الشراكة المدنية العسكرية في ثورة ١٩٢٤ المجيدة كأول حركة وطنية وقوة دفاع السودان كأول قوة عسكرية لقمع الحركة الوطنية

 


 

 

د. عبد المنعم مختار

استاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية

الشراكة المدنية-العسكرية في ثورة ١٩٢٤هي بداية الحركة الوطنية في السودان

الطابع العسكري الجهادي للدولة المهدية عمل على عسكرة الدولة بدرجة كبيرة والمجتمع بصورة ملموسة. كما وحكم السودان الإنجليزي-المصري بنظام عسكري منذ احتلال امدرمان بواسطة الجيش المصري-الانجليزي في ١٨٩٨ وحتى العام ١٩٢٦. وبهذا امتد نظام الحكم العسكري للسودان طوال النصف الأول لفترة الاستعمار الانجليزي- المصري, وظل الحاكم العام للسودان عسكريا طوال هذه الفترة وعين اول حاكم عام مدني في ١٩٢٦. وجمع الحاكم العام للسودان بين قيادة الجيش وقيادة السلطة المدنية وكان كل حكام أقاليم السودان خلال هذه الفترة ضباط بريطانيين. بل وامتد الطابع العسكري للخدمة المدنية حتى يومنا هذا في لون ملابس الضباط الاداريين الكاكي ذو الشرائط التعريفية الملونة للرتبة (راجع مدثر عبد الرحيم، ١٩٧٨)

وفي المقابل فقد كانت أول مقاومة وطنية للاستعمار في السودان نتاج لشراكة مدنية-عسكرية تشكلت في الطبقة الوسطى المدينية وتمثلت في جمعية الاتحاد السوداني ذات القيادة المدنية للشراكة (الاستاذ عبيد حاج الامين) وخليفتها جمعية اللواء الابيض ذات القيادة العسكرية للشراكة (الملازم علي عبد اللطيف). وتعتبر ثورة ١٩٢٤ المجيدة هي أول مقاومة قومية للاستعمار واول حركة وطنية منظمة ضده واستعملت وسائل الاحتجاج المدنية السلمية، تحديدا اصدار وتوزيع البيانات المعارضة والمظاهرات الاحتجاجية، ووسائل المقاومة المسلحة، تحديدا اعلان العصيان العسكري والمواجهة المسلحة. كل ما سبق ثورة ١٩٢٤ السودانية من مقاومة للاستعمار كان احتجاجات مدنية سلمية ذات طابع ديني محلي أو تمردات ضعيفة التسليح ذات بعد قبلي محدود.

قوة دفاع السودان: ملابسات التكوين

تم إنشاء قوة دفاع السودان كردة فعل لتمرد الكتائب العسكرية السودانية، التابعة آنذاك للجيش المصري في السودان، على الاستعمار الانجليزي في نوفمبر ١٩٢٤ فيما عرف بثورة اللواء الابيض. قام الحاكم العام للسودان بحل الكتائب السودانية المشاركة في تمرد ١٩٢٤؛ وهي الكتائب رقم 9 و10 و11 و12و 13 رغما عن ان هذه الكتائب كانت مشهورة "منذ أيام حربي أم درمان وفشودة بسبب الدور الكبير الذي أدته في إعادة احتلال وبناء السودان الإنجليزي- مصري" (انظر بدر الدين حامد الهاشمي عن ٱرشر، ٢٠٢٤).

عمد الاستعمار الانجليزي عند تكوين قوة دفاع السودان على ضمان إنشاء قوة تابعة للاستعمار وقامعة للتيارات الوطنية المناهضة للاستعمار. وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا، كما سيتضح تاليا.

كانت الواجبات الرئيسية لقوة دفاع السودان عند إنشاءها قبل ما يقارب المائة عام، تحديدا في العام ١٩٢٥, هي الأمن الداخلي: مساعدة الشرطة في حالة الاضطرابات ، بما في ذلك تقييد العنف بين القبائل ومنع الإغارة على الماشية ومكافحة تجارة الرقيق والمساندة عند الكوارث الطبيعية. ولاحقا شاركت قوة دفاع السودان في الحرب العالمية الثانية في شرق وشمال أفريقيا (سيكينجا، ١٩٨٣).

