الثقافة السودانية بين هموم الشارع والناس القيافة

 


 

 

 

abusamira85@gmail.com

يبدو أن حال الثقافة السودانية الآن يحتاج إلى صحوة استثنائية غير مسبوقة تستطيع من خلالها أن توقف حالة الركود التي تعتريها منذ أن أصبحت هذه الحقيبة مسرحا لترضية الأحزاب الصغيرة أو متكا للمتمردين من حركات التمرد.
أما عودة الوزارة مرة أخرى إلى اسمها القديم وزارة الثقافة والإعلام، وأحسب أن اسم الثقافة في عصر سيطرة الإعلام بكافة وسائله وأنواعه سينطبق عليه حكم الماء الطهور عند أئمة المالكية لا طعم لا لون ولا رائحة، و لكن ليس المرغوب من وزير الثقافة الجديد بعد دخول مكتبه (المهدد بالانهيار)، أن يحدث صحوة وسط المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين تلفت أنظار النخبة السياسية، بل المطلوب بشدة أن تلفت الوزارة بأدائها الثقافي النبيل نظر رجل الشارع العادي. فقبل أعوام طويلة جدا جلس في هذا المقعد البروفيسور علي محمد شمو بمفهوم أن الثقافة ليست أدبا أو فنا أو معرفة عملا إبداعيا، وإنما الثقافة بمعناها الواسع كنمط حياة وتقاليد وإطار مادي ومعنوي يحرك الإنسان فكرا ومسلكا.
ولم تفقد رؤية البروفيسور علي محمد شمو، الذي وصل هذه الوزارة شابا فوق الأربعين فعاليتها بعد، لكن المهمة العاجلة للوزير الجديد فيصل محمد صالح الذي وصل إلى هذه الوزارة شابا فوق الستين، الإجابة عن سؤال قديم جديد عن حال الثقافة السودانية بين هموم الشارع والناس القيافة؟
قد يبدو ظلما أن نحمل الوزير الجديد الأستاذ فيصل محمد صالح ذلك الفتى الذي نشأ في تلال البحر الأحمر ذات الطبيعة الخلابة والتركيبة السكانية المنصهرة في لوحة ثقافية مكنت الأعراق المختلفة من التعايش في إطار من التعامل السمح المتكافئ، أن نحمل وحده عبء السؤال القديم الجديد. لكن خلفية فيصل الدراسية يتعين عليها أن تسعفه أولا لإعادة هيكلة الوزارة وإعادة تأهيل الطاقات البشرية العاملة بها أولا، واختيار القيادات الجديدة من خلال معايير موضوعية ثانيا، ولست في حاجة إلى توضيح أن شرف عضوية قوى الحرية والتغيير وحدها، أيا كان مستواها ليست معيارا موضوعيا للعمل في وظيفة تنفيذية في مجال الثقافة.
وحتى تصبح وزارة الثقافة أقوى سلطة شعبية للتعبير عن الهوية السودانية بكل أطيافها وأشكالها، فإن الوزير الجديد ليس مطلوبا منه أن يغرق في تفاصيل البرامج التي تلبي هموم الشارع والناس البسطاء أو تلك التي ترضي اهتمامات الناس القيافة، بل المطلوب منه العمل الدوؤب على توحيد نسيج الكتلة الثقافية، وجعلها تطفو على السطح كقوة ناعمة فاعلة في المجتمع. ودون ذلك سيدي الوزير سيتم تفريغ الثقافة السودانية من قوتها الناعمة، والدخول بها في نفق معتم من أجل مخططات سياسية عقيمة.
ومع رياح التغيير التي تهب على المعادلة السياسية في المجتمع، بعد أبريل 2019م، وما تفرزه من أثار في نسيج الواقع على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن هذه الوزارة مدعوة إلى طرح برامج استنارة تقترب من الناس عبر الوسائط الإعلامية كافية، لترسيخ جملة يوسف إدريس القديمة (أهمية أن نتثقف يا ناس).
على أن المهم أن تبتعد الوزارة عن النهج الإصلاحي الترميمي الذي يستعجل الإنجازات، وذلك لقصور هذا النهج في التعامل مع حالة ثقافة وطنية تحتاج لكثير من القرارات الجريئة للنهوض بالشأن الثقافي في شتى المجالات.
غير أن المهم جدا أن يكون البث الثقافي هو همّ كل الهيئات والمؤسسات والوزارات والولايات والمحليات التي يجب عليها تخصيص ميزانيات معتبرة من المال العام في الشأن الثقافي، بحيث لا يقتصر على الإنفاق على الثقافة من قبل وزارة اتحادية (فقيرة جدا)، إذ يعد التقليل من الميزانية المخصصة للثقافة من النقاط السوداء التي تهزم حماس المهتمين بالمشهد الثقافي، خاصة حينما يصعب فهم المغزى من الإصرار على تقليص ميزانية الثقافة، على مر الأزمنة السياسية التي مرت بالبلاد؟.
سيدي الوزير المهمة صعبة والجميع يعلم ذلك، ولكن الثقافة تحتاج إلى مواقف لا إلى أقوال. وهناك العديد من المشاكل المعقدة، وتستدعي أن تفرد وزارة الثقافة لمطالب المثقفين حيزا أكبر من الحيز السياسي، لأن الثقافة هي التي تصنع الوجدان الشعبي، ولا بد من استقلاليتها عن الانتماءات السياسية والتنظيمية التي تحاول أن تحتويها مهما كان نوعها والمعادلة ليست صعبة، فقط قليلا من الإيمان بالثقافة ودورها، والاهتمام أكثر بالثقافة أمام سيطرة السياسة.
والقضية قيد النظر الآن تتمثل في الحاجة إلى برنامج قوي يفتح الطريق أمام أجيال جديدة في إدارة العمل الثقافي. نريد الرهان على كودار جديدة لا يعرفها أحد كي لا تخضع لعلاقات الصداقة أو (الشللية) أو تكوين (كتائب ظل) تدافع عنها في كل مكان، وتخلق من صغائر الأمور اليومية إنجازات أسطورية تخدع بها الرأي العام وتجدد الثقة في أصحابها دون تغير يذكر على الواقع الملموس.
ويعيدني الشق الثاني من الوزارة الموصوف بالإعلام، إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين كان حوش جامعة الأزهر القديمة في منطقة الدراسة بقاهرة المعز يضج بالحياة وصخب الشباب، وبدأ من بعيد الطالب فيصل محمد صالح يهرول لاهث الأنفاس حتى يقف أمام باب القاعة وكانت المحاضرة عن النظريات الإعلامية.
رسخت تلك المحاضرة في ذهن الطالب فيصل، ولعلها كانت دليله في (سهلة) الأداء الإعلامي حتى أسندت إليه حقيبة وزارة الثقافة والإعلام الأسبوع الماضي، وهنا تبرز ملاحظة فحواها أن الأستاذ فيصل خلال رحلته في ردهات الأداء الإعلامي كان مهموما في البحث عن مواصفات الرسالة وفعاليتها لدى المتلقي. وتستمد هذه الملاحظة مشروعيتها من جهة أن فيصل يتكئ على ثلاث ركائز، الأولى: خبرة عملية تمتد لـ 36 عاما، والثانية: دراسة أكاديمية ضمت كشكولا من المواد النظرية المتنوعة شملت علوم الدنيا والآخرة، في ثلاث من أفضل وأعرق جامعات العالم. والثالثة: إتقان جيد لأكثر من لغة أجنبية مكنته من حضور مؤتمرات ودورات علمية في عدة دول أوروبية.
وبعد .... ارجو أن تسهم هذه الأسطر على تواضعها في نجاح فيصل في مهمته الشاقة، فنجاحه لا يقف عنده فهو نجاح أجيال ترنو نحو سودان جديد.

//////////////////////

 

آراء