تأملات ومقترحات حول مُعضِلَة توحيد قوى الثورة

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ أن تَمَزَّق كيان أيقونة الثورة ( تجمع المهنيين )، أخذت آفاق العمل الثوري الجماعي تنخفض بشكل تزايد مع الأيام ، و تَعَقَّد مع تداخل و تزايد الحساسيات الحزبية ، و تَعَمُّق الإنكفاءات الذاتية ، و غلبة الشعور بالأنا التي تجعل الفردية، لا الجماعية ، هي المسيطرة علي مسرح الأحداث ، و الموجهة لتصرفات الأفراد و الكيانات الحزبية و المجتمعية و التنظيمات المدنية.
لقد تعمقت و توسعت الاختلافات في الساحة السياسية حتى أصبح العداء بين إخوة الأمس الثوريين أكثر و أشرس من العداء بينهم و بين أعداء الثورة من الفلول المتربصين للعودة للحكم ، و العسكر الذين ما هان عليهم الإلتزام بتسليم السلطة للمدنيين حين آن أوانه ، و الميليشيا الطامحة الطامعة ..
لقد إلتفت الكثير من الحادبين لخطورة هذا التشرذم علي الثورة و مكتسباتها، فأخذت تتزايد صيحاتهم ، منذرة و مشفقة ، و ملفتة النظر لإشكاليات تَبَاعُد قوى الثورة عن بعضها ، و عبثية الصراعات البينية لتلك القوى ، مبرزة ما قد يؤول له ذلك التشرذم و تلك الصراعات من ضياع، ليس فقط للثورة ، بل للوطن كله ككيان جيو-سياسي .
تزايدت تلك الصيحات خلال السنوات الثلاث الماضية و لكن بكل أسف لم تجد آذاناً صاغية إلى أن إشتعلت الحرب العبثية القائمة، و التي هي في طريقها لحرق الأخضر و اليابس إذا لم يتوافر عاجلاً سبيل فَعَّال لكبح جِمَاحِهَا و وقف تمددها جغرافياً و مجتمعياً.
و النظرة الموضوعية لما آل إليه الحال من سوء وخطورة ، تُبرِز حقيقةً مُرَّة و هي أن التنظيمات الحزبية و المجتمعية المدعوة للتوحد من أجل إنجاز أهداف الثورة ، هم ذات نفسهم ممزقون داخلياً ، و أثبتت الأيام فشلهم في رأب الصدوع داخلهم ، فتفرقت السبل بعضوياتهم.. فَمَن كانوا تحت مظلة حزب واحد تفرقوا لعدة أحزاب ، و مَن كانوا ضمن تنظيم مدني واحد أصبحوا يرفعون رايات مختلفة و متضادة . ليس هذا فحسب ، بل أصبح العداء لأي عضو قرر الإبتعاد بنفسه و الإستقلال ، يفوق العداء الموجه لأعداء الثورة ، و قد تغلفه أرتال من الإتهامات ، و تشيعه الظنون ، و تحيطه أشكال و ألوان من صور التخوين التي تختلط فيها الحقيقة بالتلفيق الممنهج، و الموجه، لقتل الشخصية دون مراعاة لتاريخ سبق ، و لتضحيات سلفت.
فَتَجَمُّع المهنيين ، مثلا ، قاد الثورة بحكمة و شجاعة ، و بروح قومية جعلت الجميع يقفون تحت رايته ، و يسيرون بحب و بدون تردد تحت قيادته ، و يقبلون إعلانه أو ميثاقه ، و يؤازرونه في مفاوضاته مع العسكر ، رغم إيمان الكثيرين، و علي رأسهم المرحوم علي محمود حسنين ، بأنها كان يجب أن تكون عملية تَسْلِيم و تَسَلُّم ، و ليس مشروع شراكة ما فتئ دكتور حمدوك، لحين رحيله، يعتبرها نموذجاً يُحتذى في العالم الثالث ، إلى أن دفعت الثورة و الوطن ثمنها و لا يزال يئن تحت وطأتها .
لكن رغم كل ذلك الزخم الشعبي ، و تلك المؤازرة القومية الباذخة ، وقع تجمع المهنيين في حبائل نظرة حزبية ضيقة حسبت أن فيه و في زخمه الثوري الباتع ، مكسب أرادت له أن يكون حصرياً للحزب، فحدث ما حدث من إنشقاق، أو إنشقاقات، في تجمع المهنيين حتى تلاشى ،أو كاد ، من مسرح الأحداث ، رافضاً ، بدفع حزبي منكور ، لأي محاولات صادقة لإعادة الأيقونة إلى تألقها القومي المستقل، و إلى وضعها الوطني التوحيدي الذي يطلع لعودته الحادبون علي الثورة و علي الوطن..و بالتالي لا يمكن لمتشرذم ذاتياً ،أن يلعب دوراً إيجابياً في توحيد قوى الثورة !!!

صفحة أخرى مسؤولة عن إفشال دعوات الحادبين علي توحيد قوى الثورة تتعلق بحزب الأمة القومي..
هو حزب جماهيري كبير لا شك.. و له عضوية كبيرة في كل أصقاع الوطن . و بمقياس آخر إنتخابات ، كانت له أغلبية برلمانية كبيرة لم تكن هناك أي شكوك في نزاهتها.
هذا الحزب له من الكوادر و الإمكانات الفكرية و السياسية ما يجعله محور توحيد مناسب للقوى الثورية و المجتمعية، و قد كان كذلك قبل أن تعبث به يد الخلافات الأسرية، و الطموحات الجهوية. لكنه فشل في الحفاظ علي وحدته ، و توزع إلى عدة تكوينات مستقلة كلها أخذت إسم الحزب ثم أضافت إليه كلمة أو كلمات للتمييز بين أحزاب الأمة العديدة..ليس هذا فحسب ، بل إن بعض من إنسلخوا أصبح عداءهم للحزب الأم أكبر من عدائهم لأعداء الحزب. بالإضافة إلى ذلك حتى الذين بقوا في الحزب الأصلي دخلتهم آفة الخلاف فتعطلت أجهزة الحزب ، بل اصبحت غير شرعية في نظر بعض من لا يزالوا يستظلون براية الحزب الأم.. و أصبح المراقب المحايد يرى أن الحزب يعاني تمزقاً ذاتياً بَيِّناً جعله كمؤسسة حزبية لا يستجيب بصدق لدعوات الحادبين علي وحدة قوى الثورة إذ أنه هو نفسه غير قادر ، او غير راغب في توحيد نفسه من أجل ذاته ، و من أجل الثورة و الوطن ، و غير محافظ علي الصوت الواحد الذي اشتهر به قبل أن تضربه العواصف الداخلية التي أعجزته ، و حالت بينه و بين أدوار قومية توحيدية كان جديراً بلعبها.
من جانب آخر إفتقد الإتحاديون وحدتهم و توزعوا هم أيضاً إلى عدة أحزاب لم يشأ أو يستطع أي منها أن يستغني عن إستغلال إسم الحزب بشكل أو آخر، مع إشتراكهم جميعا في تبخيس بعضهم البعض، و في التمادي في تخوين إخوتهم السابقين ، و ترويج القصص المدعاة عن الخيانات ،و سوء السلوك ،و العمالة ،و الإرتزاق ، مع تداخل هنا و هناك عن علاقات حقيقية ،أو مدعاة، علي مستوى الطائفة و الوطن و الإقليم.. لقد تفرقوا أيدي سبأ و فشلت محاولات كثيرة للم شملهم و توحيدهم لأسباب كثيرة علي رأسها معضلة الولاء الطائفي التاريخي الذي لا يزال قائماً و إن هو ذاته دخلت الخلافات إلى عقر داره إذ أصبح الخلاف داخل الأسرة بيِّنٌ و تناقلته أجهزة الإعلام .
إذاً هنا أيضاً تَمَزُّق ذاتي لم يستطع ذووه رتقه ، فكيف لهم الإستجابة لنداءات الحادبين علي جمع الصف الوطني الكبير . و هذا التحفظ ينطبق علي المجموعات الإتحادية المنضوية تحت راية الثورة ، فما بالك بالمستظلين منهم بالعسكر و الفلول و برايات إقليمية لم تعلمها الأيام أن جيل الثورة غير !!
عقبة أخرى هي الحزب الشيوعي الذي لم يتعلم أن الوحدة قوة، و أن كل التباينات تهون أمام تحقيق مطالب الثورة، و أن حواء السودان قد أنجبت غيرهم ممن لا يقلون عنهم وطنية، و محبين بعشق للسودان ،و مدافعين بصدق عن إنسانه و ثورته . لقد تطلع الكثيرون لكي يتخلص الحزب من نظرته الإستعلائية التقليدية، و من إستخفافه بالآخر لدرجة رفضه المُتَعَنِّت للقاء قوى الحرية و التغيير إلا إذا جاؤوه فرادى مذعنين..ليس هذا فحسب، بل ظل الحزب يتخذ مواقف عدائية ضد أي مبادرة إذا كان أحد دعاتها أو مؤيديها ممن تركوا الحزب بإرادتهم ،أو أبعدهم الحزب لظروف تخصه أو تخصهم.
ليس هذا وحده أعاق جهود الحادبين علي توحيد قوى الثورة ، بل يضاف إليه لعب الحزب بشكل مباشر أو غير مباشر دوراً أساسياً في عرقلة تكوين تنظيم قومي ذي هيكلة رأسية يجتمع تحت رايته شباب المقاومة ، مما اضعف المقاومة الشبابية و أبقاها متشرذمة، وبكل أسف عاجزة عن لعب دور سياسي مستقل كان كفيلاً بضبط عجلة الثورة ، و تفادي ما أصاب البلاد و الثورة من إنتكاسات.. و الأسوأ من ذلك، أن إبقاء قوى المقاومة الشبابية غير مُوَحَّدة جعلها غير مؤهلة لتوحيد الآخرين . لهذا ظلت تكوينات المقاومة الرئيسية واقعة تحت ضغوط أقعدتها عن الإستجابة لنداءات توحيد قوى الثورة لأنهم هم أنفسهم غير مُوَحَّدين ، و يعانون من إلتزامات تحتية جعلتهم لا يستجيبون لصرخات توحيد قوى الثورة، و أنَّى لتلك الصرخات و النداءات أن تجد سبيلاً للتنفيذ تحت تلك الظروف ..
و مجموعة أخرى في الساحة السياسية تعتبر مجازاً من قوى الثورة، عَوَّقَت أو أفشلت محاولات توحيد قوى الثورة.. إنهم عبدة إتفاقية جوبا الكارثية..
فهؤلاء يبدو أنهم يحبون العسكر الذين هزموهم في السهول و الوديان ، و لا يثقون في المدنيين الذين يعرفون أن لهم تحفظات علي إتفاقية جوبا و ينادون بإخضاعها للتقييم و التقويم..لذلك فإن تفكير مجموعة جوبا موجه كلياً للإبقاء علي الإتفاقية كما هي عبر ضمانات العسكر ، و يؤمنون أنه ليس في مصلحتهم توافق المدنيين الذي يقود لحكم مدني كامل الدسم ، و لهذا فهم يتهربون من مساندة أي محاولة تستهدف توحيد قوى الثورة المدنية ، و يسعدهم كل فعل يعرقل وحدة قوى الثورة . لهذا لم تجد دعوات توحيد قوى الثورة آذاناً صاغية لديهم ،بل ظلوا يعملون بِجِدٍ لِدَقِّ إسفين بين قوى الثورة المدنية حتى لا تلتئم و لا تتحرك بالثورة إلى الأمام.
أما مجموعات البعثيين فإنهم لا يقلون تعويقاً للوحدة عن الآخرين ، لإنقساماتهم الداخلية أولاً، و لما أحدثته بعض فصائلهم من إنسحابات غير منطقية في أوقات حرجة ، و من حقيقة تَوَزُّعِهِم تحت عدة رايات بعثية يفلسفونها و إن تبدو للمراقب المحايد أنها لا ترقى لإحداث ما حدث من شروخ في عضد الثورة ، و ما يقف حائلاً دون إسترجاع مظلة ثورية واحدة ينتظم تحتها الجميع لتحقيق مدنية الحكم و إنهاء حكم العسكر.
كل ذلك و غيره من مشكلات السياسة السودانية ، أسهم في تعطيل توحيد قوى الثورة، و بالتالي أدى إلى ما شهدته و لاتزال تشهده الثورة و البلاد من تعطيل و إنتكاسات ما كانت ستحدث إذا بقيت قوى الثورة مُوَحَّدة ، و بقيت أيقونتها محوراً للم شمل الثوار ، و إذا بقيت التكوينات الحزبية و المجتمعية بعيدة عن ما أصابها من تشظي و عداءات. لكن ، هل يعني هذا البؤس ،المرئي و المُعَاش ، إستحالة توحيد قوى الثورة ، و بالتالي إستحالة الوصول إلى تحقيق أهداف الثورة بعد كل ما سُفِك فيها من دماء ، و ما فُقِد من أجلها من شهداء ؟
كلا ثم كلا.. و لا يجوز أن يجد اليأس سبيلاً لنفوس أهل السودان عموماً، و الثوار خصوصاً.
إن في الساحة اليوم جهات مدنية ذات مصداقية ، و معرفة ، و توجهات قومية، يمكنها، و بل ندعوها، لتتلقف القفاز و تتصدى لهذه المهمة التاريخية العاجلة . أتحدث هنا عن مجموعتي ( الآلية الوطنية و إعلان المبادئ ) إنهم في ظني الأنسب لتَقَدُّم الصفوف، مجتمعين، في الوقت الحرج الحاضر، ليتَصَدَروا المشهد القيادي القومي، مؤهلين بما يضمان من عضوية ذات خبرات واسعة ، و ما نشرا من أدبيات و رؤى سياسية و نهضوية .. كذلك فإن ما يبدو من جهتهم من إعتدال يجعلهم مؤهلين لتكوين مظلة قومية تحتضن كل قوى الثورة ، يميناً و يساراً و وسطاً ، للقفز إلى الأمام ، دون حساسيات سياسية ، أو معوقات نفسية و تاريخية ، و دون أطماع ذاتية.
إن الدور المقترح لهذه المجموعة الثنائية المستقلة حتماً لن تستطيع أن تقوم به اللجنة المركزية لقوى الحرية و التغيير، كما لن يستطيع الجذريون، القيام بهذه المهمة التوفيقية القومية في الوقت الحاضر لأسباب عملية تتعلق بمحدودية عضوية كليهما ، من ناحية ، و لأسباب عملية تتعلق بحساسيات سياسية و بسجل حافل من التراشقات الإعلامية ، و من عدم ثقة طال عهده و يجب أن يزول إكراماً للمواطن المغلوب علي أمره ، و إدراكاً للمخاطر التي تحيط بالوطن و تكاد تضيع بسببها معالم و آفاق ثورة ديسمبر العظيمة .
إن للتنظيمين اللذين أرشحهما لهذه المهمة الثورية الوطنية ، و أنا لا أنتمي لأي منهما ، و هما، "مجموعة إعلان المبادئ " بقيادة السفير نور الدين ساتي ، و "مجموعة الآلية الوطنية " بقيادة البروفيسور منتصر إبراهيم ، يسهل توحيدهما لما بين التنظيمين من تقارب، أو تماثل، في الرؤى، و بالتالي يسهل عليهما تقديم و ثيقة مشتركة بمثابة ميثاق يتوافق عليه الجميع كأساس لوحدة قوى الثورة ، يعود الجميع للتقدم متحدين تحت رايته، ككتلة ثورية موحدة ذات رؤى قومية مشتركة ،و مؤهلة لاستلام السلطة بإسم الشعب، و من أجل الشعب.. و يتم بعدئذٍ التوافق علي حكومة إنتقالية رشيقة ذات برنامج عملي مبني علي ضوء الخطوط العامة للمبادئ المتفق عليها لتقود البلاد لفترة إنتقالية و إنتخابات برلمانية، أو رئاسية ، حسب ما يُتَّفَق عليه، تحت راية قوى الثورة المُوَحَّدة، بعد تهيئة مناسبة للظروف .و كإقتراح تسهيلي يمكن التوافق علي تعديلات محددة في دستور ٢٠٠٥ م ليحكم الفترة الإنتقالية، كما أقترح الإبتعاد عن محاولة إعادة تدوير دكتور عبدالله حمدوك لنبدأ حِقبة جديدة بفاعلين جُدُد ، و برؤى متجددة بعون الله و وحدة قوى الثورة.
عموماً أظن أننا نحتاج شيئاً من هذا القبيل ليعود للثورة ألقها قبل أن يتمزق الوطن أمام أعين الجميع .
و الله و الوطن من وراء القصد.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
10 سبتمبر 2023 م
mahdieltom23@gmail.com

 

آراء