هذا فيما يخص الواجبات المعلنة من قبل السلطات الاستعمارية لقوة دفاع السودان. لكن ماذا عن ولاء قوة دفاع السودان للاستعمار وخضوعها له؟ وماذا عن دور هذه القوة في قمع حركات التمرد السودانية ضد الاستعمار؟ وهل كان لهذه القوة دور في دعم الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار ؟

عمد الاستعمار الانجليزي، بعيدا عن تأثير الجيش المصري المبعد من السودان، عقب ثورة ١٩٢٤ المجيدة على إعادة تأسيس الكتائب العسكرية السودانية، التي كانت تابعة للجيش المصري في السودان، وفق عقيدة غير وطنية، اي بعيدا عن التيار الوطني المناوئ له. وتوخى ايضا فصل قادة قوة دفاع السودان عن قادة المجتمع المدني. الفصل تبدى في اختيار قادة القوة من الصفوة المدينية في الحواضر النيلية بشمال السودان (راجع مدثر عبد الرحيم، ١٩٧٨) واختيار أغلبية قواعد القوة وقادة المجتمع المدني من الصفوة الريفية في الأقاليم. وقد تزامن تكوين قوة دفاع السودان مع تفويض السلطات للإدارات الأهلية القبلية وتبني سياسة الحكم غير المباشر. طرح الاستعمار الانجليزي قوة دفاع السودان كبديل للجيش المصري الذي تم اجلاءه من السودان لمصر وطرحت القيادات القبلية كبديل لخريجي كلية غوردون والمدرسة الحربية الذين تمردوا على معلميهم ومدربيهم الإنجليز.

استفاد الاستعمار الانجليزي من اغتيال حاكم عام السودان السير لي استاك في القاهرة عام ١٩٢٤ وما تلاه من مظاهرات مدنية وتمرد الكتائب العسكرية السودانية في الخرطوم عند تنفيذ قرار الاستعمار الانجليزي بإجلاء الجيش المصري من السودان في قمع النزعات الوطنية المناهضة له وسط العسكريين والمدنيين السودانيين. ووفر القمع الانجليزي لهذا التظاهر والتمرد وتنفيذ اجلاء الجيش المصري الفرصة لاضعاف النزعات المصرية والسودانية المناهضة للاستعمار الانجليزي وابعادها عن قوة دفاع السودان. وقد بدأ تكوين قوة دفاع السودان من الكتائب السودانية العسكرية التي لم تشارك في تمرد ١٩٢٤. علما بان هذه الكتائب كانت تخضع لعقيدة الجيش المصري وتقسم بالولاء لخديوي مصر حتى إجلاء الجيش المصري من السودان لمصر.

هذا وتجدر الإشارة إلى أمرين أولهما أن ولاء قوة دفاع السودان كان مطلقا لحاكم عام السودان الانجليزي الجنسية وثانيهما ان الاستعمار الانجليزي احتفظ بكتائب انجليزية عسكرية كافية في الخرطوم لقمع اي تمرد لقوة دفاع السودان. وقد أقر اول قائد عام لقوة دفاع السودان الجنرال هدليستون في العام ١٩٣١ بعدم ثقتهم ابتداء في ولاء قوة دفاع السودان (انظر سيكينجا، ١٩٨٦). وقد استخدم الاستعمار الوسائل التالية لتدجين قوة دفاع السودان: (١) فصل قادة القوة عن مجتمعهم وتدريبهم على عقيدة عسكرية موالية للقادة الانجليزيين، (٢) استخدام القوة لقمع تمرد المجتمعات ضد الاستعمار و (٣) ابعاد القوة من الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار.

جدير بالذكر أن تعداد قوة دفاع السودان بين الحربين العالميتين تراوح بين الخمسة والستة الآلاف وارتفع العدد الى العشرين الفا إبان الحرب العالمية الثانية للتصدي للتهديد الايطالي على الحدود الشرقية ثم للمشاركة لاحقا في حروب شمال افريقيا ضد الألمان. علما بأن تعداد سكان السودان قبيل الحرب العالمية الثانية، اي في العام ١٩٣٩, كان حوالي الستة مليون وثلاثمائة وخمسون الفا.

