النهاية (8) .. الذاكرة كآلية في استراتيجيات المقاومة

 


 

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن التدمير الممنهج الذي قامت به القوى الإسلاموية "المنبتة" للذاكرة الجمعية للشعوب السودانية والوسائل البشعة اللاأخلاقية العنيفة مستندة في تنفيذ ذلك على أدوات الدولة التي تم اختطافها، بجيش مؤدلج. وهو نفسه مختطف.
وأن الهدف من كل أولئك كان، كما تم الإعلان عنه هو: "إعادة صياغة" المجتمع والإنسان والدولة بما يتوافق ورؤية "الجماعة". وأن ذلك يقتضي منطقياً، بالضرورة انتزاع المجتمع والانسان من تاريخه، وإفراغه من مكونات هويته وثقافاته وإرثه، ليتم صبه في "قالب" هويوي بديل من صنع مخيلة "الجماعة" المنبتة، التي تعاني من "غربة" داخل مجتمعاتها.
والنتيجة كما يمكنك أن تتوقع: تم حشر الإنسان والمجتمع والدولة في "طيظ وزة" كما قال الحاردلو في وصف الحال مع "ود البصير" إبان حكم الخليفة عبد الله التعايشي.
وقد انتهينا في حديثنا بالسؤال: هل حقق هذا الجهد التدميري الممنهج نتائجه المرجوة ؟!!.

(2)
ما يحدث اليوم في الساحة السياسية والاجتماعية يجيب بـ"لا" ساخرة كبيرة نافية !!.
بل أكد عكس ذلك تماماً.
لقد ساهمت الحرب، التي وصفها أحد قائديها صادقاً – البرهان – بالعبثية في استعادة الشعوب السودانية لذاكرتها الجمعية، ومعها استعادت الوعي بتراثها وثقافاتها.
استعادت الوعي بذاتها.
كانت نار الحرب التي اشتعلت بين القاتلين مصهراً تخلصت فيه الهوية السودانية وذاكرتها الجمعية من الشوائب والرين الذي غطى سطحها "البراني"، وتطهرت من رجس ما صبغه بها "المنبتَّون"، ليتوهج ذهب جوهرها "الجواني" متألقاً. ومعبراً عن نفسه في سلوك جماعي عند المحنة لم يشهد العالم له مثيلاً – في مثل هذه النكبات الكارثية – ، أكد أصالة هذا الشعب وتفرده بين الشعوب.
لقد قلت في الحلقة السابقة أن هذه الحرب اللعينة "آخر فصول تراجيديا السردية الإسلاموية. وهي في الوقت نفسه آخر ما يمكن أن يبلغه قطار السودان القديم من محطات بقائه في التاريخ" (2).
فقد استرد السودانيون ذاكرتهم الجمعية ومخزونها من القيم العليا. وهذه من آيات الله الكبرى، وإشارة إلى ما يدِّخره لهذا الشعب.

(3)
فالعاصمة التي كانت دائماً تحتضن أبناء وبنات وأسر الشعوب السودانية بكل قبائلهم ولغاتهم ودياناتهم وثقافاتهم. فهي دار هجرتهم سواء قدموا للتعليم أو العلاج أو العمل أو السفر للخارج، ودار نزوحهم الآمن (ولو على أطرافها) عندما تشتد الحروب في أطراف البلاد، أو يشتد القحط والمحل. العاصمة التي كانت دار هجرة وأمان، أشعل جنرالاتها النار في قلبها فأصبحت جحيماً، الموت فيها يتربص بالناس في غرفهم وشوارعهم، واستحالت إلى غابة يسرح القتلة واللصوص بمختلف أنواع الأسلحة، ففر منها أهلها وأخلوا منازلهم تاركين كل ما فيها، ضاربين على وجوههم كيفما اتفق وأينما قادهم الرعب، وبعضهم قضى نحبه تحت ركام سقوفها وفاحت رائحة جثثهم المتحللة.
تتضارب أرقام النزوح من العاصمة ولكن التقديرات تقول إنهم أكثر من (700 ألف) و أكثر من (600) قتيل وآلاف الجرحى بلا أمل في علاج أو اسعاف، فأكثر من 85% من مستشفيات العاصمة خارج الخدمة. بل أن الجيش الذي يتهم الدعم باختباء مقاتليه في المستشفيات يتهم لجان الأحياء والمتطوعون بدعم الدعم السريع بل ويعتقل بعضهم، ويمارس التنمر وتهديد كوادر الأطباء الذين مات منهم أكثر من خمسة طبيبات وأطباء وهم يتطوعون استجابة لواجبهم المهني والأخلاقي !!.
ما لا يمكن أن يُشكك فيه أحد أن الجيش والدعم السريع أعلنا الحرب على الشعب السوداني الأعزل، فهما الوحيدان المستفيدان من هذه الحرب لاجهاض الثورة التي أعجزهما اجهاضها متحالفين، سواء تمّ ذلك باتفاق بينهما، أم نتيجة لخطأ في حساباتهما الاقصائية تجاه بعضهما البعض!!.

(4)
لمن يعرف شعوب الأمة السودانية معرفة عميقة، ويقرأ جيناتها القيمية وأبجدية مثلها العليا يدرك يقيناً بأن ردة فعلها "الطبيعية" ستكون على نحو غير متوقع في مثل هذه المواقف.
لقد فتحت المدن والقرى في جهات السودان الأربع أبوابها وأخرجت آخر ما في جوف بيوتها من أطعمة وأشربة وأفسحت غرفها، وفصول مدارسها ومساجدها لاستقبال الهاربون من جحيم العاصمة، وخرجت جموع أهاليها تقطع طرق القوافل العابرة بالمدن والقرى، يقدمون الماء ويجودون بكل ما لديهم من طعام ببشاشة مواسية وسماحة نفس، وتلح عليهم أن يحلوا بمدنهم وقراهم سهلاً كيفما شاءوا، لا فرق في ذلك بين قبيلة أو دين أو جهة أو طائفة وأخرى، يتوحد الدم والعرق اللون واللسان بين الجميع سودانياً.
في الطرق العابرة بمدينة مدني، في فداسي الحليمات، وفي كوستي، والقضارف، وكريمة، وعطبرة أصطف الأهالي في الطرق وفي محطات الحافلات السفرية والسيارات العابرة لإيواء المسافرين وإعانتهم بكل ما يلزم. وفتحت أبواب العبور في جنوب السودان على مصراعيها أمام النازحين ولم تسأل سلطات الدولة عن تأشيرات الدخول، وفي مدينة "الرنك" لم تتوقّف المبادرات الشبابيّة من استقبال الناس وإيوائهم، والشعار الذي استقبلوهم به كان مناشدة جنوبية: "نرجوكم، أنتم لستم لاجئين، بل نازحين من سودانٍ لسودانٍ آخر". وبنفس الروح نشرت لجان الأحياء بشندي على كل منصات التواصل نداء ودعوة ومناشدة لكل من نزحوا بأن يقصدوا شندي التي رابط شبابها بسرادق ضخم في المحطة الرئيسية بالمدنية، وقد أعدوا منازل لإيواء الأسر وغير الأسر وتم تزويدهم بشرائح الجوالات ليتواصلوا مع أهاليهم. ولم يقصِّر عن "النفير" المغتربون فانهالت مساهماتهم مرسلة لعنون واحد "السودانيون، دون فرز".

(5)
الحروب توقف الزمن للحظة يتشكل فيه زمنها الخاص المؤقت. ودائماً ما تتمدد لحظاتها القصيرة وتصبح الدقيقة فيها بيوم واليوم بعام. وعندما يسكت دوي مدافعها وزخات رصاصها يبدأ في التشكل واقع جديد، لا تعود معه الحياة ولا ايقاعها كما كانا قبلها، كأنها تُجلي صفحة الوعي، فيعود الناس ليعيدوا ترتيب مفردات واقعهم.
من أي نقطة ينطلقون ؟.
ينطلقون من "منابع" الفعل التلقائي الذي أسعفهم لحظة الكارثة.
بالرجوع إلى الذاكرة الجمعية التي وحَّدتْهُم لحظة الزلزال.
إلى تلك "القوة الخفية" وهي عين "رأس المال الاجتماعي" الذي وضعه جيمس كالمان، ويمكن أن يتشكل "عقلاً جماعياً" أو عقلاً عاماً يكمن في الذاكرة الجمعية لمجموعة ما، حتى ولو لم تكن متجانسة أو متماثلة عرقياً/ إثنياً. ولكنها استطاعت بطريقة ما أن ترسخ في عمق ذاكرتها الطويلة صورة مشتركة لقيم متوحدة متحدة (3).
ففي هذه الذاكرة العميقة تتلاشى وتتراجع إلى الظل، الهويات الصغرى (القبيلة، الطائفة، العرق، الجنس ..الخ) وتبرز على السطح السلوكي هوية إنسانية رحبة كبرى.

(6)
هذا نمط – كأنه يصدر من جين سوداني متوارث – تجده يتكرر في لحظات كل فعل ثوري، وقد كشف عن نفسه فصيحاً، مباشراً في اعتصام القيادة، مثلما في كل الثورات، ولعل هذا ما دفع الدكتور عبد الله علي إبراهيم ليقول مطمئناً: " قناعتي أن بلدنا محروس إن شاء الله من مثل المصير الذي ينتظر أثيوبيا" (4).
ما الذي جعله على هذا اليقين من أنها تنتمي لفئة الدول "المستجمعة التي تغلب فيها عناصر الوحدة، دون (المتشعثة) التي تغلب فيها عناصر الشتات". رغم كثرة الشواهد والزعازع التي تؤكد بأن الدولة السودانية في طريقها للتفكك ؟.
هو يقول بأن الأنظمة الحاكمة في لسودان لم ندخر وسعاً عبر سياساتها في إدارة الدولة لتشعيث "الوطن لضمان استمرار حكمها... بل بلغ التشعيث بهذه الحكومات حد حل الهلال والمريخ اللذين هما أكثر انتماءات السودانيين طرافة ورحابة... وترافق مع ذلك تبني تلك النظم العسكرية لخطة أو أخرى من الحكم الإقليمي بمجالسه النيابية. فاصطرع المرشحون لمقاعدها بتحشيد هذه القبائل بل وبطونها إن لم تكن فخاذها. وفاقمت الإنقاذ من هذه القبائلية فزعزعت البلد زعزعة. فأصدرت مثل قانون الحكم المحلي لعام ١٩٩٨ في سياق حرب الجنوب سعت به الإنقاذ لتعبئة الإدارة الأهلية لاستنفار المتطوعين للجهاد. واستدعت بتسميتهم "أمراء" تاريخ المهدية الذي جعل زعماء القبائل أمراء حرب عليها. وكان ذلك الترتيب في أكثر صوره ضراوة تجييشاً ل"العرب" ضد "الزرقة" الذي ردنا قرونا سحيقة في الماضي" (6).

(7)
ورغم كل هذا التشعيث الذي كان كفيلاً بـ"فرتقة" السودان أيدي سبأ إلا أن: " العزاء دائماً (كان) في الثورة منذ ١٩٦٤ التي هي طاقة استجماع الوطن حول رؤية مدنية ديمقراطية من فوق المنابر العابرة للولاءات القبلية الضيقة في النقابة والحزب وسائر المنظمات التي ينتمي الناس اليها مواطنين مستحقين بلا اشتراط مسبق في الدين والعرق والنوع والقبيلة. وظلت هذه الرؤية ميثاقاً بين أطراف شعبنا لدولة منتظرة في نهاية النفق. فهي العشم الذي عصمنا من الانزلاق في التشعيث". وإذن فإن: " أوتاد الوطن موتدة في الثورة". وعندما قصَّرت في القيام بما يلم شعثها من تنمية وعمران بقيت الثورة هي فسحة الأمل ووتد خيمة الوطن ووحدته.
ولكن لماذا ؟ وكيف؟.

