الحرب في أوكرانيا وتغيير الجغرافيا السياسية

 


 

 

واشنطن وبكين تحْصدان الأرباح، فمتى تَجْرُد روسيا وأوروبا الخسائر؟
د. عصام محجوب الماحي

خارج حدود أوكرانيا، تسبب الغزو الروسي في زعزعة النظام العالمي، بما في ذلك تشكيل كُتل جديدة لمْ نشهدها مُنذ الحرب الباردة. كما انقلبت التجارة والدبلوماسية في العالم رأساً على عقب، ويمكن الشعور بتأثير الصراع العسكري لعقودٍ قادمة. وفي السياق الجديد، أصبح لقادة العالم الآن خياراً بين الولايات المتحدة والصين.
مع نهاية عامها الأول، يبدو أنّ الحرب التي بدأها الكرملين على وشك إحداث تغيير بشكل كبير في الجغرافيا السياسية للعالم. وفيما يلي بعض التغييرات الرئيسية التي جاءت في تحليل لوكالة (فرانس برس) بناءً على حوارات مع مجموعة من الخبراء السياسيين والاقتصاديين والأمنيين، وقد استعرضتها الصحيفة الرومانية واسعة الانتشار (جورنالول ناتسيونال).

* ظهور كُتل جديدة:
أدّت الحرب إلى تكثيف الصراعات والمواجهات، فضلاً عن الاتجاه العالمي الناشئ للدول لتشكيل تحالفات، إمّا حول واشنطن أو بكين.
وفيما يتعلق بذلك قال رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في ديسمبر من العام الماضي "لقد انتقلنا إلى عالم مضطرب متعدد الأقطاب، حيث كل شيء أصبح سلاحاً: الطاقة، والمعلومات، والبنية التحتية، والهجرة (...) وصارت الجغرافيا السياسية هي الكلمة الحيوية. كل شيء جيوسياسي!".
بدورها أو في نفس الوقت، أصبحت آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان وإفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ ساحات صراع على النفوذ بين قوى مثل أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا - إمّا من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية أو من خلال إبرام اتفاقيات تعاون تجاري أو عسكري أو دبلوماسي.
وفوق ذلك، أدت الحرب في أوكرانيا إلى زعزعة الأمور أكثر، مِمّا أضعف نفوذ روسيا على الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى وفتح دور وساطة جديد لتركيا.
ويرى بيير رازو، رئيس مركز الأبحاث FMES ومقره فرنسا "إنّ إعادة التنظيم الجارية في حالة من الفوضى حقيقية، لكنها مؤقتة على الأرجح". وصرّح بيير لوكالة فرانس برس بأنّ "نهاية الحرب ستجعل كل من روسيا وأوروبا ضعيفة ومنهكة حتماً، بينما الرابحون الأكبر سيكونون الولايات المتحدة والصين".

* موسكو في شبكة بكين:
يبدو أن الصين تنظُر إلى الحرب على ضوء هدفها الاستراتيجي طويل المدى المتمثل في أن تصبح القوة الأولى في العالم بحلول عام 2049.
وعلى الرغم من أنّ بكين تدعم موسكو ضمنياً، إلّا أنّ القادة الصينيين تجنّبوا حتّى الآن الإيماءات التي قد تؤدي إلى تأجيج العلاقات مع الغرب.
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن أليس إيكمان، محللة شؤون آسيا في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، أنّ "الصين لا تنأى بنفسها، بل عزّزت علاقة أوثق مع روسيا".
وفي تقريرها السنوي، الذي نُشر هذا الشهر، حذّرت أجهزة المخابرات الإستونية من أنّه "من السابق لأوانه رؤية التأييد المُتحفِّظ الذي يقدمه الرئيس الصيني شي جين بينغ لحرب بوتين كعلامة على النأي بنفسه عن روسيا". وتضيف إيكمان "قد لا يتم تنسيق الدعم بشكل كامل، ولا تقدِّم الصين نفس المستوى من المساعدة التي تقدمها واشنطن لأوكرانيا، لكن علينا أنْ ننظُر إلى الحقائق، لقد تعزّزت العلاقات الاقتصادية".
بمعنى آخر، الحرب تعني أن موسكو تخاطِر بأنْ تصبح مُجرّد تابع لبكين أو تدور في فلكها. وكما تقول أغات دوماريه، الاقتصادية وخبيرة العقوبات لصحيفة (القارديان) البريطانية "روسيا ليست في وضع يسمح لها بالتفاوض مع الصين، التي ستأخُذ ما تشاء من روسيا دون إعطائها ما تريد، مثل الأسلحة أو المكونات الإلكترونية المهمة".
ومع ذلك، ووفقاً لقول إيكمان مُعلِّقة على هذا الموضوع "يمكن للأيديولوجيا أنْ تهيمن على عدم التوازن الاقتصادي، ولا ينبغي النظر إلى العلاقة من منظور عقلاني فقط".
ومن ناحية أخرى يعتقد بيير رازو "أنّ الكرملين يعتمِد على تنويع علاقاته الجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية مع تركيا والشرق الأوسط وإيران وإفريقيا" للحدِّ من اعتماده على الصين. وفي الوقت نفسه، تمنع ترسانة روسيا النووية الضخمة - أكبر بكثير من الصين - موسكو من أنْ تصبح مُستبعدة بالكامل.

* هل لا تزال أوروبا مُهِمّة؟
بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وكما قال مسؤول أوربي كبير لوكالة الأنباء الفرنسية مع عدم الكشف عن هويته، تمثِّل الحرب فرصة لإثبات قدرة الاتحاد على العمل كلاعب فاعل ورئيسي، يقوم بلعب دور "عازف الكمان الثاني" أمام واشنطن. وبرأيه "إنّ أداء أوروبا ليس سيئا للغاية. والاتحاد الأوروبي استجاب للاحتياجات العاجلة". ومع ذلك يطِلّ السؤال: هل استعدت الكتلة الأوربية للمستقبل ولمكانتها على رقعة الشطرنج العالمية؟ بحسب ما نقلته وكالة (فرانس برس) عن المسؤول الأوربي الكبير "يبدو أنّه لا يزال هناك عمل يتعيّن القيام به".
وفي الوقت نفسه، تلخص أغات ديماريه قراءتها في عبارة قصيرة وسؤال، وتقول "من الواضح أنّ هناك كتلتين، واحدة أمريكية والثانية صينية، تتشكّلان من حلفاء بكين وموسكو. فهل ستصبح أوروبا كتلة ثالثة أمْ ستنضم إلى واشنطن؟".
وبرأي بيير رازو، انّ الحلفاء في الوقت الحالي يقفون مع واشنطن لدعم كييف، والقادة الأوروبيون يريدون تقوية العلاقة مع الولايات المتحدة، لكنهم يدركون أنهم قد يجدون أنفسهم وحيدين لولاية رئاسية واحدة أو اثنتان إذا وصل مرشح انعزالي مثل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وأخذاً في الاعتبار أنّ بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا ترى أي مستقبل لها خارج المظلّة الأمنية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فإنّ كتلة الاتحاد الأوروبي تبحث في عُدّة مجالات لتقليل التبعية الاستراتيجية بعيداً عن الوقود الأحفوري الروسي، والذي يتمّ فصله حالياً إلى حد كبير عن السوق المشتركة. وقد عدّد بيان صدر من قمة أوربية عُقدت في مارس الماضي في فرساي، كأولويات، المجالات المُدرجة مثل المواد الخام الأساسية وأشباه الموصّلات والمواد الغذائية.
ومن جهته قال برونو تيرتريس من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS) ومقرها أيضاً فرنسا، إن الأوروبيين يعانون من "التسويف الاستراتيجي"، رافضين التصرُّف حتى لا يصبح لديهم خيار آخر أو قبل أن يكون لديهم خيار آخر.
ومع ذلك، سيحاول الاتحاد الأوروبي إيجاد مكاناً في المفاوضات التي ستنهي الحرب، فكما يقول تيرتريس "إذا لم تكن على الطاولة، فأنت في قائمة الطعام"!، وقد صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لصحيفة "لوموند" في ديسمبر 2022 قائلاً "لا أريد أنْ يتفاوض الصينيون أو الأتراك فقط بشأن ما سيحدث بعد ذلك".

* تمحور الولايات المتحدة نحو آسيا:
في عام 2009، تنبأ باراك أوباما الرئيس الأمريكي حينها "بأنّ العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستشكل القرن الحادي والعشرين"، مُتوقِّعاً تحوّلاً في مصلحة الإدارات في واشنطن من العالم الأطلسي إلى المحيط الهادئ.
ومع ذلك، يشير الغزو الروسي لأوكرانيا إلى أنّ انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا قد لا يكون بهذه السهولة بالنسبة لجو بايدن نائب الرئيس السابق، الذي أصبح لاحِقاً رئيسا للبيت الأبيض. وقد صرّح بذلك مؤخّراً قائد القوات الخاصة الفرنسية الفريق برتران توجوز وقال "روسيا تكبح هذا التحوّل الأمريكي نحو الصين. يجب على الولايات المتحدة أن تحلّ هذه القضية الأوروبية نسبياً بسرعة".
وتقول الباحثة جيوفانا دي مايو، من جامعة واشنطن، إنّ بايدن يواجه " القيام بلعبة توازن على حبل معلق"، مؤكدة على "الدعوات المتزايدة العديدة لحلّ النزاع في أسرع وقت مُمْكِن"، الصادِرة عن السياسيين الأمريكيين، فضلاً عن عدم رضاء الحزب الجمهوري ومعارضته شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا.
وكما قال مؤخرا لصحيفة (فاينانشيال تايمز) قائد القوات الأمريكية في اليابان جيمس بيرمان، إنّ الحرب علّمتنا الكثير من الدروس حول صراع مُحتمل مع الصين على تايوان. وقال بيرمان "بعد العدوان الروسي في عامي 2014 و2015، أصبحنا جادين في الاستعداد لنزاع مستقبلي. قُمنا بتدريب الأوكرانيين، ووضعنا الإمدادات مُسبقاً، وحدّدنا الأماكِن التي يمكننا فيها تقديم الدعم". وأضاف "نسمّي هذه الأشياء إنشاء مسرح المعركة، والآن نقوم بإنشائه في اليابان والفلبين وأماكِن أخرى".

* ضربة للعولمة:
بالإضافة إلى تزويد كييف بالأسلحة، حاول حلفاء أوكرانيا، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خنق الاقتصاد الروسي بفرض عقوبات قاسية. ومع ذلك، فإنّ الإجراءات التجارية لها تأثير أيضاّ على نظام التجارة الحُرّة العالمي.
وفي كتابها (نيران عكسية) كتبت ديماريه "تملأ العقوبات الفجوة في الفضاء الدبلوماسي بين التصريحات غير الفعالة والعمليات العسكرية القاتلة المحتملة". وفوق ذلك صرح باتريك بويان المدير العام لشركة (توتال اينرجي) الفرنسية لوكالة (فرانس برس) بأنّ عقوبات مِثل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي على سعر برميل النفط الذي تصدِّره روسيا، حيث موسكو هي لاعب رئيسي في مجال الطاقة، "أنهت السوق العالمية" للوقود الأحفوري. ويتساءل بويان "ماذا تعني فكرة سعر النفط العالمي بمجرّد أنْ قرّرنا فرض سقوف، وبمجرّد أنْ يشتري اثنان من كبار المشترين، الصين والهند - اللتان لا تطبقان العقوبات - من الروس بسعرٍ مُختلف؟"، وأضاف "إنّه شيء جديد حقّاً وسنختبِره في عام 2023".
تستمرّ القوى العظمى في التقليل من مبادئ التجارة الحُرّة التي كانت تحظى باحترام في جميع أنحاء العالم، كما هو الحال، على سبيل المثال، في القيود الأمريكية على مبيعات بعض رقائق الكمبيوتر إلى الصين أو تعليق الهند لصادرات القمح. لقد أضافت كل هذه الآثار إلى الضربة الشديدة التي وجهتها جائحة فيروس كورونا لسلاسل التوريد العالمية. وتشير ديماريه إلى أن "اتجاه التشرذم في العالم يسبق الحرب، ولكن حدثت صدمة مزدوجة، تلك التي جاءت مع جائحة كوفيد، ثم الحرب التي عجّلت به".

* أزمة تكلفة المعيشة:
كان للحرب آثار مُتتالية على تكلِفة الغذاء والتدفئة والمأوى - وهي ثلاثة من أهم الضروريات الأساسية للإنسانية - وقد شعرت بها البلدان النامية في إفريقيا وكذلك أوروبا الغنية.
وقال المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره السنوي عن المخاطر العالمية لعام 2023 "إن أزمة غلاء المعيشة العالمية حاصلة بالفعل"، مُشيراً إلى أنّ الضغوط كانت متصاعِدة حتّى قبل الجائحة. وعلى الرغم من أنّ بعض الحكومات حاولت الحدّ من تأثيرها، كتب الباحثان نعومي حسين وجيفري هالوك في دراسة لمؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية "تميّز عام 2022 بموجة غير مسبوقة من الاحتجاجاتِ على الحصول إلى السلع الأساسية اللازمة للحياة اليومية"، وأضافا "في العديد من البلدان، تحولت هذه الاحتجاجات بعد ذلك إلى أزمات سياسية وطنية أوسع نِطاقاً، مع عنف كبير وسقوط ضحايا ودعوات للتغيير السياسي".

isammahgoub@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء