الحكومة العسكرية في السودان في الأعوام الثلاثة الماضية (1959 – 1961م)

 


 

 

الحكومة العسكرية في السودان في الأعوام الثلاثة الماضية (1959 – 1961م)
Military Government in Sudan: The Past Three years
بيتر كيلنر Peter Kilner
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: تقديم: هذه ترجمة لمقال عن الحكم العسكري الأول بالسودان بين عامي 1959 و1961م، بقلم بيتر كيلنر، رئيس تحرير مجلة Arab Report and Record. نُشِرَ المقال عام 1962م في الجزء السادس من المجلد رقم 18 لمجلة "العالم اليوم The World Today" التي تصدر عن "المعهد الملكي للشؤون الدولية"، ص 259 – 268.
ربما يلاحظ القارئ أن الكاتب البريطاني – لسبب ما - يمالئ في كثير من المواضع نظام 17 نوفمبر وقائده، ويدافع عنه.
المترجم.

****** * *****
عندما قامت حفنة من كبار ضباط الجيش بالإطاحة بالحكومة (المدنية المنتخبة) في 17 نوفمبر 1958، تقبل الكثيرون الحكم العسكري بحسبانه "ضرورة مؤقتة"، وحملوا على محمل الجد تأكيد قائد الانقلاب (الفريق إبراهيم عبود) بأنه – وزملائه - سيعودون لثكناتهم بأعجل ما تيسر - "في غضون ستة أشهر، أو عام أو ربما عامين". وكانت طبيعة الحكومة الانقلابية الجديدة، بحسب إعلان قائدها، تشير إلى أنها حكومة انتقالية مؤقتة، جاءت لحماية المصالح الوطنية في غضون فترة عصيبة وحرجة، ولحفظ الأمن والاستقرار بالبلاد ومراقبة الأوضاع وتهيئة البلاد للعودة لنظام برلماني أكثر استقامةً وصلاحاً. ولم يكن ذلك الحكم العسكري قد أتى نتيجةً لأي مطلب شعبي، أو عبر رفض شعبي عارم للساسة المدنيين؛ بل كان رئيس الوزراء عبد الله خليل هو من شجع العسكريين على استلام السلطة، بعد أن ظل خاضعا لضغوط كبيرة وهو يحاول الحفاظ على حكومة الائتلاف الذي أقامه مع حزب سياسي آخر. وظل عبد الله خليل خائفاً يترقب من "مؤامرة" مصرية ضده، ويؤمن بأن قيام حكومة عسكرية سيجلب للبلاد الوحدة والتماسك والتلاحم وإِدْراك الغاية.
وبقي الفريق عبود ورفاقه إلى الآن يحكمون السودان منذ ثلاث سنوات ونصف، ويبدو أنهم يَنْوُونَ البقاء لسنوات أخرى. وبعد عام حكمهم الأول الذي ساده الاضطراب (كما جاء في مقال سابق لهذا الكاتب صدر عام 1959م في مجلة The World Today. المترجم)، سَعَوْا منذ ذلك الحين إلى تحويل الطبيعة المؤقتة لنظامهم (الانقلابي)، إن لم يكن إلى نظام مستدام، فإلى مرحلة محددة من تطور البلاد. وصوروا في نفس الوقت، منذ البداية، وبأثر رجعي، استحواذهم على السلطة بحسبانه ثورةً شعبيةً (بيضاء). وفي هذا الصدد، فإنهم يحققون نجاحاً متزايداً. ووقع في عيد "ثورتهم" الأول (في نوفمبر 1958م) حدثان سهلا القيام بتلك المهمة. فقد كان النظام قد عانى في عامه الأول من صراعات داخلية في أوساط قادة الجيش، وأخفق أيضاً في إظهار الوحدة والاستقرار الذي كان متوقعا منه، خاصة وأنه قد جاء إلى السلطة في الغالب بسبب علاقات السودان المتوترة مع الجمهورية العربية المتحدة، ج ع م (وهو الاسم الرسمي لمصر وسوريا عند اتحادهما في 22 /2/1958م. المترجم). وبحلول نوفمبر 1959م ساد الهدوء والاستقرار في الجيش، وتحسنت لدرجة كبيرة العلاقات الثنائية مع ج ع م.
وكانت الحادثة الأولى هي قيام عدد محدود من صغار ضباط حامية بالخرطوم بمحاولة انقلاب في العاشر من نوفمبر 1959م وكانت تلك محاولة سيئة التنظيم، وقليلة الأهمية، ولم تكن لديها فرصة كبيرة للنجاح وازاحة كبار الضباط من سدة الحكم، مقارنةً بالمحاولات الانقلابية الثلاث السابقة التي قام بها بعض كبار الضباط في غضون ذلك العام. ونبعت أهمية ذلك الانقلاب الفاشل في العقوبات التي صدرت على من قاموا به. فقد كانت عقوبة من قاموا بالانقلابات السابقة هي السجن؛ أما عقوبة صغار الضباط الذين قادوا انقلاب نوفمبر 1959م فقد كانت هي الإعدام. وكانت المحكمة العسكرية قد قضت بإعدام 5 من أولئك الضباط، وبالسجن المؤبد والطرد من الخدمة العسكرية على 3 ضباط آخرين، والسجن 14 سنة على أصغر الضباط، وكان برتبة ملازم أول؛ وسجن مدني واحد لخمس سنوات (مع تبرئة عدد من الضباط لم تثبت عليهم تهمة الاشتراك في ذلك الانقلاب، كان من بينهم جعفر نميري. المترجم). وكان نظام عبود يهدف من إراقته للدماء لأول مرة، إلى تنبيه وتحذير ضباط الجيش الآخرين إلى أنه ما عاد يحتمل أي نوع من العصيان أو محاولات الانقلاب عليه لأسباب سياسية. وفصل نظام عبود 17 من الضباط الذين كان يُشَكُّ في ضلوعهم – بصورة ما - في ذلك الانقلاب الأخير. غير أن الجيش ظل بعد فشل ذلك الانقلاب يُبْدِيَ الولاء لقادة النظام، الذين تحولوا لسياسيين.
أما الحادثة الثانية، التي وقعت في نفس الأسبوع الذي حدثت فيه محاولة الانقلاب العسكري الفاشل، فقد كانت هي توقيع اتفاقية مياه النيل مع ج ع م. وقد تم التوصل لتلك الاتفاقية بعد شهر كامل من المفاوضات في القاهرة، وضمن السودان بموجبها استخدام 18.5 مِليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً (أي ما يعادل ربع إجمالي متوسط التدفق السنوي للنيل البالغ 84 مِليار متر مكعب، بعد خصم ما يتبخر من تلك المياه في مستودع مياه السد العالي، وهو نحو 10 مِليار متر مكعب). وعلى الرغم من أن حصة السودان من المياه في تلك الاتفاقية، والتعويضات المالية التي نصت عليها الاتفاقية (البالغة 15 مليون من الجنيهات السودانية، وكانت قيمة الجنيه السوداني يومها تعادل قيمة الجنيه المصري، وتفوق قيمة الجنية الإسترليني بقليل) أقل مما كان السودان يسعى منذ سنوات للحصول عليه من مصر، إلا أن الاتفاقية وجدت ترحيبا واسعا، بحسبانها تسوية عادلة أفلحت في إنهاء خلاف كبير أضر بالعلاقات السودانية – المصرية، وعطلت التعاون بين الدولتين الجارتين، وأخرت أيضا مسيرة التنمية الاقتصادية الداخلية في السودان. ومنذ توقيع تلك الاتفاقية، تمكن السودان من المضي قدماً في الحصول على تمويل عالمي لإنشاء سَدّي ومشروعي خشم القربة والروصيرص. وللمشروعين أهمية وفائدة عظيمة في زيادة المساحات الزراعية المروية. ومضت الأجزاء الفرعية من الاتفاقية بشكل جيد – فقد دفعت مصر على أقساط منتظمة 11 مليون جنيه كتعويض، وتم عقد اجتماعات سنوية (بالتناوب بين الخرطوم والقاهرة) للجنة الفنية المشتركة لمناقشة التحكم في مياه النيل – ومع تحسن العلاقات التجارية والمالية بين البلدين، تبدد القلق والضغوط والتوترات بينهما، تلك التي كانت في الماضي هي موضوع الخلاف الدائم في سياسة الخرطوم. وتبادل الرئيسان (إبراهيم عبود وجمال عبد الناصر) الزيارات الرسمية، وعزز ذلك من التسامح المتبادل وشجع على التعاون المشترك بينهما.
