امتحان الديمقراطية يسقط كل الرايات

 


 

 

زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن الأزمة السياسية السودانية التي مرت بها البلاد منذ تشكيل حكومة حمدوك الأولى في أغسطس عام 2019م و حتى إندلاع الحرب، هي أزمة مركبة كل يوم كانت تزداد تعقيدا، و عجزت القوى السياسية بكل تياراتها الفكرية أن تجد لها حلا.. الغريب في الأمر؛ سقطت كل الشعارات و ظل شعار " الديمقراطية" معلق في الهواء، فشلت القوى السياسية أن تنزله على الأرض. باعتبار أن الشعار لا يحتاج إلي أداة لنزوله، و لكن يحتاج إلي أجتهاد فكري يقدم مشروعا سياسيا تقبله كل القوى السياسية. و عجز القوى السياسية جعل كل مجموعة تحاول أن تنغلق على نفسها، و تبحث لها عن أدوات توصلها إلي الهدف" السلطة" دون الآخرين.. حتى عندما جاء الخارج يقدم مبادرته " رغم أن الخارج ليس ببعيد عن أجندته الخاصة" فشلت القوى السياسية أن تدير الأزمة بتصور الشعار المرفوع " الديمقراطية" و ارادت كل مجموعة أن تتمسك برؤيتها التي تجعلها تنفرد لوحدها بالسلطة في المستقبل.
أن عجز القوى السياسية لا يقف عند حدود صراعها مع بعضها البعض، و أيضا عجزها أن تحلل لكي تتعرف على الأسباب التي تعقد الأزمة في كل مرحلة من المراحل.. السؤال هل كانت القوى السياسية جميعها تنطلق من الفكر الذي من المفترض يحكم حركتها، و تحاول أن تتعرف عن دوره الحالي في حركة التطورالتاريخي و المجتمعي؟... أن العديد من الأحزاب ظلت تعيش أزمة فكر قياسا للمتغيرات التي طرأت في العالم و في مجتمعها. و كان علي قيادات الأحزاب أن تعيد النظر في فكرها و تحاول أن تقدم أجتهادات تتلاءم مع المتغيرات. و تخدم الشعار المرفوع " الديمقراطية" أن الأزمة الحالية هي أزمة الأحزاب السياسية و عجزها أن تدير الأزمة بالصورة التي تجعل هناك إنفراجة في الأزمة و ليس خدمت تعصب يبين حالة الدغمائية التي تعيشها هذه القيادات.
إذا كانت ثورة ديسمبر 2018م تؤكد فشل مشروع الحركة الإسلامية، و خاصة في مسألة الحريات و الديمقراطية و العدالة و الشفافية و غيرها، كان المتوقع من قيادات الحركة الإسلامية المرتبطة بالمؤتمر الوطني الحزب الذي كان يحكم ثلاث عقود، الاعتراف بالفشل و تقديم دراسة نقدية لفشل المشروع قبل أن يقبلوا على الصدام مع القوى الأخرى بهدف المشاركة. كانت الدراسة النقدية وحدها قد تقدم الحركة الإسلامية بصورة جديدة للشارع السياسي مرة أخرى للساحة السياسية، هذا من ناحية اليمين.. أما من ناحية اليسار؛ الأزمة كانت مركبة من حيث العجز الفكري و قلة الاجتهاد و الأصرار على أراء أحادية و محاولت فرضها على الآخرين كانت بالفعل أزمة، و يقولون هم يناضلون من أجل الديمقراطية و يرفضون توسيع قاعدة المشاركة لقوى سياسية لها قواعد اجتماعية عريضة.. أن أزمة الماركسية هي التي أطاحت بالاتحاد السوفيتي و كل الدول التي كانت تتبنى الماركسية، و أزمة الماركسية هي التي دفعت لنقدها من داخل المنتسبين لها في معهد فرانكفورت. و هي التي جعلت هبرماس يقدم " نظرية الفعل التواصلي" حيث أن الفعل التواصلي بين الناس هو الذي يؤدي إلي التفاهم و التعاون بين الناس و له أثر كبير على الثقافة و البنية الاجتماعية.. أن القيادات التي غادرت الحزب الشيوعي من خلال الحوار الذي كان مفتوحا داخل الحزب، كانت تؤكد في رؤيتها أن الديمقراطية تتطلب أن تكون الماركسية واحدة