قوة دفاع السودان كأداة قمع للحركات الوطنية المناهضة للاستعمار وغياب مساهمتها في الحركة الوطنية المقاومة الاستعمار

قامت قوة دفاع السودان مباشرة بعد إنشاءها بشن عدة حملات لقمع ثورات الشعوب السودانية ضد السلطات الاستعمارية؛ نذكر منها اثنتان كانتا في جبال النوبة في العام 1926 واثنتان كانتا ضد النوير في عامي 1927 و1928. واستمرت حملات قوة دفاع السودان ضد المقاومة، وان قلت وتيرتها، حتى الاستقلال.

لم نعثر على اي مراجع تشير لمساهمة قوة دفاع السودان في دعم الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الانجليزي.

علاقة قوة دفاع السودان بالمستعمر الانجليزي والمجتمع السوداني

يعتبر كتاب احمد العوض سيكينجا حول قوة دفاع السودان رائدا في تناول ملابسات انشاء هذه القوة. ووفقا لترجمة بدر الدين حامد الهاشمي لمراجعة مارتن دالي للكتاب فقد رصد سيكينجا انفصال ضباط قوة دفاع السودان عن مجتمعهم، إذ يقول سيكينجا في ص 60 من الكتاب:
"إن انخراط الجنود في تنظيم حديث وعقلاني (بتقنيات وتدريبات حديثة وقيم جديدة من "النظام" و"الطاعة" كان يجذبهم في اتجاه واحد، بينما كانت خلفيتهم الاجتماعية وظروف معيشتهم تجذبهم إلى مجتمعهم التقليدي .... وعندما وصلوا إلى السلطة، ظلوا منشغلين بالمراسيم (decrees) عوضاً عن المناقشات والمناظرات (debates)، وبنصوص القانون عوضاً عن (نيل) التأييد الشعبي".
ومع ذلك، يذكر ذات المؤلف في جزء الخلاصة، الذي جاء مقتضباً للغاية، التالي في صفحة 111:
"وعوضاً عن أن تصبح قوة دفاع السودان هي محور ونواة الحركات الوطنية، غدت تلك القوة واحدةً من أكبر دعائم النظام الكلولونيالي، الذي اعتمد عليها في تعامله مع المقاومة المحلية" (بدر الدين حامد الهاشمي عن سيكينجا، ٢٠٢٤).

خلاصات

ثورة ١٩٢٤ المجيدة كانت شراكة مدنية-عسكرية ومثلت اول حركة وطنية قومية الطابع حداثية التوجه ضد الاستعمار الإنجليزي وقاد قمعها الى تكوين قوة دفاع السودان وتشكيل نظام الإدارة الأهلية. اما قوة دفاع السودان، والتي هي نواة الجيش السوداني وقاعدته التأسيسية، فقد مثلت اول مؤسسة لقمع الحركات الوطنية المقاومة للاستعمار. وقد رصدنا في مقالنا هذا التالي (١) انفصال قادة قوة دفاع السودان عن مجتمعهم , (٢) ولاءهم للاستعمار الانجليزي, (٣) قمعهم للحركات الوطنية المناهضة للاستعمار و(٤) عدم مساهمتهم في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار.

المراجع

Ahmad Sikainga, Sudan Defense Force: Origin and Role, 1925-1955 (1983), Institute of African and Asian Studies, Occasional Paper No. 13

Muddathir Abdel-Rahim. Changing patterns of civilian-military relations in the Sudan (1978) The Scandinavian Institute of African Studies, Research Report No. 46, Uppsala ipp

بدر الدين حامد الهاشمي، استعراض لكتاب أحمد العوض محمد: “قوة دفاع السودان: أصلها ودورها، 1925 – 1955م” (٢٠٢٤), سودانايل https://sudanile.com/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%B6-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%AF%D9%81%D8%A7/، تم الاطلاع في ٢١ مارس ٢٠٢٤

بدر الدين حامد الهاشمي، مقتطفات من مذكرات حاكم عام السودان جيفري آرشر عن أيامه بالسودان: زيارة الجزيرة أبا (٢٠٢٤)، سودانايل ، https://sudanile.com/%d9%85%d9%82%d8%aa%d8%b7%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d9%85%d8%b0%d9%83%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%ad%d8%a7%d9%83%d9%85-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86-%d8%ac%d9%8a%d9%81/، تم الاطلاع في ٢٣ مارس ٢٠٢٤

 

 

آراء