ومع تمكن نظام عبود داخلياً في القضاء على محاولات الانقلاب والتمرد عليه، ونجاحه خارجياً في حل مشكلة السودان مع ج م ع، شرع في العمل على بناء صورته الذاتية، بحسبانه البديل للقيادات الطائفية والسياسية التي كان الشعب السوداني قد اعتاد على القبول بها، وأن يخلق لنفسه مؤسسات اجتماعية جديدة لملء الفراغ الذي خلفه حل الأحزاب السياسية، وتعليق عمل النقابات العمالية والأندية بمختلف أنواعها، وحظر حرية التعبير والتجمعات.
وساهمت ثلاثة عوامل في بناء النظام لصورته الخاصة، وكانت من صالحه: أولها هو شخصية الرئيس عبود؛ وثانيها هو التقدم الاقتصادي الذي حدث في غضون سنوات حكمه الثلاث (نتيجة لارتفاع انتاج القطن وزيادة أسعاره، وللمساعدات الخارجية الكثيرة التي جاءت للسودان)؛ وكان العامل الثالث هو عدم مبالاة سكان الأرياف بمن يحكم في الخرطوم، شريطة حصولهم على بعض المنافع. وكان الجيش السوداني يجد الاحترام الواسع بين المواطنين لبراعته العسكرية، غير أنهم لم يكونوا يعدونه قط "نخبة elite" عندما يتعلق الأمر بالفكر أو القدرة. وكان النظام قد أفلح في التقليل من احتمالات الاشتباكات بين المسؤولين العسكريين والمدنيين وعامة الشعب من خلال الحد من تدخل ضباط الجيش في الشؤون المدنية إلى أدنى الحدود. وبحسب نظام حكم محلي جديد أدخله نظام نوفمبر، اِسْتَحْوَذَ الجيش على النفوذ والهيبة التي كان يتمتع بها الحكام المدنيون، وعلى بعض وظائفهم في تسع مديريات، بينما شغل خمسة ضباط آخرين مناصب عليا في الخدمة المدنية؛ ولكن، بصرف النظر عن هؤلاء، فإن الجنرالات الكبار السبعة فقط هم من كانوا يشكلون المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذي يعمل بشكل جماعي باسم رئيس الدولة)، وكذلك الوزراء الذين يجسدون النظام. وكان على رأس الدولة والوزارة الفريق إبراهيم عبود (الذي بلغ من العمر 62 عاماً عند كتابة هذا المقال في 1962م)، وهو شخصية نالت شعبية كبيرة عند المواطنين في كثير من أنحاء البلاد بسبب طبيعته الدافئة والمحبوبة، وبعده عن المظاهر الرئاسية التي تَتَّسِم بالطغيان والتكبر. وكانت شخصيته المحترمة والمحبوبة قد جعلت الكثيرين يتغاضون عن كثير من أخطاء زملائه في الحكم. وإن كان السودان يُعد اليوم – بمقاييس الحكم المعتادة - دولة ديكتاتورية، فالفريق عبود أبعد ما يكون عن المفهوم المعتاد للديكتاتور. ويجمع الكثيرون على أن جموع الشعب التي ترحب به في المناسبات العامة كانت تقوم بذلك في عفوية وحماسة حقيقية، خلافاً لتلك الاستقبالات في المناسبات الرسمية التي كانت السلطات الحكومية تحشد لها أطفال المدارس في شهور النظام الباكرة (لقراءة رأي مخالف بقلم "شاهد عيان" عن تلك الأيام أنظر المقال المعنون "استغلال الأطفال في السياسة" في سودانايل عام 2009م. المترجم). غير أن النظام لم يقم – حتى الآن – باختبار شعبية الفريق عبود في أي انتخابات أو استفتاء شعبي على رئاسته للدولة؛ وقُدم اقتراح مثل هذا في النصف الأول من عام 1961م، لكن سرعان ما تم التخلي عنه في صمت.