من مرجعيات الحزب و ليست المرجعية الرئيس.. لآن الماركسية و أيضا المركزية الديمقراطية لا تخدمان قضية الديمقراطية مطلقا. و الحزب الشيوعي حتى اليوم لم يبين للناس ما هي العلاقة بين الديمقراطية و الصراع الطبقي الذي يؤمن به. و أيضا ما هي العلاقة بين الثورية و الديمقراطية.. هذه هي أزمة الحزب الشيوعي التناقض بين الفكر و الشعار.. لذلك تمسك برؤية أحادية " الجذرية" و وقف مجهوده عندها. هذا يمثل اليسار الرئيس في المنظومة اليسارية. لذلك اصبح الرد على الأراء الأخرى إنهم كيزان فلول بهدف إلزام الأخر الصمت.
أن هناك قوى أشباه اليسار في الشعار العام، و تختلف في المرجعية الفكرية " القوميين العرب" بكل تفرعاتهم " بعثيين عراق أو سوريين و ناصريين" هؤلاء جميعا قد سقطت تجاربهم في الدول الرئيس حاملة الراية في قضية " الحريات و الديمقراطية" و هؤلاء جعلوا شعار " وحدة حرية اشتراكية" أو " حرية اشتراكية وحدة" شعار يؤسس عليه الفكر و لكنهم فشلوا في تقديم نظرية متكاملة حول الرباط الجدلي بين هذه المصطلحات الثلاث. و اعتمدوا على كتابات ميشيل عفلق و صلاح البيطار و منيف الرزاز و غيرهم و هي حكاوي عاطفيىة أكثر من إنها قضايا فكرية.. و في الجانب الأخر " الناصريين" حاول كل عصمت سيف الدولة و عبد الله خيري الاجتهاد بالإستلاف من الماركسية و لكنهم عجزوا على توصيل الفكرة. هؤلاء جميعا يعتقدون أن الوصول للسلطة غاية لتحقيق شعاراتهم.. لذلك كانت محاولاتهم الانقلابية عديدة. لكن الحديث الذي قاله وجدي صالح " لمنبر الحوار" غير صحيح أنهم أبعدوا الراحل " محمد على جادين من الحزب" لماذا وجدي دراج دائما أن لا يقول الحقيقة. محمد على جادين نقد مرجعية الفكر و أكد أن " الديمقراطية" أهم شيء في المعادلة السياسية و خرج جادين و معه عبد العزيز حسين الصاوي و محمد ودعاة و محمد سيد احمد عتيق و يحي الحسين و أخرين.. خروجهم لمنافحت الفكر الشمولي.. و خروجهم من الحزب باعتبار أنه لا يمثل رؤيتهم الفكرية. و صدرت كتب لكل من جادين و الصاوي عن الديمقراطية.
حزب الأمة عندما كان الإمام حيا كان يعتقد أن الحزب لا يشارك في الفترة الانتقالية.. لكن عندما ضعفت أحزاب قحت المركزي و أصبحوا قوى سياسية ذات قاعد اجتماعية ضيقة، استغل حزب الأمة الموقف في مقايضة أن يأخذ 60% من المحاصصات في مجاس الوزراء و أيضا إذا تم تشكيل المجلس التشريعي، و وجد الحزب نفسه في موقف بين السلطة و بين الديمقراطية.. قيادات الأمة الذين ذهبوا مع قحت المركزي هؤلاء من طالبي المقاعد الدستورية، و الذين عارضوا المنهج هم الذين يراهنون على الديمقراطية.. في قناعة أن قيادات حزب الأمة تأتي عبر صناديق الاقتراع و ليس على محاصصات.. أما التجمع الاتحادي هؤلاء جاءت لهم فرصة عظيمة لكي يعيدوا للحزب مجده، و يتواصلوا مع القاعدة العريضة و يديروا معها حوارات، لكن للأسف أيضا راهنوا على السلطة أن تخدمهم لبناء مؤسستهم و تعطيهم الشرعية لكي يتغلبوا على الآخرين، و أن يبعدوا الأخرين باعتبار أنهم شاركوا النظام السابق.. أما المؤتمر السوداني كان في الأول يراهن على الجماهير و إقناعها أن تتبنى رؤيته. لكن جرى وراء السلطة.. لذلك نجد أن الأزمة هي أزمة قوى سياسية عجزت أن تدير معركتها بجدارة و تحافظ على توازن القوى الذي كان من قبل في صالحها. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء