضح البيان أن "هذا يجافي الحقيقة إذ أن السيد رئيس مجلس السيادة الانتقالي وهو أحد رؤساء إيقاد لم يشارك أو يسمع بالمشاورات مع ممثلي التمرد."
الرد على هذا الطلب يتركّز في ثلاث نقاط:
أولاً: مبادرة الإيقاد (والتي طلبها البرهان بنفسه) هي وساطة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ولا بد للوسطاء أن يتحدثوا وأن يتناقشوا مع الطرفين، وإلا فكيف سيصل الوسطاء إلى حلول يقبلها الطرفان؟ هل تتوقع وزارة الخارجية (والتي يُفترض أن تكون جامعة الدبلوماسية) أن تصدر الإيقاد مبادئها ومقرراتها دون الحديث مع الطرف الآخر؟
ثانياُ: حضر اجتماع الإيقاد رؤساء دول وحكومات ووزراء وسفراء ومبعوثون، فهل تتوقع وزارة الخارجية أن تتم المشاورات بين وفد قوات الدعم السريع وال 14 رئيس ووزير ودبلوماسي الذين حضروا الاجتماع؟ إذا كان هذا هو مطلب وزارة الخارجية فلماذا اشترطت بدايةً حضور البرهان لهذه القمة على أن لا يشارك في الجلسات وفد الدعم السريع؟
ثالثاً: لقد قام البرهان بحلِّ قوات الدعم السريع مرتين (17 أبريل و6 سبتمبر 2023 – ليس واضحاً لماذا احتاج البرهان إلى قرارين!) فكيف يمكن أن تطالب وزارة خارجيته مشاركة البرهان مع الرؤساء الآخرين في المناقشات مع وفد قوات الدعم السريع التي كان قد قام هو بنفسه بحلها، ولم يعد يعترف بها؟

6
طالب بيان وزارة الخارجية تصحيح الفقرة "بشأن موافقة السيد رئيس مجلس السيادة الانتقالي على لقاء قائد التمرد. إذ أن السيد الرئيس اشترط لعقد مثل هذا اللقاء إقرار وقف وقف دائم للإطلاق النار، وخروج قوات التمرد من العاصمة وتجميعها في نقاط خارجها."
من الواضح أن كاتبي البيان لم يتمهلوا في قراءة بيان الإيقاد. إذ أن مقررات بيان الإيقاد تشير إلى حزمة مقررات تشمل الوقف الدائم لإطلاق النار بدون شروط مسبقة، وحلِّ النزاع من خلال الحوار السياسي، وعلى عقد اجتماع مباشر بين الجنرالين المتحاربين. وهذه الحزمة تشمل مطلب وزارة الخارجية بوقف إطلاق النار الدائم.

7
طالب بيان وزارة الخارجية بحذف "الفقرة التي تشير لمكالمة هاتفية بين رؤساء الإيقاد وقائد التمرد. إذ أن هذه المكالمة تمت بين الرئيس الكيني وقائد التمرد وبعد انتهاء القمة. وبالتالي لا تعد من أعمال القمة حتى يُشار إليها في البيان." كما ذكرنا من قبل فإن مبادرة الإيقاد هي وساطة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ولا بد للوسطاء أن يتحدثوا وأن يتناقشوا مع الطرفين، وإلا فكيف سيصل الوسطاء إلى حلول يقبلها الطرفان؟ كما لا بد من إضافة أن المكالمة تمت بين الرئيس الكيني دكتور روتو بوصفه رئيساً للجنة الرباعية للإيقاد، وبالتالي فالمتحدث يمثل الإيقاد التي أوكل إليه رؤساؤها تلك المهمة.

8
طالب بيان وزارة الخارجية "بتعديل الفقرة التي تدين التدخلات الخارجية بحيث لا تتضمن المساواة بين القوات المسلحة والتمرد." كل المراقبين للحرب في السودان يعلمون جيداً أن التدخلات الأجنبية تمت وتتم كل يوم لمساعدة الطرفين وليس لمساعدة طرفٍ واحد، فكيف تتم إدانة التدخلات بواسطة الوسيط لصالح طرفٍ دون إدانة الطرف الآخر أيضاً؟

9
طالب بيان وزارة الخارجية "تضمين الإشارة إلى تقديم جمهورية مصر العربية "مبادرة دول جوار السودان" في الفقرة التي تتحدث عن المبادرات لحل أزمة السودان." لم يوضّح بيان الخارجية كيف يمكن التعامل مع مبادرتين في وقت واحد. كما أن بيان الخارجية تجاهل فقرة بيان الإيقاد التي أقرت بالمبادرات الأخرى لإعادة السلام في السودان، خصوصاً من دول الجوار. وقد طالبت تلك الفقرة بتوحيد هذه المبادرات تحت مظلة الإيقاد حتى تتمكّن من وضع خارطة طريق موحدة يوافق عليها مجلس السلم والأمن الأفريقي، ومجلس الأمن الدولي، للتمكّن من جمع صف الأسرة الدولية لمساعدة السودان.
لا بد من الإشارة إلى أن هذه المبادرة المصرية لم يتم طرحها أو مناقشتها على العلن ولا اعتقد أن أحداً خارج مجموعة البرهان الإسلامية قد اطلع عليها. من الواضح أنها رسالة من مصر إلى الإيقاد وإلى منبر جدة أن مصر هي الأحق بإدارة الشأن السوداني، وأنها تستطيع خلط الأوراق وإرباك التفاوض ووقف أي جهدٍ لا يشملها. وكما سنناقش لاحقاً، فقد حاولت مصر لعب نفس الدور مع مبادرة إيقاد لحلِّ مشكلة جنوب السودان.

10
ذكرنا في المقال السابق أن وزارة خارجية حكومة البرهان رفضت في شهر سبتمبر عام 2023 مقترحات اللجنة الرباعية للإيقاد التي دعت لوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات بين الطرفين. وقد ذكرت الوزارة في بيان رفضها أن استضافة كينيا لهذه المهمة ورئاسة الدكتور روتو للجنة "تعني سيطرة مجموعات من خارج أفريقيا على جهود تسوية الأزمة السودانية." كرّر البرهان نفس الرفض عندما ذكر في شهر يناير عام 2024 أن "أي حل من خارج السودان لن يستمر ولن يصمد ولا أحد يقدر يفرض علينا حاجة." حدث هذا الرفض رغم أن حكومة البرهان شاركت وتشارك في اجتماعات منبر جدة الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة منذ بدايتها. فالبرهان الذي يفاوض في منبر جدة الذي تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية، يرفض وجود أمريكا في مبادرة الإيقاد!!
كما أن وزارة الخارجية أشارت إلى المبادرة المصرية لحل الأزمة السودانية وطالبت بمساواتها بمبادرة الإيقاد. ثم سافر البرهان إلى دولة الجزائر طالباً وساطتها لحل النزاع السوداني. وقد وردت تقارير تشير إلى أن طلب الوساطة امتد أيضاً لشيخ الطريقة التجانية في الجزائر بعد أن اكتشف البرهان أن غريمه حميدتي ينتمي للطريقة التجانية. ويدور الحديث حالياً عن مفاوضات "منبر المنامة" عاصمة دولة البحرين التي تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. لا بد أن المتابعين للحرب في السودان قد اندهشوا كثيراً لهذا الارتباك والتخبّط بين رفض وإدانة أيّة وساطة خارجية، ثم السعي الحثيث إليها، ثم رفضها، ثم البحث عن وسيطٍ دوليٍ أو إقليميٍ جديد.

11
هذه الحالة من الارتباك والتخبط تجاه مبادرة إيقاد لحلِّ مشكلة الحرب في السودان والتي ناقشناها في المقالين السابقين تشبه تماماً طريقة تعامل حكومة البشير مع منظمة إيقاد خلال تسعينيات القرن الماضي فيما يخصُّ قضية جنوب السودان. سوف نناقش في المقالين القادمين ونقارن بين حالتي الارتباك والتخبط في كلٍ من الحالتين. كما سنوضح التشابه الكبير بين الحالتين، وأن الليلة لا تختلف على الإطلاق عن البارحة، فنحن في الوقت الحاضر إزاء نفس المجموعة الإسلامية التي تعاملت مع مبادرة الإيقاد الخاصة بقضية جنوب السودان في تسعينيات القرن الماضي.

* رئيس مجلس جامعة الخرطوم

Salmanmasalman@gmail.com

www.salmanmasalman.org

 

آراء