الفرق بين الشريعة الدستورية والشريعة القانونية .. بقلم/ محمود عثمان رزق

 


 

 

morizig@hotmail.com

إن أهم ما جاءت به الشرائع السماوية على المستوى الاجتماعي والسياسي هي تلك الحقوق والمباديء الدستورية الخالدة التي لا يختلف على نبلها وصحتها وصلاحيتها إثنان ولو إختلفت توجهاتهما الفكرية والعقدية واختلاف زمانهم ومكانهم، وذلك لأنها حقوق دستورية عامة تصلح لكل زمان ومكان وجنس ودولة، والشاهد على عالميتها أن الأنبياء أنفسهم لم يختلفوا ولم يناقض بعضهم بعضاً عليها، بل جميعاً دعوا أقوامهم لها بالرغم من إختلاف الأزمنة والأمكان بينهم.

والشريعة الدستورية تختلف عن الشريعة القانونية في الشكل والمضمون، فالأولى {أي الدستورية} هي الأصل الثابت الجامد المحكم الذي يرسي المباديء العامة للحكم والدولة، والثانية {أي القانونية} هي التابع المتحرك أو الفرع المرن الذي ينظم ويراقب تنزيل تلك المباديء على أرض الواقع.

ففي الشريعة الدستورية نجد أن الله تعالى أوصى بمباديء دستورية أساسية كحدٍ أدنى لبناء المجتمعات الإنسانية عموماً وبالأخص المجتمع المسلم أو مجتمعات الرسالة عموما أيّاً كان زمانها ومكانها.

فالقاريء الذي يقرأ القرآن بنظارة الدستوريين يجده يفيض فيضاً بتلك المباديء والبنود الدستورية، ويجد فيه بنود شديدة الوضوح وأخرى مستنبطة بالإجتهاد من روح النصوص، وعند الفحص والتأمل سيجدها جميعاً تصلح لتكون بنوداً دستورية في دستور أي دولة من الدول، بأي صياغة من الصيغ الحقوقية، في أي زمان من الأزمنة، وأي مكان وجد فيه الإنسان.

فمثلاً نجد القرآن الكريم يأمر بإقامة العدل في المجتمع الإنساني ويترك للمجتمع الكيفية والآلية التي يحقق بها ذلك العدل مراعياً إختلاف الزمان والمكان، ويأمر بالشورى ويترك للناس تطوير مواعينها وآلياتها التي تواكب عصرهم، ويأمر بالقضاء على الفساد ومحاربته ويترك للمجتمع الكيفية والآلية التي يحارب بها الفساد، ويأمر بالتراحم والإتحاد ويترك للمجتمع الكيفية والآلية التي تحقق له التكافل والتراحم والإتحاد. وينهى عن البغي والعدوان ويأمر بمحاربة البغاة والمعتدين بالكيفية والآلية التي يراها المجتمع. وهكذا المنوال القرأني في كل المباديء الدستورية التي جاء بها، ومن قبله جاءت ببعضها الكتب السماوية المعروفة لتؤكد واحدية المصدر وواحدية المبدأ. والجدير بالذكر أنّ المباديء الدستورية التي جاءت بها الأديان كثيرة جداً وهي متجانسة ومتسقة ومكملة لبعضها بعضاً وليس هذا مكان إحصائها فاكتفينا ببعض الأمثلة للدلالة عليها.

والشريعة الدستورية جعلت من بعض السلوكيات الفردية والجماعية جرائم ثابتة كحدودٍ شرعية، وبالتالي لا يحق لأي شخص أو مفتي أو برلمان أن يخرجها من دائرة الجريمة والحُرمة الى دائرة المباح، ولكن يمكن أن يجتهد الناس في العقوبات التي تردع الناس من إرتكابها أو حتى الإقتراب منها.

فمثلاً جعلت الشريعة الدستورية القتل جريمة، والميسر جريمة، وشرب الخمر والمخدرات جريمة، وجعلت الزنا واللواط والسرقة والقذف وإشانة السمعة جرائم. وهذه الجرائم يجب أن يُنص عليها في الدستور كمباديء عامة، ومن ثمّ تفرع لها القوانين التي تعاقب عليها بعقوبات تعزيرية مدنية كوسائل رادعة تهدف لإصلاح نفوس من قاموا بها على ضعف أوجهل. ومن هنا نفهم أن "الحدود الشرعية" هي تلك الجرائم التي نهى الله عنها في قوله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون}، أما العقوبات التابعة لهذا النهي فهي وسائلُ ردعٍ متغيرة بتغير الزمان والمكان ولذلك تقبل الإجتهاد كوسائل تربوية تخدم الهدف الدستوري.

الشريعة القانونية:

أما الشريعة القانونية فتتمثل في القوانين الجنائية والمدنية التي تتفرع من النصوص الدستورية لتنظيم حياة الناس الإقتصادية والإجتماعية والروحية والتعليمية والصحية والأمنية....الخ. هذه القوانين تعتبر إنعكاس لروح الدستور ومبادئه وقيميه وأصوله. ومن يقرأ القرآن بنظارة القانونيين سيجد العقوبات والقوانين قليلة جداً في هذا الكتاب الكريم المدهش. ولعل سبب الإقلال هو مراعاة التطور الإنساني عبر الزمان والمكان التي يتبعه بالضرورة تطور واختلاف في وسائل العقوبات التربوية، وإذا أحصينا القوانين والعقوبات الموجودة فعلاً في المجتمع المسلم فسنجد أن 95% منها قوانين مدنية. وهذه القوانين وعقوباتها هي إجتهادات قديمة متجددة من وضع البشر في إطار بنود الشريعة الدستورية. ومن الفهم الخاطيء جداً الإعتقاد بأن القوانين الفقهية وما يتبعها من عقوبات هي وحي رباني لا يجوز المساس بها، أو أن كل القوانين موجودة في كتاب الله العزيز! ومن يبحث عن قانون تنظيم حركة المرور مثلاً فلن يجده في أي كتاب من الكتب السماوية، ولكن قطعاً سيجد لفكرة التنظيم وتسهيل حياة الناس قاعدة شرعية دستورية تستند إليها كالتي تقول { فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ينفع الناس فيمكث في الأرض}.

فإذن الشريعة الدستورية هي وحي رباني من غير شك ولا مراء، أما القوانين والعقوبات المتفرعة منها فمعظمها مدنيٌ إجتهادي يستند على أصل من أصول تلك  القواعد الدستورية العامة، ولهذه نجد أن هذه الإجتهادات التشريعية القانونية قابلة للصواب والخطأ على مستوى الفكرة والتنفيذ معاً، لأنها اجتهاد بشري صرف يهدف لتحقيق الهدف الدستوري. ومن طبيعة القانون - كوسائل وآليات- المرونة والتغير والمراجعة.

وعليه، وفي رأيي الخاص أنّ التغيير والإجتهاد يشمل حتى العقوبات الشرعية المنصوص عليها في القرآن الكريم، فهي في نظري قابلة للتجديد بحكم طبيعتها القانونية كوسائل متفرعة ومتحركة ومتغيرة، ولي مقال بهذا الخصوص بعنوان "اجتهاد جديد في مفهوم العقوبات الشرعية" نشر في نفس هذه الصحيفة Sudanile.com وضحت فيه حججي فاليراجعه من شاء الإستزادة.

فإذن كل القوانين والعقوبات بالإستقراء والمتابعة نجدها قابلة للإجتهاد والتغيير بحكم المكان والزمان، أما الشريعة الدستورية على مستوى المباديء والقيم والأحكام الدستورية فلا مجال فيها للإجتهاد، اللّهم إلا إجتهاداً في الكيفية والألية التي تنفذ بها، أو زيادة مباديء وقيم لا تتعارض مع المباديء الأساسية فرضها الزمان وأجمع عليها الناس بقبول نفعها، في هذه الحالة تعتبرالشريعة الدستورية هي الحد الأدنى الذي تبنى عليه أي زيادة مستقبلة تواكب العصر توسعة لا تضيقاً.

وقد يعمل مجتمع غير مسلم بالشريعة الدستورية وهو لا يشعر، وذلك ليس بغريب لأن مباديء هذه الشريعة الدستورية متأصلة في النفس البشرية كفطرة إنسانية فطرها عليها خالقها تعالى اسمه. فكل إنسان سوي الفطرة- بغض النظر عن دينه أو فكره - تجده يحب العدل ويكره الإستبداد، وينفر من القتل ويشمئز من الفساد، ويحب الأمن ويكره الخوف .....الخ، ولكن الفارق بيننا وبين هذا الإنسان السوي هو أننا نتعبد ونتقرب لله تعالى بهذه المباديء على أنها رزق وهداية ولطف ورحمة بنا منه، وعليه لا ندعي أننا قد توصلنا إليها علي علم عندنا كما قال قارون.

وحتى تتضح الفكرة نقول: لا شك أننا جميعاً كبشر نأكل ونشرب بحكم طبيعتنا البشرية التي تحتاج للطعام والشراب، ولكن منا من يتقرب الى الله بهذا الأكل والشرب حمداً وشكراً، ومنا من يمر على هذه النعم مرور الكرام لا يلتفت لصاحبها فيعبده ويشكره ويحمده على نعمه وآلائه. هذا هو الفرق بين جعل العادة والنعم عبادة، وبين حجاب العادة والنعم لعبادة الله الواحد الأحد.

الشريعة الدستورية والحكم المدني:

ومن أهم ما يجب أن يعرفه الشباب المسلم أين ما وجد عن الشريعة الدستورية هو أنها تجعل الحكم مدنياً محض يستشار فيه الشعب وجوباً شرعياً وليس منحةً أو تصدقاً عليه من حكومة أو جماعة أو حزب أو ملك أو عسكري أو أي جهة ما.

إنّ الشريعة الدستورية أعطت الشعب حق اختيار من يحكمه، واختيار مواعين الحكم، ووسائل الحكم، وفترة الحكم، وأعطته حق رفض الإجتهادت الخاطئة في حقه والقوانين الضارة بمصلحته، وكذلك أعطته حق رفض الحكام والحكومات التي تهدد أمنه ورفاهيته بشرط أن تكون وسائل الرفض سلمية لاتقود للفوضى والإنهيار والحرب والمنكر، وإلا فالصبر على الإبتلاء أولى وأخف الضررين.

وأمرت الشريعة الدستورية الشعب بمحاسبة الجميع على كل صغيرة وكبيرة وتشمل المحاسبة أي شخص مهما كانت مكانته وحسبه ونسبه فالكل أمام قانون المحاسبة سواء. إن الشريعة الدستورية بلا أدنى شك ولا مراء تؤسس لدولة مدنية كاملة الدسم، دولة للشعب فيها الكلمة العليا في ظل مباديء دستورية ربانية عادلة لا تتبدل ولا تتغير ولا تجور ولا تحابي ولا تقصي ولا تظلم أحداً.

////////////////////////

 

آراء