(8)
إذا وضعنا في الاعتبار أن الدولة السودانية ككيان سياسي موحد تحت سلطة مركزية حديثة التكوين، وأن شعوبها قبل الغزو التركي/ المصري عام 1821م كانت تعيش في سلطنات وممالك منفصلة سياسياً وإدارياً. فكيف استطاعت، مع حداثة تاريخ توحدها، أن تطور هذا الشعور السياسي الجمعي الذي حافظ على تماسكها رغم عبث الحكام والنخب المسيطرة بوحدتها ونقض غزل نسيحها ؟.
لم يحاول أحد فيما نعلم أن يسأل هذا السؤال ليجد له إجابة. وعلى غرار ما فعل الدكتور عبد الله ظل الجميع يحومون حول حقيقة أن الدولة تقف على حافة هاوية التفكيك. بعضهم يتنبأ بصوملتها والبعض الآخر يستبعد هذا المصير الكارثي مؤكداً استحالة حدوث ذلك، نظراً لتماسك نسيجها دون أن يشرح كيف ولماذا هو متماسك على هذا النحو الاعجازي رغم "رهافته" وحداثته التاريخية ؟!. ولم يتجاوز أحد أفق تفسير هذا الاستجماع، وهو في الأساس "نتيجة"، ليبحث فيما وراءه عن "السبب" أو العامل الأقوى تأثيراً الذي جعلها على هذا النحو (الكويس) جداً.
وإذا كانت "حالة" الثورة تصلح لتفسير هذا الاستجماع الظرفي المؤقت مثلها في ذلك مثل "جمهورية اعتصام القيادة" وهي تطبيق مصغر لشكل الدولة المخبأة في أعماق الذاكرة السياسية. فإن الحرب الدائرة الآن تكشف عن شكل آخر لرد فعل العقل الجمعي، أو الذاكرة الجمعية للشعوب السودانية.
فما الذي تقوله هذه الحرب اللعينة للذاكرة السودانية، وكيف كان رد فعل هذه الذاكرة ؟.
هذا ما سنأتي إليه لاحقاً بإذن الله.
مصادر وهوامش
(1) راجع، "النهاية (7) : تخريب ممنهج للذاكرة الجمعية"، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ: 8 May, 2023.
https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-7-%D8%AA%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%A8-%D9%85%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D9%84%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9
(2) المصدر السابق.
(3) يميز كالمان بين رأس المال الاجتماعي ورأس المال البشري بأن الأخير يتكون ويتشكل في المدارس والمعاهد والجامعات التي تعد المنتجين في مجال الاقتصاد والخدمات والإدارة والمهن ، أما الرأسمال الاجتماعي فهو رصيد متوارث من قيم وأخلاقيات ودراية تكتسب وتتناقل في محيط الأسرة والمجتمع.
- Social capital in the creation of human capital , Americanفي journal of sociology , 1988 university of Chicago press.
ويعرف كالمان رأس المال الاجتماعي بأنه "قابلية الناس أن يعملوا معا من أجل أهداف مشتركة كجماعات وتنظيمات (..) ويكون النشاط الاقتصادي أجدى وأعم نفعا إذا استند على رصيد رأس المال الاجتماعي (..ذلك) أن رأس المال البشري ليس قيمة منتجة ما لم يسنده رأس مال اجتماعي ، بمعنى انك تستطيع أن تكون الناس وتؤهلهم في مختلف ميادين المعارف والمهن والتخصصات ، ولكنهم لن يكونوا حقيقة منتجين ما لم يكن مجتمعهم قد تواطأ على قيم اجتماعية من ثقة في التعامل ، والتزام بالتعاقد ، ووجود بيئة اجتماعية تتيح تدفق المعلومات ، وأخلاقيات العمل والجد فيه وإتقانه ، وهذا كله رأسمال اجتماعي يأتي من التربية التي توفرها الأسرة ومن رصيد القيم والسلوك في المجتمع.
أما "الثقة" فهي عند فوكوياما أهم القيم المنتجة للرأسمال الاجتماعي ، وعليها يتوقف بناء الاقتصاد وحجم مؤسساته.
(4) د. عبد الله علي إبراهيم، لماذا لم يتفرق السودان أيدي سبأ: الثورة لا الدولة، موقع صحبفة سودانايل الرقمية بتاريخ، 28 April, 2023، 13 November, 2021.

izzeddin9@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء