الخُرْطُومْ وطَهْرِانْ: لِمَ الآنْ؟! .. بقلم/ كمال الجزولي

 


 

 

(1)
مهما بحث المحلِّلون عن سبب لقطع العلاقات الدِّبلوماسيَّة بين السُّودان وإيران عام 2016م، فإنَّهم لن يبلغوا أبعد من السُّوء الذي حاق بعلاقات إيران والسُّعوديَّة، في ذلك التَّاريخ، بسبب اقتحام المظاهرات الإيرانيِّة لسَّفارة المملكة بطهران، وقنصليَّتها بمشهد، ونهبهما، وتخريبهما، وحرقهما، في الثَّاني والثَّالث مِن يناير مِن ذلك العام، على خلفيَّة تنفيذ المملكة، وقتها، حكم الإعدام، تعزيراً، بحقِّ المعارض السُّعودي الشِّيعي نمر النَّمر، الأمر الذي قامت المملكة، في عقابيله، بقطع علاقاتها الدِّبلوماسيَّة بإيران، وتبعتها في ذلك بعض الدُّول العربيَّة تضامناً، ومن بينها السُّودان.
قطع العلاقات الدِّبلوماسيَّة، واستعادتها، سلوك طبيعي بين الدُّول، يقع يوميَّاً في إطار ممارسة تلك العلاقات، ينظمه ويحكمه القانون الدَّولي. والعلاقات التي تنقطع، لسبب أو لآخر، غالباً ما لا تبقى على حال قطعها، إذ أثبتت الخبرة المتراكمة أنَّها ما تلبث أن تُستعاد، طال الزَّمن أم قصُر. تلك، كما في مباريات الشطرنج، تماماً، عبارة عن "نقلات" متبادلة على "رقعة" العلاقات بين الدَّول. لكن، وكما يحدث، عادة، في "رقعة الشطرنج"، فما مِن شئ يحدث، فجأة، من فراغ، أو في فراغ، بما في ذلك "القطع" و"الاستعادة"، بل يتحدَّد بحسب طبيعة المجال المميِّز لتلك "الرقعة" التي يجري الصِّراع عليها، سياسيَّة كانت، أم اقتصاديَّة، أم أيديلوجيَّة، أم عسكريَّة، أم غيرها!
بمراعاة جملة هذه العوامل، إذن، فإن ثمَّة مقدِّمات منطقيَّة لكلِّ "نقلة"، وقد جاء في الأخبار، مؤخَّراً، أن لقاءً تمَّ بين وزيري خارجيَّة البلدين، السُّوداني المكلَّف علي الصَّادق، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز بالعاصمة الأذربيجانيَّة "باكو" في 7 يوليو الجَّاري (2023م)، أعلنا خلاله اعتزام بلديهما استعادة علاقاتهما الدِّبلوماسيَّة المقطوعة فوراً، في أول تقارب بينهما منذ سبع سنوات. وأوردت وكالة الأنباء الإيرانيَّة أن اللقاء بحث سبل حلَّ "سوء التَّفاهم" بين الطَّرفين، وتعزيز علاقاتهما السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، فالسُّؤال: ما هي المقدِّمات المنطقيَّة التي تبرِّر هذه "النَّقلة"، في هذا الوقت بالذَّات؟!
البحث عن هذا المنطق يقود، بالضَّرورة، وبطبيعة الحال، إلى البحث، أصلاً، عن المنطق الذي كان قد حكم، ابتداءً، قطع هذه العلاقات مطلع العام 2016م!

(2)
تباينت وجهات نظر الاستراتيجيِّين والمحلِّلين السِّياسيِّين حول التَّفسير المنطقي لهذه "النَّقلة"، في معنى الأسباب المقنعة التي مِن شأنها تغليب الجِّهة التي ستثقل كفَّتها بفضل هذا التَّقارب! وفي السِّياق نلاحظ ما يلي:
أ/ يروق لبعض المحلِّلين التَّفسير الجيوبوليتيكي الفضفاض الذي يحيل هذا التَّقارب إلى "استراتيجية الانفتاح على دول المنطقة والمحيط الجُّغرافي"، وقد يضيفون عنصر أفضليَّة مؤدَّاه أن "السُّودان جزء مهم من العالم الإسلامي"، فلكأنه لم يكن، يوم وقع قطع العلاقات، مِن "دول المنطقة"، أو "محيطها الجُّغرافي"، أو "جزءاً مهمَّاً من العالم الإسلامي"! وربَّما كانت هذه النِّقاط الثَّلاث كفيلة وحدها بهدم "البناء المنطقي" الذي يسعى هذا التَّفسير لأن يتأسَّس عليه!
ب/ يبني آخرون تحليلاتهم على أن علاقات الخرطوم بطهران صَّدى لعلاقات الرياض بطهران، فيبحثون عن أثر ارتباط السُّعوديَّة بإيران على ارتباط السُّودان بإيران. مستندين إلى أن قطع علاقات الخرطوم بطهران، مطلع يونيو 2016م، ترتَّب، أصلاً، كما قد رأينا، على قطع علاقات الرِّياض بطهران في ذات التَّاريخ. وبنفس القدر ها هي عودة العلاقات الإيرانيَّة السُّودانيَّة، مطلع الأسبوع الثَّاني مِن يوليو الجَّاري، تعقب عودة العلاقـات الإيرانيَّة السُّـعوديَّة، بوسـاطة صــينيَّة، في مارس المنصـرم.
ج/ غير أن هذا المنطق ينطوي، مِن ناحية أخرى، على مغالطة جهيرة، حيث الثَّابت أن للسُّودان، في علاقاته بإيران، مقوِّمات خاصَّة مستقلة، قد تتَّسق، أحياناً، وقد تتنافر، أحياناً أخرى!
ج/1: فقد زار المخلوع طهران، عام 2012م، وأثنى على علاقات البلدين، كما تكرَّر رسوُّ السُّفن الإيرانيَّة في ميناء بورسودان.
ج/2: وثمَّة علاقات غير منكورة لمؤسَّسة "الحرس الثَّوري الإيراني" بجهات عسكريَّة سودانيَّة، كان من نتائجها الدعم الإيراني لقطاع إنتاج الأسلحة في السُّودان، بحسب تقرير "معهد دراسات الأسلحة الصَّغيرة في سويسرا"، في مايو 2014م.
ج/3: وقد بدأ التَّدقيق في العلاقات العسكريَّة الإيرانيَّة السُّودانيَّة في إثر اتِّهام الخرطوم لإسرائيل بإرسال أربع طائرات غير قابلة للرَّصد بالرَّادار لضرب "مجمع اليرموك للصِّناعات العسكريَّة" في الخرطوم، في أكتوبر 2012م.
د/ في نفس الوقت شهد العام 2014م، قبل قطع العلاقات، إغلاق المركز الثَّقافي الإيراني، وحظر أنشطة إيرانيَّة ثقافيَّة ودينيَّة، بسبب اتِّهام الخرطوم لطهران بمحاولة نشر المذهب الشِّيعي في بلد أغلب مسلميه سُنَّة!
هـ/ ورغم أن الاتفاق بين السُّعودية وإيران ينبغي أن يُعتبر، في الحساب النِّهائي، وبوجه عام، معزِّزاً للأمن والاستقرار في المنطقة، إلا أن شكوكاً قويَّة ما تنفكُّ تنتاب محلِّلين سِّياسيِّين، سُّودانيِّين خصوصاً، بشأن حرص طهران على أن تجري مباحثاتها لإعادة علاقاتها بالخرطوم في ظرف جبهةٍ دَّاخليَّةٍ سودانيَّةٍ تشهد نزاعاً مسلَّحاً دمويَّاً يُتوقَّع له أن يتطاول، بين القوَّات المسلَّحة وبين قوَّات الدَّعم السَّريع، وما يترافق معه من غياب أيَّة حكومة شرعيَّة، أو مجلس تشريعي، أو رقابي، ووضع عام يفتقر للاستقرار، بل وأشبه ما يكون بالفراغ السِّياسي، أو الانهيار الدُّستوري، ويتساءلون عن مصلحتها في ذلك! لكن هذه المخاوف تظلُّ، في رأيهم، غير مستبعدة، فطهران قد تستغلَّ، بالفعل، هذا الظَّرف، بالذَّات، للتدخُّل العسكري المباشر، أو غير المباشر، لصالح أحد طرفي النِّزاع، جرياً على سوابق لها في هذا المضمار!
و/ هذه المخاوف قد تتأكَّد، باعتبارها ليست المرَّة الأولى، حسب محلِّلين، وإن كانوا يتردَّدون بشأن الطرف الذي ستدعمه!
ز/ كما وأنَّهم غير واثقين مِن خطوة طهران الأخيرة، مِن حيث التَّكلفة المبهظة التي قد يكون عليها تحمُّلها، فضلاً عمَّا تنطوي عليه مِن استفزاز لواشنطن، والدُّول العربيَّة التي تحتاج للتَّهدئة معها!
ح/ أسهم السُّودان بقوَّات مسلَّحة على الأرض في حرب اليمن المدعومة عربيَّاً، وسعوديَّاً، على الحوثيِّين المدعومين من إيران!
ط/ قال مراقبون إن طهران قد تندفع للتَّدخُّل إذا كان يتعلق بمواقف أيديولوجيَّة ضدَّ إسرائيل، أمَّا كونه صراع فريقين عسكريَّين داخل نفس البلد فقد لا ترى لها مصلحة فيه!

***

kgizouli@gmail.com

 

آراء