السودان (وطننا الذي لم ننعم به)

 


 

عبدالله مكاوي
18 December, 2023

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
ظللنا نستمتع بالاغاني الوطنية، وتغازل وجداننا اشعار الفروسية والجمال والنضال والثورة، وتطربنا احاديث نحن نملك اكبر قطر ومساحة زراعية وثروة حيوانية ومعدنية ونتوافر علي مصادر مياه متعددة وموقع جغرافي ونحن ونحن ونحن. والمؤسف ان كل ذلك لم يشفع لنا لبناء دولة محترمة تراعي حقوق المواطنين وتقدم لهم الخدمات.
والمضحك ان الشعار الذي حملنا علي نيل الاستقلال هو السودان للسودانيين، ولكن ما حدث فعليا هو نزع السودان من السودانيين! فمنذ الاستقلال او ما قبله حدث الصراع بين الحزبين الكبيرين علي ارضاء دولتي الاحتلال (الخارج) علي حساب معرفة حاجات الداخل وتُعرَّيف مصالحه. وبسبب ذات الصراع دخلنا في اسوأ نفق (حكم العسكر/فترة الجنرال عبود) الذي دشن بدوره دورة الارتهان للخارج (مصر والغرب) ولو بنسبة اقل، عكس حكم الجنرال نميري الذي سلم ذقنه تماما للمصريين وصناديق التمويل الدولية.
اما ما كان مجرد وسيلة (الارتهان للخارج) للبقاء في سدة السلطة، تحول علي عهد الانقاذ الي عقيدة اسلاموية مسلحة، مفارقة للوطن وحدوده وتلمس حاجات مواطنيه واحترام حقوقهم. اي بدل ان يحرر الاسلامويون الوطن من ثالوث (الفقر والجهل والمرض) المستوطنة في دول الجنوب، تحرر الاسلامويين من مسؤوليتهم تجاه المواطنين، لصالح تصورات وافكار هلامية تتوهم تحرير العالم اجمع!
والماساة لم تكن في الارتهان لهذه الهلاويس والافكار الملوثة التي تتخفي خلف قداسة الدين، ولكنها تجسدت في هدم كيان الدولة وتجيير مواردها لخدمة هذه الاهداف العبثية، التي تتلاءم واحساس العظمة والقدرات الخارقة التي تتلبس شيخهم الترابي. وبما ان الاهداف غير الواقعية تتطلب وسائل غير واقعية للسعي المستحيل خلفها، فقد ادي هذا السعار الديني لتضخم السلطة ونفوذها وامتيازاتها وهواجس الحفاظ عليها بطريقة مبالغ فيها، علي حساب استنزاف موارد الدولة، ورفع يدها عن تقديم الخدمات، وهو ما عبرت عنه بحق مقولة (المواطن في خدمة الدولة والاصح السلطة).
المهم، الانقاذ كمنظومة مشوهة عبرت عن انحراف شريحة مجتمعية تالفة، لم تنتج سلطة مشوهة فحسب، ولكن اجهزة وممارسات اشد تشوه، وعلي الاخص الاجهزة الامنية والعسكرية والشرطية! وتجلت مظاهر هذا التشوه في الخلط المعيب بين المهنية والمصلحة الخاصة! وبمعني اصح ليس هنالك تحديد للمهام او حدود بين السلطة الحاكمة واجهزتها، وكأن سلطة البشير اصبحت واجهة لسلطات متعددة بتعدد الاجهزة والمؤسسات، اي السلطة غرضها توفير الحماية (الحصانة) لمجموعة مصالح خاصة. والحال كذلك، تحولت سلطة الانقاذ بعد فشل مشروعها الهلامي الي محض امتيازات تنالها اجهزة الحماية! وبتعبير آخر، النزعة العسكرية الطاغية علي نظام الانقاذ لم تعد وسيلة لانجاز مشروع اي كان، ولكنها تحولت لبنية يرتكز ويشتغل عليها النظام. ولذلك اذا لم تكن هنالك مخاطر تواجه السلطة، فلابد من ايجادها! واذا كان هنالك مشكلة ذات طابع سياسي اجتماعي اقتصادي فالحل واحد وهو الحل العسكري. والقصد من تصعيِّد الهاجس العسكري، هو تخفيض هامش السياسة والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والاهتمام باحوال المجتمع عامة، قبل ان يبرر هكذا هاجس عسكري مصادرة الحقوق والانتهاكات والنهب بحجة توفير الاستقرار، فلا صوت يعلو فوق صوت حماية السلطة، التي يتم ربطها تعسفيا بامن الوطن ودرجة الوطنية. وباختصار مع الاسلامويين تم احتكار الوطن لانصار النظام مع عداء مستحكم للسياسيين وتهميش لبقية المواطنين.
وبسبب توجه الاسلامويين الخارجي (ضعف صلتهم بالمجتمع) وتكوينهم العسكري (تبني العنف سياسيا) واستخدام الدين كرافعة سلطوية والردة الحضارية كسلطة ثقافية، شكل ذلك نقاط التقاءهم بحميدتي (غض النظر عن خلفيته التاريخية). اي كمغامر مرتزق يقوم بكل المهام القذرة نظير امتيازات مادية وعسكرية وسلطوية (الغاية تبرر الوسيلة). ولانعدام ارتباطه باي ارض او وطن، فهذا ما جعله في حل عن اي التزامات وطنية (الارتزاق عابر للحدود). واحتمال هذا ما يفسر حقد مليشيا الدعم السريع واستعلاءه علي اصحاب الارض الاصليين (المساليت). وكذلك تبدل تحالفته وما يطرحه من قضايا واطروحات يعتقد انها تفيده في طموحه. واصراره علي استخدام القبيلة بكامل حمولاتها التاريخية لخدمة اهدافه المستقبلية (وهذا مصدر السخرية والتندر من شخصيته).
من هذه الوجهة (مصادرة الوطن من المواطنين)، عملت الثورة علي رد الوطن للمواطنين، والإعلاء من شأن المصلحة العامة (قوافل الشهداء وعدم انقطاع الثورة) التي تعود علي الدولة بالتحديث والمأسسة ورد الاعتبار. ولكن كعادة حظنا العاثر، ارتطمت الثورة بتاريخ طويل من الارتهان لمصالح الخارج، التي تتصالح مع مصلحة النخبة المتسلطة علي السلطة والوطن والمواطنين. وبالتاكيد كانت الغلبة لحملة السلاح غصبا عن الشرعية الثورية وتعهدات الوثيقة الدستورية!
وبعد الانقلاب وتمدد نفوذ وسيطرة مليشيا الدعم السريع، خاصة بعد اجادته لعبة العمالة للخارج، وتضارب مصالح المكونات والدول الداعمة للانقلابيين، اصبحنا وجها لوجه امام هذه الحرب اللعينة. والتي ليست اكثر من نزع القناع عن الاطماع الشخصية واللغة السياسية المرواغة وتواطؤ شراكة الدم بين قيادات الجيش والدعم السريع. وبتعبير آخر، الدعم السريع جر الصراع علي السلطة لما يجيده، وهو اللغة العسكرية الهمجية (عدم التقيد باخلاقيات الحرب او هي اقرب لحرب العصابات). وهذا بدوره يقول شئ محدد، وهو ان حدود قدرات وقبلها تكوين الدعم السريع لا يتعدي خوض الحروب القذرة، وتاليا ليس في وسعه لا اقامة دولة ولا ادارتها (فنون ما عندو فيها نفقة)، اي يمكنه ان ينتصر ويستولي علي السلطة، اما بعد ذلك فمحلك سر (مجرد وجود حميدتي كنائب لرئيس مجلس السيادة بوضع اليد، صنع ربكة وفوضي قل نظيرها /ثور في مستودع الخزف او عرض مسرحية هزلية/، اما وجود الدعم السريع فخلق قلق عام، ورفع سقف المخاطر علي الدولة، لشذوذ تكوينه وضبابية مهامه، وهو ما قاد في آخر المطاف لهذه الحرب الكارثية) .
والحال كذلك، اذ ترك الاسلامويون هامش ضيق يسمح بالوجود والتملك والحركة، فإن مليشيا الدعم السريع كحالة متاخرة وهمجية من الاسلاموية، فهي لا تعد إلا بالنهب والسلب والاغتصاب واهدار الحياة بكل سهولة. اي تدمير ما راكمناه من قيم حضارية علي قلتها، وجعل الحياة قاعا صفصفا. اي ما يمارسه الدعامة علي الارض ويعدنا به سلوكهم البربري، هو الحرمان من الحياة بكل استهتار واسترخاص، ومن يصدف ويعيش، تُفرض عليه المذلة والسخرة لخدمة حملة السلاح الهمج العاطلين. اي ماضينا المخزي الذي جسدته التعايشية الهمجية المتخلفة، يصبح هو المستقبل الذي تعدنا به الحميدتية البربرية (اي نوع من التعايشية المستحدثة او الاكثر انتهاكات وتخريب).
لكل ذلك آخر من يحق له الحديث عن جرائم وانتهاكات مليشيا الدعم السريع او نهبها للموارد او استباحتها للبلاد، هم الاسلامويون. لانهم المؤسس للخراب الذي طال الدولة والمعاناة التي طاولت المجتمع، والمُنتج لممارسات الانحطاط التي تسرب منها الدعم السريع، وبمساعدة جنرال الغفلة البرهان، تفوق الدعم السريع حتي علي قدرات الجيش!
اما محاولة اضفاء مسحة تحررية وديمقراطية ووطنية علي مليشيا الدعم السريع وتلميع قائدها حميدتي او تبرير هذه الحرب، من قبل مستشاريه وكتابه، غض النظر عن دوافع ذلك، فهذا يسئ لهم ويكشف عن هشاشة وعيهم وتعرية لقيمهم، فوق انه ليس في وسعه قلب الحقائق او تزييف معرفة الناس بالدعم السريع وافعاله، وهم يلامسونها في املاكهم وكرامتهم ووجودهم.
والحال كذلك، سيطرة الدعم السريع علي مساحة واسعة في الخرطوم واغلب مدن دارفور، هو نموذج معاش للنهب والانتهاكات والفوضي والخراب وكل مآسي الحرب القذرة. وهو ما يعني توجه مليشيا الدعم السريع نحو مدينة ود مدني او غيرها من المدن، ليس له علاقة لا بالفلول ولا بالديمقراطية ولا دولة 56 ولا غيرها من المبررات الواهية والاكاذيب التي فاقت دجل الاسلامويين، ولكنه يصب في خانة سعي الدعامة لفرض سيطرتهم علي كافة البلاد، لاشباع شهوة النهب للجنود والسلطة لآل دقلو وضمان مصالح الامارات ومن يقف خلفها.
وبما ان ولاية الجزيرة ومدني بصفة خاصة، تضم كثافة سكانية عالية بمن فيهم النازحون، وبني تحتية ومؤسسات مدنية قد تكون بعد العاصمة التي تم تدميرها، كما انها تشكل مستودع الغذاء لكافة اهل السودان، وقبل ذلك ليس فيها هدف عسكري يهدد قوات الدعم السريع، وهذا غير ان في مسيرتهم العدوانية لم يتركوا ما يُنهب من المدنيين إلا نهبوه (العيلفون ابوقوتة تمبول) الشئ الذي يبطل مبرراتهم للزحف! فكل ذلك ينذر بمجازر جماعية ومجاعة شاملة وخراب عمراني اذا لم يتراجعوا عن مهاجمة ود مدني. وفي هكذا مهددات ومخاطر عالية، لا تنفع مجرد مناشدة من الامريكان لايقاف هذا الزحف العسكري الغادر، او البكاء علي الضحايا والخسائر بعد وقوع الواقعة! فما تملكه امريكا من قدرة ونفوذ، لا اعتقد انه اقل من قوة ونفوذ فرنسا التي استهدفت قوات القذافي الزاحفة لدك بنغازي. وكل المطلوب من امريكا ممارسة الضغط علي الامارات كفلاء قادة الدعم السريع، لايقاف تمدد هذه القوات تجاه المدن المكتظة بالسكان، وكذلك منع حاميات الجيش بالمدن من استفزاز قوات الدعم السريع. اي يجب محاصرة الحرب في اماكن اشتعالها، ومنع تمددها، حتي تقل خسائرها ويسهل اطفاءها.
وفي كل الاحوال اذا اصرت مليشيا الدعم السريع علي مهاجمة ودمدني، وعدم النزول عند رغبة الجميع بايقاف الحرب وتجنب توسيعها والجنوح للسلام، فعلي الجيش واجب التصدي بقوة وحزم لانقاذ المدينة واهلها، بل وعدم الاكتفاء بالدفاع ومواصلة الهجوم حتي اخراجها من ولاية الجزيرة. لانه اذا فشل الجيش في ذلك، فهذا ايذان بسقوط كافة مدن السودان في ايدي هذه المليشيا الهمجية، وسيادة حالة الفوضي والانتهاكات والمجازر الجماعية.
ولكن المؤكد لن يحدث اي تغيير في اداء الجيش البائس، دون التحرر من قياداته الحالية والابتعاد عن الكيزان والانفتاح علي المصلحة العامة، والمتمثلة في الجلوس مع قوات الدعم السريع بنية ايقاف الحرب واستعادة السلام، والاكتفاء بدوره العسكري، بعد انجاز الترتيبات الامنية. وهذا ما لن يحدث دون الاقتناع بتغيير موازين القوى السابق، الذي يبيح له فعل كل شئ. وتحوله لاحد طرفي القوة في البلاد، بما يفرضه ذلك من معادلات جديدة، تحتاج لمعالجات خاصة، حتي الوصول لجيش واحد، اذا ما كنا محظوظين ووصلنا لهذه المرحلة المتفاءلة، في واقع كل فيه يدعو للتشاؤم، بسبب تفاهة من يتسيدون مشهده المحترق.
واخيرا
ليس هناك مشكلة سياسية او عسكرية او غيرها من المشاكل المجتمعية ليس لها حل، ولكن الحلول تحتاج لتوسيع مساحة الحوار والتسامح والتعاون والشراكة والتنازل والاحترام المتبادل، والاهم التوافر علي قيادات حقيقية تستشعر المسؤولية الوطنية وتتحلي بالقيم الانسانية (من اين لنا هذا؟). كما انه ليس هنالك حلول والحروب مشتعلة (يحتاج ايقافها لمعجزة او عصا دولية غليظة). وفي هكذا اوضاع يبدو اننا في امس الحاجة لروح الشهيد محمود محمد طه، الذي ينسب له قول (انه لا يكره الترابي كشخص بل هذا موضع احترامه ولكنه يكره افعاله) او شئ من هذا القبيل. وتخيلو شخص يتسامح مع شخصية شريرة كالترابي لا تكن له غير الضغينة وتضمر له الغدر، ما اعظمك يامحمود وحاجتنا الماسة لامثالك. نسال الله ان يسلم بلادنا ويحفظ اهلنا، وان يلهم قادة هذه الحرب المدمرة وداعميها، الحكمة والبصيرة ولو لمرة واحدة. ودمتم في رعاية الله.
/////////////////////

 

آراء