وفي أرياف البلاد كان بمقدور النظام الاعتماد على بعض الحماسة القبلية، وعلى قدر وافر من اللامبالاة وعدم الاكتراث. أما بين أنصار المهدي في الأرياف، وعند المتعلمين في المدن، فقد تقبل بعضهم النظام أو تسامحوا معه، بينما عارضه آخرون؛ وبدت بعض مظاهر تلك المعارضة على السطح رغماً عن القيود الصارمة التي فرضها النظام. ولم تنبع تلك المعارضة من حفنة من السياسيين الذين فقدوا مصداقيتهم (كما يزعم النظام للرأي العام الأجنبي)، ولكنها نبعت من أربعة عناصر أو مجموعات تشعر بأن لديها مصلحة حقيقية في تنمية البلاد واستقلالها ومبادئها الديموقراطية. وكانوا يتكونون من: أنصار المهدية؛ والناشطون الجدد؛ والمؤيدون لحركة مؤتمر الخريجين التي قادت إلى استقلال السودان، والتي ترتبط باسم إسماعيل الأزهري أول رئيس وزراء السودان المستقل؛ والعمال والطلاب. وفي سبيل التعامل مع تلك المعارضة، يمتلك النظام العسكري سلاحين قويين سَلَحَ بهما نفسه عندما وصل إلى السلطة - حالة الطوارئ (السودان في حالة طوارئ الآن منذ 3 سنوات ونصف)، وقانون الدفاع عن السودان الذي صدر عام 1958م، الذي ينص على الاحتجاز غير المحدود دون محاكمة، وإحالة القضايا المدنية إلى المحاكم العسكرية، وزيادة العقوبة على مجموعة واسعة من الأنشطة التي تعتبرها الحكومة معاديةً لها أو لسمعتها. في إطار كل تلك القوانين واللوائح، تواصل المحاكم في العمل و"إقامة العدل". وبذا يمكن القول إنه من الناحية الفنية (الشكلية) لا يزال مبدأ "سيادة القانون" سارياً. ووجَّه المعارضون معارضتهم ضد الإجراءات الحكومية المتخذة بموجب تلك القوانين وضد القوانين نفسها، عوضاً عن المعارضة (المباشرة) للحكام العسكريين، الذين يتقبلهم أنصار المهدي ويتسامحون مع نظامهم، طالما أنه يسير نحو إعادة إدخال شكل من أشكال الحكومة التشاورية / الاستشارية. وأقامت ثلاثة عناصر من عناصر المعارضة الأربعة لها تحالفا في عام 1960م أسمته "الجبهة الوطنية"، عززت فيه الاحتجاجات التي كان الإمام الصديق المهدي والسيد إسماعيل الأزهري قد قدماها في نوفمبر عام 1959م ضد استمرار الحكم العسكري. وتكررت ذات الاحتجاجات في نوفمبر 1960م، وظهرت للعلن في يوليو من عام 1961م. وكانت احتجاجات نوفمبر 1960م التي جاءت بعد عامين من الانقلاب العسكري الأول بالبلاد قد أعقبت قيام مظاهرات منظمة في العاصمة وبعض مدن البلاد احتجاجاً على إعادة توطين أهالي وادي حلفا (التي ستغرقها مياه بحيرة السد العالي في عام 1963م) في منطقة خشم القربة الوقعة على نهر أتبرا. ولم تقم تلك المظاهرات لمجرد ترحيل أهالي حلفا لتك المنطقة تحديداً، بقدر ما كانت احتجاجاً على عدم وفاء الحكومة بالوعد الذي قطعته لأهالي وادي حلفا بإعادة توطينهم في المنطقة التي يرغبون في الانتقال إليها. وكانت تلك المظاهرات مقياساً لقوة المعارضة. وأفلحت تلك المظاهرات – بصورة فعلية – في احتجاز ثلاث وزراء قدموا من الخرطوم، لمدة ثلاثة أيام في فندق بوادي حلفا، مما سبب حرجا بالغاً للحكومة. إلا أن تلك المظاهرات لم تسبب سوى القليل من الانزعاج والقلق للحكومة، إذ أن الشرطة فضتها بضرب المتظاهرين بالسياط، وإطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم.
وكانت احتجاجات يوليو في العام السابق قد أعقبت إضرابا لعمال السكة حديد في الشهر السابق لتلك الاحتجاجات (تحديدا في الفترة بين 17 – 24 يونيو 1961م. المترجم) وذلك لعدم استجابة مصلحة السكة حديد لمطالبهم برفع الأجور. وكان ذلك الاضراب قد شل لأسبوع كامل كل الخدمات التي كانت تقدمها تلك المصلحة للجمهور، وأفضى لقيام الحكومة بمنع نشاط نقابة عمال السكة حديد، والتي كانت الحكومة قد سمحت بإعادة تسجيلها قبل شهور قليلة من قيام ذلك الاضراب وفق قوانين عمل جديدة. ودفعت مشاركة طلاب جامعة الخرطوم في مظاهرات مناهضة للحكومة إلى أن تعدل الحكومة قانون الجامعة بحيث تغدو تلك المؤسسة التعليمية العليا تحت سلطة الحكومة مباشرة. وكانت من الأسباب المباشرة لاحتجاجات يوليو التي وردت في برقية حادة اللهجة أرسلت للفريق عبود، هي اعتقال أحد المحامين في إحدى المدن الإقليمية كان قد أدعى في جلسة للمحكمة أن شاهداً قد تعرض للتعذيب. ودفعت نبرة الاحتجاج وسلسلة الاضطرابات الصغيرة التي أدت إليها النظام إلى التحرك، فاعتقل سبعة سياسيين بارزين، بالإضافة إلى آخرين وقعوا على برقية الاحتجاج، وأرسلهم إلى جوبا في الجنوب النائي. وكان من بين هؤلاء إسماعيل الأزهري أول رئيس للوزراء، وعبد الله خليل الذي خلف الأزهري في رئاسة الوزراء، وكان هو من أهم الذين حضوا قائد الجيش لاستلام السلطة؛ ووزيري خارجيتهما على التوالي: مبارك زروق ومحمد أحمد محجوب (المقصود بالطبع هي حادثة شهيرة تعرض فيها ناشط سياسي في مدينة الأبيض لتعذيب شنيع، ودفع الأمر زعماء الأحزاب السياسية المعارضة لرفع برقية احتجاج شديدة اللهجة لعبود. المترجم).
لم تقم الحكومة باعتقال أو نفي الصديق المهدي، إمام الأنصار ورئيس "الجبهة الوطنية" لجوبا مع غيره من زعماء الأحزاب المعارضة، غير أنها حظرت الأنشطة العامة التي كانت تمارسها حركة "شباب الأنصار" (وهي تنظيم ديني – اجتماعي)، إذ أن نشاطاتها المزدوجة وموقفها حيال أي قضية سياسية ربما تتسبب في انتفاضات قد تتمدد لمناطق واسعة من البلاد، مما يجعل السيطرة عليها أمراً عسيرا على السلطات الأمنية. وبعد شهر واحد على قرار حظر ذلك التنظيم وقع اشتباك مؤسف وغير ضروري في أمدرمان بين رجال الشرطة وجماعة من الأنصار في احتفال بذكرى المولد النبوي. وتقول الشرطة أنها أمرت تلك الجماعة في البدء بالتفرق قبل أن تطلق عليهم النار. وقُتل في ذلك الاشتباك 17 فرداً (13 من الأنصار و4 من رجال الشرطة). وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من الأنصار والمتعاطفين معهم كانوا قد شهدوا مراسم دفن قتلاهم، إلا أنه لم تحدث أي صدامات بعد حادثة المولد تلك، وبقيت البلاد هادئة. وتم للمرة الثانية اختبار سلطة النظام وهيبته، ولكنه ظل مستقراً على حساب سَفْك الدماء. وبعد ستة أسابيع من تلك الحادثة الدامية، توفي الإمام الصديق، قائد معارضة النظام العسكري، عن عمر لم يتعد الخمسين عاماً. وكان الرجل يتمتع بتأييد أعداد كبيرة من السودانيين، ويستمع الفريق عبود إلى آرائه. وكان نداؤه وهو على فراش الموت هو: "مطلبنا هو مطلب كل مواطني هذه البلاد – إطلاق الحريات العامة والحكم الديمقراطي، والحكم بالشورى". وظلت أصداء ذلك النداء تتردد عند الكثيرين، إلا أن وفاته حرمت "الجبهة الوطنية" من قائدها الموحد. ومنذ وفاة الإمام الصديق المهدي، لم يُسمع إلا القليل من جماعات المعارضة الرئيسية. ورحب خليفته بالخطوات التي أعلنها الفريق عبود في نوفمبر 1961م للسير نحو تكوين حكومة ديمقراطية، ودعا إلى رفع حالة الطوارئ وحث على الإسراع بالتوجه نحو الديمقراطية. وأعادت الحكومة الوزراء السابقين السبعة الذين نفتهم إلى جنوب السودان منذ يوليو من العام الماضي، إلى الخرطوم مرة أخرى في يناير 1962م، وتم احباط محاولة تحشيد محتمل للجبهة الوطنية القديمة للترحيب بعودتهم من منفاهم بوصفهم "أبطالاً للديمقراطية" عبر حظر حكومي لذلك الحشد، وهو حظر تم قبوله بهدوء.
لقد كانت تلك الحوادث الكبيرة التي وقعت بين النظام العسكري والمجموعات المعارضة له (مجرد) انتفاضات معزولة عبرت عن النَقمَة والاستياء، غير أن مجموعات الطلاب والعمال ظلت دوماً مصدر مضايقة وإزعاج مستمر للحكومة، وكان الشيوعيون في أوساطهم هم من يعملون أحيانا على تحريضهم على معارضة النظام بالمظاهرات والبيانات الاحتجاجية المكتوبة. وحاول النظام منع ذلك النشاط بتقديم المحرضين لسلسلة من المحاكمات العسكرية والمدنية. وفي ذات الوقت فرض النظام رقابةً مشددة على الصحافة غير المملوكة للدولة بصورة مباشرة، ومنعها تحديداً من التعليق على أي أمر يتعلق بخطط الحكومة لتكوين مؤسسات ديمقراطية مُستحدَثة وقوانين عمل جديدة.
ولن نتطرق هنا إلا باقتضاب شديد للأحوال في جنوب السودان (ذلك الجزء غير العربي من البلاد) إبان سنوات النظام العسكري الثلاث الأولى. ويكفي أن نذكر هنا أن الجنوب ظل في الغالب – كما تفيدنا الحقائق المتوفرة – هادئا، على الرغم من الاستياء المكتوم من إجراءات الحكومة وسياساتها التي أعلنتها لحظر النشاط السياسي، وتوحيد شطري البلاد قسراً، وفرض تطابق أو تَجَانُس بالقوة على سكانهما، ومحاولة الحكومة تنفير الجنوبيين من اعتناق الديانة المسيحية وإثنائهم عن تعلمها. ومن تلك الإجراءات التي اتخذتها السلطات في هذا الشأن – كما هو متوقع - هو جعل يوم الجمعة عطلة أسبوعية رسمية عوضاً عن يوم الأحد، وحظر دروس التعليم المسيحي وتجمعات المسيحيين الأخرى في بعض المناطق بموجب قوانين الطوارئ التي تمنع التجمعات العامة، والإصرار على أن أي تلميذ يسعى للحصول على تعليم مسيحي يجب عليه أن يقف - في رفقة ولي أمره وزعيم قبيلته - أمام مسؤول المديرية ويقدم طلبه كتابةً ويوقع عليه. وهذا الشرط الأخير قد يفتح الباب أمام ضغوط كبيرة لا تخفى قد يتعرض لها التلميذ الجنوبي وولي أمره. غير أنه ينبغي أن نذكر هنا أن إجراءات الحكومة العسكرية وسياستها في الجنوب لم تكن تختلف عن سياسات الحكومات المدنية التي سبقتها، والتي كانت تقوم على مخالفة وعكس السياسة التي أقرتها الإدارة البريطانية بين عامي 1930 إلى 1946م، تلك التي كانت تشجع على تنصير الجنوبيين وتعليم واستخدام اللغة الانجليزية واللغات المحلية، وكانت بالتأكيد تقف ضد تعليم التلاميذ اللغة العربية والإسلام.
وفي عام 1960م أوقعت الحكومة عقوبات قاسية على عضو سابق بالبرلمان وخمسة من طلاب الثانوي قاموا بتوزيع منشورات ضد فرض الحكومة يوم الجمعة عطلةً رسمية. وقاد ذلك بعد شهر واحد إلى فرار خمسة من البرلمانيين الجنوبيين السابقين من مناطقهم. وقام مسؤول إداري جنوبي في عام 1961م بالفرار من الجنوب ليقيم من مدينة دار السلام بتنجانيقا حركةً سماها "حركة تحرير جنوب السودان"، وكان يدعو قادة دول شرق أفريقيا للمساعدة في حل مشكلة جنوب السودان، ويقول بأنه سيناشد الأمم المتحدة للعمل على حل تلك المشكلة، إلا أن ذلك لم يحدث بعد.
إن الكتابة بالتفصيل عما تقوم به حركات المعارضة السودانية قد يندرج تحت باب المبالغة في أهميتها على المدى الطويل في طريق التطور الديمقراطي. ومن ناحية إيجابية، كان النظام العسكري قد خطا خطوتين مهمتين نحو بناء ما أسماه "ديمقراطية حقيقية تتجنب أخطاء الماضي". وكانت خطوة النظام الأولى هي ما أدخله في يوليو 1961م من شكل جديد من أشكال الحكم المحلي على مستوى المناطق والمديريات، بعد دراسة مطولة قامت بها لجنة ترأسها رئيس القضاء (محمد أحمد أبو رنات، 1902 – 1977م. المترجم). وأستعيض بتلك الصيغة الجديدة للحكم المحلي عن نظام المجالس الريفية والحضرية القديم، وقيل إن النظام الجديد سيعزز من سلطات المجالس الجديدة، ويوسع من مداها في مناطق لم تكن فيها مثل تلك المجالس، ويمنحها في كل المديريات التسع استقلالية عن الحكومة المركزية. أما خطوة النظام الثانية فقد كانت هي تكوين لجنة دستورية لتقديم توصيات بشأن تشكيل مجلس مركزي (يمثل الطبقة العليا من الهرم الدستوري). وقد عقدت هذه اللجنة، التي ضمت ضابطاً واحداً من الجيش، وكان من بين أعضائها أحد المديرين الجنوبين البارزين، اجتماعها الأول في يناير من هذا العام. ومن المتوقع أن تقدم توصياتها بحلول نوفمبر1962 م.
وفي الجانب الاقتصادي تمكن النظام العسكري، بعد عامه الأول الذي انشغل فيه بتقليص النفقات والانشغال بتكثيف احتياطيات العملات الأجنبية، من المضي قدماً وبسرعة في تنفيذ مشاريع التنمية التي كانت قد أعدتها الحكومة المدنية السابقة، ولم يتم ذلك بسبب نقص الأموال؛ وفي حالة مشاريع النيل، بسبب عدم وجود اتفاق مع ج.ع.م. وتطلب تنفيذ تلك المشاريع التنموية إنفاق الكثير من العملات الصعبة على الاستيراد، مما أفضى لعجز في الميزان التجاري في غضون الثمانية عشر شهرا المنصرمة. غير أن الاستدانة من الخارج عوضت ذلك العجز. وفي خلال سنوات 1959 – 1961م كان العجز في الحسابات الجارية (التجارية وغير المرئية) قد بلغ 8.3 مليون جنيه سوداني (ج س)، بينما تم سحب 31.1 مليون ج س من مخصصات القروض الأجنبية، وتم استلام 7 مليون ج س من ج. ع. م، واستلام مليونين آخرين في 1962م (كجزء من تعويضات وادي حلفا). وبحسب ما جاء في تقرير بنك السودان السنوي لعام 1960م، وصلت احتياطيات النقد الأجنبي الحرة في السودان (وكلها تقريباً بالجنيه الإسترليني)، إلى نقطة أعلى في عام 1960م، وبلغت 35.7 مليون ج س في نهاية عام 1961م، مع أرصدة لصالح السودان في حساب ج. ع. م. الخاص بلغت 8 ملايين ج س، وعلى حسابات ثنائية مع دول أوروبا الشرقية بلغت 0.4 مليون ج س.
وبخلاف القروض البريطانية والألمانية الفيدرالية التي تم التفاوض عليها في عام 1958م، واستمرار المساعدات الأمريكية (14.8 مليون ج س تم توفيرها حتى نهاية عام 1961م)، وقرض البنك الدولي السابق لتطوير السكك الحديدية بقيمة 13.6 مليون ج س، تفاوض السودان منذ ذلك الحين على قرض من البنك الدولي بقيمة 5.4 مليون دولار لإكمال توسعة منطقة الجزيرة المروية بالمناقل؛ وعلى قرض ألماني فيدرالي بقيمة 17.9 مليون لإقامة سد الروصيرص، وائتمان من يوغسلافيا بقيمة 5.4 مليون ج س لإنتاج سفن تجارية، وتشييد مدبغة للجلود ومصنع للكرتون؛ وائتمان من الاتحاد السوفيتي بحوالي 8 ملايين ج س لتغطية بناء أربعة مصانع لتعليب الأغذية، مع إنشاء صومعتين للغلال، وثلاثة مراكز تعليمية، ومعهد للبحوث الزراعية. وشملت مشاريع التنمية التي أقيمت في خلال العامين المنصرمين مصنعاً للغزل والنسيج في الخرطوم بحري، تم تمويله جزئيا عن طريق صندوق قروض التنمية التابع للولايات المتحدة، الذي بدأ في الإنتاج في نوفمبر 1961م؛ ومد خط السكة حديد إلى مدينة واو في جنوب السودان، الذي اُفْتُتِحَ في فبراير عام 1962م؛ ومصنع سكر بالجنيد في مديرية النيل الأزرق تم تشييده بتمويل جزئي من هيئات المانية فيدرالية، بدأ في الإنتاج في مايو 1962م. وسينتهي العمل في مشروع امتداد المناقل في صيف هذا العام. وبدأ العمل بالفعل في تشييد سدي الروصيرص وخشم القربة. وستبحر أول سفينة تجارية بُنِيَتْ بعون يوغسلافي من ميناء بورتسودان إلى أوروبا في مارس من هذا العام.
وظل النظام العسكري يخطط ويمول مشاريعه التنموية على أساس سنوي، ولكنه بدأ من هذا العام في تنفيذ خطة مداها سبعة أعوام (1962 – 1969م)، وسُينفق على هذه الخطة مبلغ 250 مليون ج س. ولم تُنْشَر بعد تفاصيل تلك الخطة، غير أن نائب مدير البنك الدولي للإنشاء والتعمير (وهو أحد المؤسسات الخمس التي يتألف منها البنك الدولي. المترجم) كان قد زار السودان في مايو 1962م وأبدى اهتماما بتمويل جزء من تلك الخطة السُباعيّة، ولكنه أشار أيضا لتحفظه على تركيز بعض مشاريع التنمية في تلك الخطة بمناطق معينة في البلاد. وكانت تلك الخطة تشمل توسيع شبكة خطوط السكة حديد وإصلاح ميناء بورتسودان، لا سيما بعد فشل الهيئتين في مقابلة احتياجات اقتصاد السودان الذي أخذ في التوسع (بدليل حالات التكدس والاكتظاظ في المرفقين)؛ وتشييد طريق بري يصل بين الخرطوم ومدني وكسلا وبورتسودان كان برنامج المعونة الأمريكية للسودان قد قام بعمليات المساحة له.
ولا يزال القطن هو المحصول الرئيس الذي يجلب للبلد نقداً أجنبيا، وستعتمد عليه البلاد في تنفيذ خطة التنمية السُباعيّة الطموحة. وسيعتمد الأمر على مدى قدرة السودان على بيع أقطانه، وكذلك على وضع الأسواق العالمية. لقد كان انتاج القطن السوداني في موسم 196 – 1962م وفيراً بصورة استثنائية، غير أن مخازن مصانع الغزل والنسيج في بريطانيا وأوروبا الغربية كانت تحتفظ بكميات كبيرة من القطن من مواسم سابقة، مما جعل من العسير على حكومة السودان تصريف كل انتاج ذلك الموسم. وإن تكررت مثل هذه الحالة، فقد يضطر السودان إلى الاعتماد على القروض الخارجية، علماً بأن سداد الديون التي حصل عليها السودان وفوائدها سيبلغ 19 مليون ج س في غضون أعوام 1962 – 1965م.
سيدخل النظام في نوفمبر القادم عامه الخامس. وإن لم تتصد جماعة (انقلابية) من صغار الضباط لسلطة النظام الحالي، أو تنجح معارضة مدنية في إزاحته عن الحكم، فمن المرجح أن يبقى النظام الحالي على سدة الحكم لمدة تكفي لتنفيذ خططه الطموحة لتحقيق الديمقراطية غير المباشرة، وتنفيذ خططه للتنمية الاقتصادية حتى تؤتي أُكْلَها؛ وبحلول ذلك الوقت، كما هو مأمول، ربما تتلاشى ذكرى الأيام الخوالي للسياسة الحزبية وينحسر تأثير الطائفية الدينية. وقد ينجح النظام في توحيد ودمج الجنوب مع بقية أجزاء البلاد بروح وطنية جديدة. والآن، مع مرور عدد من سنوات قبل تنفيذ تلك الخطة السُباعيّة، يصعب الحكم على ما إذا كان الإنجاز (إن تم بالفعل) يستحق التكلفة في التنمية السياسية الحرة، والتي يمكن أن يتشارك فيها الجميع لبلوغ نظام يدلو فيه الجميع بدلوه في حرية، وليس نظاماً مفروضاً بالقوة؛ وما إذا كان الحكم المدني لم يكن بمقدوره تحقيق ذات القدر الذي حققه النظام العسكري.

alibadreldin@hotmail.com
//////////////////////

 

آراء