الحردلو صائد الجمال (6): كاتال في الخلا..وعُقباً كريم في البيت..!!

 


 

 

مرتضى الغالي
"عماره" الرمز الأبرز في قبيلة الشكرية اصدر الخليفة عبدالله أمراً بإعدامه...وفي مخاطبته للخليفة وشفاعته لابن عمه عماره ينسج الحردلو استئنافاً شعرياً حميماً للاسترحام (clemency):
من قومة الجهل ولداً مميّز عومو
حافلات اللبوس فيهن بغزّر كومو
خليفة المنتظر..عماره أغفر لومو
جاك كبش الضحيه الليله آخر يومو..!
Here he’s standing before you, like a sacrificial lamb..!
وأخيراً عندما عفا الخليفة عن عمارة..سأل أحد الحاضرين بالمجلس الحردلو سؤالاً استنكارياً عن قيمة عمارة التي استحق بها هذا المديح العالي؛ كانت إجابة الحردلو:
إن أداك وكتّر ما بقول أديت
أب درق الموشّح كلو بالسوميت
أب رسوه الـ بكُر حجّر ورود "سيتيت"
كاتال في الخلا..وعُقباً كريم في البيت..!
Intimidating like a lion blocking access to River Setit
A fierce fighter in battle, yet hospitable at home..!
(أيش رأيك)..؟!
**
لاحقاً أرسل الخليفة عبد الله الحردلو ليعمل مساعداً لعامله قي الجنوب الشرقي من البلاد ، ويبدو أن الحردلو عانى من أيام صعبة تحت إمرة عامل الخليفة (ود البصير) بتكليفه بأعمال تحميل الجمال بجوالات الذرة ..وتوزيع حمولات الجمال على مواقع مختلفة عبر الحدود الشرقية..(الاستحقار) وهذه المعاملة الخشنة دفعت الحردلو إلى نفثات مريرة وأشعار حامضة في "ود البصير":
كان للمهدي داك..ولداً قدل فوق عزه
حت ود البصير سوانا في ...... وزّه..؟!
Now even Wad al-Basir
has squeezed us into goose asshole..!!
**
يروي الشاعر الشعبي (إبراهيم العبادي) لمحات فطنة من هذه المواقف الخطيرة الذي تأرجحت فيه مشاعر الحردلو بين الشفقة على أخيه عماره ومناصرة جماعة الخليفة شريف، وبين الخشية على وضع أسرته وأقاربه وعلى نفسه..وهو بين التصريح والتلميح وإضمار الغضب..ورجاء شفاعة الخليفة ومحاولة استرضائه ؛
قال إبراهيم العبادي: (الحردلو جا يستشفع في مسألة الخليفة شريف وقف قدام خليفة المهدي قال ليهو:
فوق لِقا فوق مَحل في الجايه ما بتتمحّن
فراج كُربة الهم القبايلو يزحّن
وكِت حسناتك السَيتِن قبيل ما صحّن..
صبر ايوب بتتقل- بو الليالي إن شحّن..!
يواصل العبادي: قام خليفة المهدي انصرف عن الحردلو.. قبّل منّو غادي...بعد دا الحردلو ضِمِن خلاص إنو اتختّ في (البلاك لست)...راح لفّ قدام خليفة المهدي.. جاهو تاني وقال ليهو مادحاً ومعتذراً:
عجل البُربُره الوقّف قرونو شراتي
نطح الصومعه..ولي اماتو جايي يتاتي
وقت الطَر مرق ركب السديس العاتي
والله البواردك في مشارعك خاتي...!!
**
صدى هذا المزاج (المانخولي) الحزين هيمن على معظم شعر الحردلو في العقدين الأخيرين من حياته خلال تلك الفترة الصعبة في المنفى وهي التي أرسل فيها مربعات الحنين الشهيرة:
البارح رقادي كسيده فوقا بريش
راكوبتاً تجيب صقطه ومعاها رِشيش
اللحماني ما أشهّل جمال العيش
هنهيناً بسوّنو الصباح بيشيش..!
On a palm frond bed and a straw mat..
I spent a sleepless night,
my shed hardly offering any shield from cold and rain
All night long haunted by their sweet coquettish whisper,
I couldn’t get in time to load sorghum on camels
صعب أمر هذا (الهنهين) وأصوات الغنج النسائية في آخر الليل..!!
**
وصل هذا المزاج السوداوي إلى ذروته في السنوات القليلة قبل وفاته عندما فقد كل أملاكه حتى اضطر لبيع سيفه مقابل بضع قبضات من حبوب العيش..!
إنه يصف كيف أنه وقد كان مالكاً مزهواً بقطيع ضخم من الأبقار انحدر إلى أن يعدم المليم..!
بعد أم بوح تقطط جامت العداد
بِعت "أب نامه" بي قيمت عشرت أمداد
إن جادت بـ خيت العنكبوت تنقاد
وأن عاقت تقطّع سلسل الحداد..!
الشطران الأخيران أصبحا من الأمثال السودانية السائرة..
حقاً هكذا الدنيا..!!:
Truly, life can be tame enough
to be led by a spider’s thread,
But it can also be stubborn enough
to break free from steel reins..!!
**
في براعة المخرج السينمائي يختار الحردلو فصلاً ختامياً يدفع بهذه التراجيديا إلى ذروتها القصوى..! إنه يستخدم أسطورة شعبيية ليجسّد صورة عاطفية لموته الوشيك..! قافلة أو موكب من الجمال يتنزّل من السماء..! "تبرك" الجمال في الأفق في انتظار اللحظة التي تخرج فيها روح الشاعر من جسده لتقوم بحملها إلى الجنة..!
وهو يختم هذا المشهد بصيحة أو صرخة في مواجهة الدنيا التي افتقدت النبل والتواضع..ولكنّه يرسل أيضاً آهة وداع حزينة لأرضه الأثيرة لديه:
زُمل القدرة جن..وفي الوطا ما ختّن
طارن للسما ومتل القماري انستّن
الجود والحيا من العقول انختّن
طال الشوق علي الوادي أب عيوشاً شتن
I’ll always miss my beloved valley,
ever bountiful and green
**
هذه التحولات الدرامية في حياة الحردلو حملت ومضات من التطورات الاجتماعية/الاقتصادية في السودان في عصره؛ حيث أنه عاصر ثلاث فترات لافتة هي: الحكم التركي المصري (1820-1885)، والمهدية (1885-1898)، وجزءاً من فترة الحكم الانجليزي المصري (1898-1956)....وكل فترة من هذه العهود تركت آثارها في شعره..والتأثير التراكمي لهذه الفترات الثلاث أسهم بقوة في ثراء تجربته وساعد في تأسيسه كأحد أهم الايقونات والرموز الحيّة في الثقافة السودانية..!

murtadamore@yahoo.com

 

آراء